البحث

عبارات مقترحة:

السيد

كلمة (السيد) في اللغة صيغة مبالغة من السيادة أو السُّؤْدَد،...

الغفور

كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...

المؤخر

كلمة (المؤخِّر) في اللغة اسم فاعل من التأخير، وهو نقيض التقديم،...

أثر الإسلام في تحويل الاهتمامات وتغيير العقليات

العربية

المؤلف هشام عبد القادر آل عقدة
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التاريخ وتقويم البلدان - السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. نبذة عن أحوال العرب قبل الإسلام .
  2. كيف حول الإسلام اهتمامات العرب؟! .
  3. نظرة إلى واقع المسلمين اليوم .
  4. الابتعاد عن هدي الإسلام سبب ذلة المسلمين ومهانتهم .
  5. نقد لانشغال المسلمين بمباريات كرة القدم .
  6. تردي الأمم رهن بتردي أحوال المسلمين .

اقتباس

وفي ظلمات الجاهلية والذلة والمهانة التي خيمت على العرب أشرق النور المبين، وكانت الرسالة الرفيعة التي غيرت الموازين، وغيرت التاريخ، وغيرت النفوس، وغيرت العقول، وحولت الاهتمامات؛ الرسالة التي أتى بها محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه-، فربى بها رجالاً أفذاذًا، وصنع من الجاهلين التافهين نماذج فريدة عظيمة من البشر ..

 

 

 

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70، 71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون: حديثنا اليوم عن الأثر العظيم للإسلام في تحويل اهتمامات الناس وتغيير عقولهم من التفاهة والانحطاط إلى الحكمة والجدية والرفعة، فقد كان الناس -ومنهم العرب- يعيشون في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء؛ روى البخاري عن أبي رجاء العُطاردي قال: كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرًا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا حثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه، ثم طفنا به.

وكانوا -كأمثالهم اليوم- يقدمون القرابين والنذور لأصنام لا تعقل ويتحاكمون إليها، ويتمسحون عندها، أذلاء يطلبون قضاء الحاجات وتفريج الكربات واختيار ما فيه المصلحة لهم في أسفارهم ونكاحهم وغير ذلك... وكانت عقولهم الضيقة -كعقول كثيرين اليوم- لا تهضم أن هناك بعثًا بعد الموت، وحياة بعد هذه الحياة فيها الحساب والثواب والعقاب، وقالوا: (مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْر) [الجاثـية: 24]، وقالوا: (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا) [الإسراء: 49].

أما من جهة الأخلاق: فكانت فيهم أدران وأمراض متأصلة، وكانوا أهل فجور وفواحش، وكانت العاهرات والبغايا ينصبن رايات على الأبواب ليطلبهن من يريدهن، وربما اجتمع العشرة على المرأة كلهم يصيبها. أما الربا فكان أصلاً راسخًا. وأما شرب الخمر فكان واسع الشيوع، شديد الرسوخ فيهم، حتى شغلت جل اهتماماتهم؛ فالشعراء تتحدث عن معاقرتها والاجتماع على شربها، وشغلت جانبًا كبيرًا من شعرهم وتاريخهم وأدبهم، وكثرت أسماؤها وصفاتها في لغتهم، وكثر فيها التفصيل كثرة تدعو إلى العجب.

أما المرأة فكانت تورث كما يورث المتاع والدابة، يموت الرجل وله صبي صغير، فتُحبَس له المرأة حتى إذا كبر إن شاء نكحها وإن شاء أنكحها غيره وأخذ صداقها، وإلا ظلت مرهونة حتى تموت ويذهب بمالها. وكان من المأكولات ما هو خاص للذكور ومحرم على الإناث، وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد، وكانوا يقتلونهن ويندد بهن بقوة نادرة في بعض الأحيان، فقد يتأخر وأد الموؤودة لسفر الوالد أو لشغله، فلا يئدها إلا وقد كبرت وصارت تعقل، وقد حكيت في ذلك بكميات، وقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق.

وكانت العصبية القبلية والدموية شديدة جامحة، وكان أساسها جاهليًّا تمثله الجملة المأثورة عند العرب: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، وكان أول من قالها جندب بن عنبر في الجاهلية بمعناها الظاهري غير المعنى المراد في الحديث الشريف، فكانوا يتناصرون ظالمين أو مظلومين.

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النائبات على ما قال برهانًا

وكانت الحرب والغزو مما طبعت عليه طبيعتهم العربية، وألهمتهم إياه معيشتهم البدوية، حتى صارت الحروب والمشاجرات مسلاة لهم وملهى، فقال قائلهم:

وأحيانًا على بكر أخينا

إذ ما لم نجد إلا أخانا

فهانت عليهم الحروب وإراقة الدماء لأتفه الأسباب، حتى كانت تثيرها حادثة ليست بذات شأن ولا حظ؛ فقد وقعت الحرب بين قبيلتي بكر وتغلب ابنيْ وائل، ومكثت أربعين سنة، أريقت فيها دماء غزيرة -وهي حرب البسوس-؛ وما ذاك إلا لأن كليبًا -رئيس معد- رمى ضرع ناقة البسوس بنت منقذ، فاختلط دمها بلبنها، فقتل جساس بن مرة كليبًا، واشتبكت الحرب بين بكر وتغلب، وكان كما قال المهلهل أخو كليب: قد فني الحيان، وثكلت الأمهات، ويتم الأولاد، دموع لا ترقأ، وأجساد لا تدفن.

كذلك حرب داحس والغبراء، فما كان سببها إلا أن داحسًا فرس قيس بن زهير كان سابقًا في رهان بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر، فاعترض رجل الفرس بإيعاز من حذيفة ليشغله ففاته الخيل، وتلا ذلك قتلٌ، ثم أخذٌ بالثأر، وأسرٌ، ونزحٌ للقبائل، وقتل في ذلك ألوف من الناس.

وكان العرب بصفة عامة في جزيرتهم متفرقين يعيشون حياة شاقة، وكان القوي يبطش بالضعيف، وإن كنا لا ننكر أنه قد قامت للعرب ممالك في كل من اليمن والعراق والشام، ولكنها كممالكهم اليوم، ممالك هزيلة ضعيفة، وكان الملك العربي كعصفور في قفص ذهبي، لا يستطيع أن يخرج منه إلا بأمر يصدر من كسرى أو هرقل، فالفرس كانوا يستعينون بالعرب اللخميين المناذرة، في حين كان الرومان يستعينون بالعرب من آل جفنة الغساسنة، وإذا نشبت حرب بين الرومان والفرس كان الغساسنة يقاتلون المناذرة ويفني بعضهم بعضًا، ولا خيار لهم في ذلك، والسادة يتفرجون.

وعندما اعتذر النعمان بن المنذر ملك الحيرة ودولة المناذرة لكسرى عن الحرب لأنه لا يستطيع تنفيذ ما أمره به، غضب عظيم الفرس، ففر من غضبه ملك الحيرة رهبة وخوفًا، وطاف القبائل العربية طالبًا المنعة، فأبوا عليه خوفًا من كسرى، واضطر النعمان بن المنذر إلى الاستسلام، فأودع أهله وماله عند هانئ بن مسعود الشيباني، ثم توجه إلى كسرى ووقف ذليلاً ببابه يطلب منه أن يغفر له ذنبه، فما كان من طاغوت الفرس إلا أن قيده وسجنه حتى مات، ثم استعمل مكانه إياس بن قبيصة الطائي عاملاً له على الحيرة.

أما شبه الجزيرة العربية فكانت تقوم بها دويلات صغيرة ثم تنهار بعد زمن يسير؛ لأنها تفتقد مقومات الدولة، ولو كان في هذه البلاد نفع لما تردد الفرس أو الرومان في احتلالها والسيطرة عليها. ومما يصور عجز العرب وتفاهتهم وضعفهم عند الأمم مقالة عبد المطلب لأبرهة لما أتى ليهدم الكعبة المقدسة عند العرب: أما الإبل فهي لي، وأما البيت فله رب يحميه. هذه العبارة التي يسوقها الكثيرون بسطحية على أنها من عظمة عبد المطلب ولا يتأملون ما وراءها من تخاذل وضعف ومهانة، ولتتصور الأمة أن الكفرة أرادوا هدم الكعبة، فتركهم حكام المسلمين وقالوا لهم: للبيت رب يحميه، فهل يقول عاقل: إن هذا موقف قوة وعظمة، أم يجزم بأنه أقوى دلالة على الضعف والذل والمهانة؟!

وفي ظلمات الجاهلية والذلة والمهانة التي خيمت على العرب أشرق النور المبين، وكانت الرسالة الرفيعة التي غيرت الموازين، وغيرت التاريخ، وغيرت النفوس، وغيرت العقول، وحولت الاهتمامات؛ الرسالة التي أتى بها محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه-، فربى بها رجالاً أفذاذًا، وصنع من الجاهلين التافهين نماذج فريدة عظيمة من البشر، أمثال أبي بكر وعمر وغيرهما، حتى يعجب المتأمل في ذلك التحول العظيم الذي صنعته هذه الرسالة فيمن اعتنقها.

رجل مثل عمر –رضي الله عنه- الذي كان يعيبه في الجاهلية بتلك العقلية التي تدعو لعبادة الحجر وللمشاجرات التافهة في الأسواق، ليس له ذكر ولا وزن، إذا به يتحول إلى الخليفة الراشد الوقور الورع العبقري كما وصفه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، البكَّاء من خشية الله، الذي أدب أعداء الله، وأعز الله به الدين، وكثيرون غير عمر شهد التاريخ تحولهم العجيب من اهتمامات إلى اهتمامات، ومن حياة إلى حياة.

بل تحوُّل أمة من ذلة إلى عزة، ومن تبعية إلى سيادة وقيادة، ومن ضلال إلى هداية، هذا الانعكاس الذي لم يحدثه تغير في القوى الاقتصادية ولا غيرها، ولم يمتلك العرب مالاً فغيرهم وقواهم، وإنما حولتهم العقيدة -والعقيدة وحدها- التي رباهم بها وعليها المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، فأخرج منهم رجالاً توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم، وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم، فتزعموا العالم، وعزلوا الأمم المزيفة من زعامة الإنسانية التي استغلتها وأساءت عملها، وساروا بالإنسانية سيرًا حكيمًا متزنًا عادلاً، فهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية نقية، فلا يقننون ولا يشرعون من عند أنفسهم، ولم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس، بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومات في الماضي والحاضر، ثم إنهم لم يكونوا خدمة جنس ورسل شعب ووطن يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده، وإنما قاموا ليخرجوا الناس كافة من عبادة العباد جميعًا إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وقد كان هذا التحول العظيم في العرب أفرادًا وكيانًا مثار عجب وذهول في الفرس وغيرهم، وجهلوا أو تجاهلوا أسبابه الحقيقية وهي عقيدة التوحيد.

فهذا يزجرد -قائد الفرس- يقول لسعد بن أبي وقاص: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددًا ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم، ولا تغزوكم فارس، ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عددكم كَثُرَ فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتًا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم، وجعلنا عليكم ملكًا يرفق بكم. ولكن خاب يزجرد وضل فيما قاله، فلم يحرك العرب لحرب الفرس طلب القوت، ولم يعودوا أذلاء ليجتهد يزجرد وغيره حتى يرضوا بالكسوة، وإنما خرجوا لنشر عقيدة التوحيد، وإخضاع الأمم لدين خالقها وبارئها، في عزة وعلو، ورفعة ومكانة لا تفارقهم ما داموا متمسكين بدينهم العظيم، وهذا ما حدث بالفعل.

فإنه لما انطفأ حماس المسلمين لدينهم، وتخاذلوا عنه وفرطوا فيه؛ إذا بالزمان قد استدار كهيئته يوم كان العرب قبل البعثة النبوية، أخذت الذلة تدب فيهم من جديد، وعادوا إلى التخلف عن الأمم وسادهم غيرهم وساسوهم، هذا هو التفسير الصحيح للعطب، والذي يحاول أن يعكسه المضللون في حربهم المستترة للإسلام، فيوهمون الناس أن عليهم أن يتحرروا من قيود الماضي -التي هي الدين- ليلحقوا بالأمم الكبرى بزعمهم، ويعجب المرء أن لا يشعر هؤلاء أنهم يكذبون على أنفسهم وعلى التاريخ، ألا يدرك هؤلاء متى كانت العزة للمسلمين ومتى كانت الذلة في مختلف فترات تاريخهم؟! فـ"نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله".

ولكنه الكفر بنعمة الله، وتجاهل منته العظيمة -سبحانه وتعالى- عليهم، بتزكيتهم بهذا الدين وإعزازهم به، (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [آل عمران:164]، ولكنهم تنكروا لنعمة الله، ومصير كل من يبدل نعمة الله ويتجاهلها معروف؛ فهو مصير مؤلم مزعج في الدنيا والآخرة: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) [إبراهيم: 28، 29]، (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) [النحل: 72]. سبحانك ربي هذا بهتان عظيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فحين ابتعد المسلمون عن الإسلام كان ولابد أن تعود عقولهم إلى الصغر والضيق، واهتماماتهم إلى التفاهة والحقارة، وهو شأن كل فرد وأمة بلا رسالة، فكثير من الناس اليوم يعيشون في تطلعات واهتمامات تافهة، لا تعدو اهتماماتهم في مصوغاتها اهتمامات الأطفال الذين يجمعون طوابع البريد، أو يجمعون أغطية أو سدادات زجاجات المياه الغازية، فضلاً عما في اهتمامات الكبار من خبث ومعاصٍ تتنزه عنها اهتمامات الأطفال، وأصبح هناك تفاهات عالمية يلتقي عليها العالم، كمسابقات ملكات الجمال، وبيوت الأزياء، وغير ذلك.

وعالمية هذه التفاهات هي التي تصور للبعض هنا وهناك أنهم يصنعون أشياء عظيمة أو يقومون ببطولات، ولا أدل على ذلك عندهم من أن أسلوب حياتهم وتطلعاتهم موافقة لما عليه غيرهم في مختلف دول العالم، بل هي موضع اهتمام كل البشر في نظرهم، وبعض هذه التفاهات التي ينمو الاهتمام بها كلما ابتعد القوم عن الحياة لرسالة ربهم، أقول: بعض هذه التفاهات -نظرًا لثقلها الشديد وضغطها على المجتمع- انتقلت إلى كثير من الطيبين، حتى من شباب الدعوة والمنتسبين لها.

ومن أمثلة ذلك الاهتمام بمباريات الكرة بطريقة لا تناسب مع ادعاء الحياة للدعوة والإسلام، والانشغال الذهني والعقلي والنفسي بها، والتفكير في مصير بعض الأندية في الدوري أو الكأس، والاهتمام بحساب ما لكل نادٍ وما عليه من النقاط، والموالاة القلبية التي تنمو تجاه بعض اللاعبين -أو الأبطال كما يسمونهم- بغض النظر عن صلاحية موالاة بعضهم من الناحية الشرعية أو عدمها، فجاذبية المباريات والاهتمام بها والتعلق ببعض اللاعبين ينسيهم ذلك.

ثم تسمع التنازلات التي تخفي وراءها السطحية المنتشرة في أوساط المسلمين، التنازلات التي تدل على أن قطاعًا كبيرًا من المسلمين الطيبين لم يدركوا قضيتهم بعد، ولم يعيشوا لها، وهي التنازلات حول حكم مشاهدة مباريات كرة القدم: هل ذلك حلال أم حرام؟! وهو سؤال إن أتى من رجل الشارع فلا بأس، أما أن يأتي من شاب يدعو أو يقول: إنه يعيش للدعوة إلى الله فهو العجب العجاب؛ لأن سؤاله يصور لك ويدلك على أنه يتصور أن القضية قضية حِل المشاهدة أو حرمتها، وإنما الأصل في أوساط الدعاة الجادين أن لا يطرأ هذا السؤال من الأساس؛ لأن حياتهم لقضية أكبر من ذلك، واهتمامات أرفع وأجل من ذلك، بحيث لا يبقى لهم صبر على إهلاك الأوقات في توافه الأمور، أو الانشغال بها وإن كانت مباحة. وهذا مجرد مثال.

والاهتمامات التافهة في أوساطنا كثيرة، بل هي الأصل، وقل أن تجد من يحيا فعلاً للقضية الكبرى التي من أجلها ابتعث الله هذه الأمة. ونحن لا نقصد من ذكر هذا المثال أن نقول للناس: لا تشاهدوا تلك المباريات، ثم نتركهم بعد ذلك ينظر بعضهم إلى بعض ولا يصنعون شيئًا، وإنما المراد من سوق ذلك المثال أن نذكر أن الناس لا يزالون في حاجة إلى إدراك الاهتمامات التي يجب أن يتجهوا إليها ويعيشوا لها، هذا الإدراك الذي إن وُجد فهو الكفيل بتغطية أوقاتهم وتحركاتهم وتطلعاتهم لتكون كلها جادة بناءة، دون حاجة لطرح مسألة الحكم في الانشغال بمثل هذه الأمور، أو التنبيه على عدم الانشغال.

أما أن يظل حال المسلمين على ما هو عليه من الاضمحلال الفكري، والخواء العقلي، وحقارة الآمال والتطلعات، من فيديو إلى لعب إلى غناء إلى انشغال في تحصيل وسائل الترف، والجري وراء بعض الماديات التي يسمونها السعادة تارة والمستقبل تارة أخرى، فلن ينتصر بهم دين، ولن تقوم لهم قائمة، ويكفي عليهم وصف علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال.

فأين اهتمامات الناس اليوم من اهتمامات رجال المسلمين الأوائل؟! بل أين اهتماماتهم من اهتمامات نساء المسلمين وصبيانهم، الذين تلقوا جيش خالد بن الوليد بعد رجوعه من غزوة مؤتة ونجاة خالد بثلاثة آلاف من المسلمين من مائة ألف من الروم وانحيازه بهم إلى المدينة؟! تلقاهم النساء والصبيان يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرار، أفررتم في سبيل الله. ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى".

ويعنينا هنا ذلك الموقف منهم في تلقي الجيش بهذا الاستقبال، وما فيه من دلالات على رفعة اهتماماتهم في الحياء، وإدراكهم أن اهتمامهم الذي يحيون له هو إعلاء كلمة الله، وأن ذلك أغلى وأعز من الأزواج والآباء.

فلما تخلى المسلمون عن اهتماماتهم الكبيرة، كان ولا بد أن ينحط العالم بانحطاطهم، ويخسر بذلك خسارة فادحة، وتنمو وتترعرع الاهتمامات التافهة، إذًا أين للعالم بالاهتمامات الرفيعة وأصحاب الاهتمامات الرفيعة قد ناموا وتخاذلوا، وفقدوا ميزتهم وعملهم الذي ابتعثهم الله من أجله.

ويذكر لنا الله -عز وجل- في كتابه ذلك فيقول: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110]، فهي لم توجد لنفسها فحسب، وإنما أخرجت للناس لترفعهم من وهدة الانحطاط والذل إلى قمة العزة والسعادة، وتطهرهم من الوحل والقذارة بنور الوحي والهداية، تلك المهمة الكبيرة الرفيعة التي عبر عنها ربعي بن عامر مخاطبًا قائد الفرس بقوله: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

هذه المهمة التي لا ينبغي أن تشغلنا عنها الشواغل، ولا نلتفت لشيء سواها إلا ما تشتد إليه حاجتنا، وذلك هو التطبيق العملي لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، أي ولا يشتد به اهتمامه من قول أو فعل، ويقتصر على ما يعنيه. وهذه العناية -كما يقول ابن رجب- ليست بحكم الهوى وطلب النفس، بل بحكم الشرع والإسلام.

فالمسلم الصادق الجاد يجب عليه أن يعاف كل ما لا يؤثر في تقدم دعوته، وأن يهتم بالمهمة الملقاة على عاتق هذه الأمة التي أخرجت للناس لتطهرها وتزكيها برسالة الله، وتعالجها من أمراضها المزمنة الخبيثة، وهذا العلاج لن يتم بالطرق السطحية التي يتخذها البعض، مثل أسباب الفساد والمفسدين في المجالس والخطب، ثم الحوقلة، ثم انطلاق كل إلى دنياه واهتماماته الخاصة بعد ذلك.

ولن يتم العلاج المطلوب ببعض الانفعالات العاطفية والخطب العنترية وردود الأفعال المبعثرة، والاستجابة اليوم لاستفزاز هنا وغدًا لاستفزاز هناك، ثم لا منهج متميز للدعوة ولا حظ ثابت، ولا طريق مفهوم، ولا نجاح ولا استمرار، ولا إدراك لطبيعة الدعوة وطبيعة الواقع.

وإن المتأمل في تاريخ هذه الدعوة يجد تميزها بخطوات ومناهج مميزة ثابتة لا تخضع لردود الأفعال، ويدل على ذلك تلك الفترة المتميزة التي قضاها المسلمون في مكة قبل الهجرة، ويلاحظ فيها الخط الثابت لأصحاب الدعوة، وكان الهدف الواضح حينذاك هو القصد إلى تحقيق هدف معين مع الصبر ودون استعداد للانشغال عنه باستفزاز من هنا أو هناك، ولم يكن ليؤذن لهم أن يواجهوا يومئذ البطش بالبطش، ولا الأذى بالأذى، ولم تكن نفوسهم تلك النفوس التي ترضى بأن تتحمل ضيمًا، ولكنها التربية التي لابد منها، والخطوات الأولى الطويلة التي لا يمكن تعديها، والتي لابد أن يفشل كل عمل بدونها، التربية الحكيمة الكاملة، الطاعة لله ولرسوله والضبط والإحكام، فقد قيل لهم: (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) [النساء: 77]، فكفوا أيديهم، وأخذوا يروضون أنفسهم على الصبر والأناة، واحتمال جهل الجاهلين وبغي الطاغين، ولم يكن المؤمنون ذاك اليوم في ذل ولا استخذاء ولا يأس ولا وهن، ولكنهم كانوا يحتملون الأذى والموت في سبيل الله، وعيونهم قريرة، وقلوبهم مطمئنة إلى نصر الله تعالى، ونفوسهم مستعلية على شرك المشركين وضلالهم وفتنتهم.. ثلاثة عشر عامًا تمر في تربية الضبط والإحكام، وتمهد للأعوام العشرة المدنية التي تلتها، والتي تم فيها فتح الجزيرة العربية، وهذه تمهد للأعوام التي تلتها، والتي امتد فيها الإسلام إلى أقصى المشرق وأقصى المغرب.

وإن المتأمل في سيرته -صلى الله عليه وسلم- ليدرك أن المواجهة لم تكن مقصودة لذاتها، وإنما مقصد الدعوة الأولى تفهيم الناس الدعوة وإدخالهم فيها، ولذلك كانت الهجرة إلى المدينة حيث المدينة الأكثر ترحابًا للدعوة وعدم الإصرار على البقاء في مكة مع قوم شديدي العدوان للدعوة وحاملها.

وفي عمرة الحديبية لما خرج -صلى الله عليه وسلم- بالمسلمين بهدف محدد وهو العمرة لا الحرب، فلما كان بعسفان علم بخروج قريش في خيلهم إلى كُراع الغميم على بعد ثمانية أميال من عسفان، فلم يعاند ويصر على تكلف المرور من عندهم، بل قال لأصحابه: "مَن رجلٌ يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها"، وهذا يوضح ما ذكرناه سابقًا عن بروز المنهج الصحيح الذي يحدد هدفًا ثم لا يقبل استفزازًا أو ردود أفعال تشغل عن الهدف المحدد.

ولما كان هدفه -صلى الله عليه وسلم- العمرة لا الحرب، لم يستفزه خروج قريش عن غرضه، وبحث عن طريق آخر، ومما يدل على أن الأصل في الدعوة ارتياد الشباب والأشخاص المقبلة قبل المعرضة قوله تعالى: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) [عبس: 5-12].

إذًا فالطريق واضحة لأصحاب الدعوة، البدء بالشباب والأشخاص المقبلة، ويكون البدء بالتربية دون استفزازات وردود أفعال جانبية، ويأس المرء حينما يجد الأفكار العجيبة والاختلافات في تحديد طريق الدعوة رغم وضوح الأمر في المنهج النبوي السليم المبارك، ولكن التخطيط الذي يحظى به البعض في طريق الدعوة إنما يأتي من تقديم للأهواء على المعلوم من الشرع، للغرور والانفصال عن العلماء والاستكبار عن الاستفادة مما كتبه علماء السلف السابقين، ومما يكتبه ويفتي به علماء أهل السنة المعاصرون المشهود لهم بالعلم والأصالة والحرص على الدين، فإن اغترار الشباب والمبتدئين في طلب العلم بعقولهم واستكبارهم عن العلماء الصالحين وتسفيههم لهم هو سبب من أسباب التخبط والشذوذات في منهج الدعوة ومنهج التفقه.

نسأل الله الهداية والثبات، وأن يجمع الدعاة على المنهج الواضح الصحيح؛ حتى تخرج الأمة من تلك الغمة..

اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.