المؤمن
كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
واجعلْ مع السَّلامِ صدقةً، وتبسَّمْ في وجهِ أخيكَ، "فَتَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ"، وصافحْهُ بحرارةِ المحبوبِ، تتساقطُ الذُّنوبُ، قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا لَقِيَ الْمُؤْمِنَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَصَافَحَهُ، تَنَاثَرَتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَنَاثَرُ وَرَقُ الشَّجَرِ"، ولذلكَ لا يفترقا إلا بجزيلِ العطايا، وذهابِ الخطايا، كما جاءَ في الحديثِ: "مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا"، فسبحانَ اللهِ ربِّ العالمينَ، ما أعظمَ السَّلامَ ومصافحةَ اليَدينِ. ولا تكتفِ بالإشارةِ وإن كنتَ بعيداً، فاجعلْ مع إشارتِكَ التَّلفظَ بالسَّلامِ، وهو يردُّ عليكَ السَّلامَ ولو لم يسمع
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ مُدبِّرِ الليالي والأيامِ، ومُصرِّفِ الشُهورِ والأعوامِ، الملكِ القدوسِ السَّلامِ، المتفردِ بالعظمةِ والبقاءِ والدوامِ، يرى ما في داخلِ العروقِ وبواطنِ العظامِ، ويسمعُ خفيَّ الصوتِ ولطيفَ الكلامِ، إلهٍ رحيمٍ كثيرِ الإنعامِ، وربٍّ قديرٍ شديدِ الانتقامِ، قَدَّرَ الأمورَ فأجراها على أحسنِ نظامٍ، بقدرتِه تهبُّ الرياحُ ويَسيرُ الغمامُ، وبحكمتِه ورحمتِه تَتعاقبُ الليالي والأيامُ، أحمدُه على جليلِ الصفاتِ وجميلِ الإنعامِ، وأشكرُه شكرَ من طلبَ المزيدِ ودامَ.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ الذي لا تُحيط به العقولُ والأحلامُ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه أفضلَ الأنامِ، صلى اللهُ عليه وعلى صاحبِه أبي بكرٍ السابقِ إلى الإسلامِ، وعلى عمرَ الذي إذا رآهُ الشيطانُ هامَ، وعلى عثمانَ الذي جَهَّزَ بمالِه جيشَ العُسرةِ وأقامَ، وعلى عليِّ الشُّجاعِ الأسدِ الضِّرغامِ، وعلى سائرِ آلِه وأصحابِه والتابعينَ لهم بإحسانٍ على الدوامِ، وسلمَ تسليمًا كثيرًا .. أما بعدُ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، عَطَسَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِهِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا آدَمُ، اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ -إِلَى مَلَإٍ مِنْهُمْ جُلُوسٍ–، فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، قَالُوا وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ بَنِيكَ بَيْنَهُمْ ..".
فكانَ أولُّ كلمةٍ نطقَ بها آدمُ عليه السَّلامُ هي "الحمدُ للهِ"، وأولُّ كلمةٍ علمَّه ربُّه هي "السَّلامُ عليكم"، فخاطبَ بها الملائكةَ الزَّكيَّةَ، فردُّوا عليه التَّحيَّةَ، وقالَ له اللهُ سبحانَه وتعالى: "إِنَّ هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ بَنِيكَ بَيْنَهُمْ".
فهيَّ تحيَّةُ أهلِّ الإسلامِ، هي اسمٌ من أسماءِ اللهِ السَّلامُ، هي تحيَّةُ الأنبياءِ والملائكةِ الكِرامِ، هي الطَّريقُ الأسهلُ إلى دارِ السَّلامِ .. فلا جنَّةَ إلا بإيمانٍ، ولا إيمانَ إلا بمحبةٍ، ولا محبةَ إلا بسَلامٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟، أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ"، والمحبةِ بينَ النَّاسِ في الدَّارِ الفانيَّةِ، هي من نعيمِ الجنَّةِ في الدَّارِ الباقيَّةِ، قالَ عزَّ وجلَّ: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) [الحجر: 47]، فنُزعَ الغِلُّ، وقَويتِ الأُخوَّةُ، وانتشرتْ المحبةُ، فكَمُلَ النَّعيمُ.
فأفشوا السَّلامَ، وانشروا الوِئامَ، وكونوا عبادَ اللهِ إخواناً، ودعونا نذوقُ شيئاً من طعمِ الجنَّةِ في الدُّنيا، قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمَه اللهُ: إنَّ في الدُّنيا جَنةٌ، منْ لمْ يدخلْها، لا يدخلُ جنةَ الآخرةِ.
ولذلكَ كانَ أولُ ما دعى إليه رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ عندما وصلَ إلى المدينةِ، هو إفشاءَ السَّلامِ، يقولُ عبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ -رضيَ اللهُ عنه-: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ، وَقِيلَ: قد قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، فجِئْتُ في النَّاسِ لأَنْظرَ، فلمَّا تَبيَّنْتُ وجْهَهُ عرَفتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فكان أوَّلُ شيْءٍ سمعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! أَفْشُوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ".
فجعلَ إفشاءَ السَّلامِ قبلَ إطعامِ الطَّعامِ وصلةِ الأرحامِ وصلاةِ القِيامِ، لأنَّه لا يوجدُ مجتمعٌ مؤمنٌ بلا محبةَ ولا تماسكَ ولا تكافلَ ولا إخاءَ ولا إيثارَ ولا وصلَ ولا ترابطَ ولا تعاونَ ولا رحمةَ ولا مودةَ ولا إلفةَ، والسَّلامُ هو الطريقُ السهلُ لكلِّ هذا، "وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟، أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ".
أفشوا السَّلامَ قبلَ أن يأتي ذلكَ اليومُ الذي لا يكونُ فيه السَّلامُ إلا للمعرفةِ، قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ تَسْلِيمُ الْخَاصَّةِ"، وهو أَنْ لَا يُسَلِّمَ الرَّجلُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَعْرِفُهُ، ولا تسلْ عن تنافرِ القلوبِ في ذلكَ اليومِ.
أيُّها المسلمُ.. ماذا لو سألكَ أحدُهم: أيُّ الإسلامِ خيرٌ؟، فماذا ستكونُ إجابتُكَ؟، الإيمانُ، الصَّلاةُ، الصِّيامُ، الجِهادُ، الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المنكرِ .. اسمعْ إلى إجابةِ حبيبِكَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟، قَالَ: "تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ".
فلا إلهَ إلا اللهُ، السَّلامُ من أفضلِ شعائرِ الإسلامِ، لأنَّه شعارُ التَّواضعِ والحبِّ بينَ أفرادِ الأمَّةِ، الغنيُّ والفقيرُ، والعربيُّ والأعجميُّ، والكبيرُ والصَّغيرُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وأنتَ ترى أثرَ السَّلامِ ظاهراً إذا سلمتَ على طِفلٍ صغيرٍ، وعلى عَاملٍ فَقيرٍ، كيفَ يفرحونَ به أشدُّ من فرحِهم بالمالِ، بل ينظرونَ إليكَ أحياناً نظرَ تعجُّبٍ، لقلِّةِ من يُسلِّمُ عليهم، وصدقَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ".
عَن الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فَيَغْدُو مَعَهُ إِلَى السُّوقِ، قَالَ: فَإِذَا غَدَوْنَا إِلَى السُّوقِ لَمْ يَمُرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى سقَّاط وَلَا صَاحِبِ بِيعَةٍ وَلَا مِسْكِينٍ وَلَا أَحَدٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، قَالَ الطُّفَيْلُ: فَجِئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْمًا فَاسْتَتْبَعَنِي إِلَى السُّوقِ، فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا تَصْنَعُ فِي السُّوقِ، وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيِّعِ، وَلَا تَسْأَلُ عَنْ السِّلَعِ، وَلَا تَسُومُ بِهَا، وَلَا تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوقِ؟، اجْلِسْ بِنَا هَاهُنَا نَتَحَدَّثُ، قَالَ: فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: "إِنَّمَا نَغْدُو مِنْ أَجْلِ السَّلَامِ، نُسَلِّمُ عَلَى مَنْ لَقِيَنَا".
عرفَ الصَّحابةُ أثرَ إفشاءَ السَّلامِ في المجتمعاتِ، وعلموا ما فيه من الأجورِ والحسناتِ، فلم يسبقهم أحدٌ إلى الباقياتِ الصَّالحاتِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، كُتِبَتْ لَهُ عِشْرُونَ حَسَنَةً، وَمَنْ قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، كُتِبَتْ لَهُ ثَلَاثُونَ حَسَنَةً".
وهو حقٌّ واجبٌ لأخيكَ المسلمِ، قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ"، ومنها: "إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ"، قل له: السَّلامُ عليكم، وإياكَ أن تستبدلَها بغيرِها، وإنكَ لتأسفُ على من يلقى أخاهُ فيحييه بغيرِ تحيَّةِ الإسلامِ، فيكونُ قد منعَه حقَّهُ الذي كتبَه اللهُ له، واستبدلَ الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ، وعلى من سُلِّمَ عليه أن يردَّ بمثلِها أو أحسنَ منها، كما قالَ تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) [النساء: 86].
وحيثُ أن اليهودَ لا يريدونَ الخيرَ لأهلِ الإسلامِ، ولا يحبُّونَ لهم الاجتماعَ والألفةَ والمحبةَ، كما وصفَهم الله تعالى: (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)، كان أمرُ السَّلامِ عليهم أمراً جسيماً، فهم لا يريدونَ مجتمعاً مُسلماً حَميماً، فحسدوا المسلمينَ عليه حسداً عظيماً، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا حَسَدَكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ، مَا حَسَدُوكُمْ عَلَى السَّلَامِ وَالتَّأْمِينِ".
واجعلْ مع السَّلامِ صدقةً، وتبسَّمْ في وجهِ أخيكَ، "فَتَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ"، وصافحْهُ بحرارةِ المحبوبِ، تتساقطُ الذُّنوبُ، قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا لَقِيَ الْمُؤْمِنَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَصَافَحَهُ، تَنَاثَرَتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَنَاثَرُ وَرَقُ الشَّجَرِ"، ولذلكَ لا يفترقا إلا بجزيلِ العطايا، وذهابِ الخطايا، كما جاءَ في الحديثِ: "مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا"، فسبحانَ اللهِ ربِّ العالمينَ، ما أعظمَ السَّلامَ ومصافحةَ اليَدينِ.
أَفْشِ السَّلامَ وَلاَ تَبْطَرْ وَبُشَّ لِمَنْ | تَلْقَاهُ لاَ تَمْشِ بِالوَجْهِ الَّذِيْ شُحِبَا |
ولا تكتفِ بالإشارةِ وإن كنتَ بعيداً، فاجعلْ مع إشارتِكَ التَّلفظَ بالسَّلامِ، وهو يردُّ عليكَ السَّلامَ ولو لم يسمعْ، كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "لاَ تُسَلِّمُوا تَسْلِيمَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَهُمْ بِالأَكُفِّ وَالرُّؤوسِ وَالإِشَارَةِ".
اللهم طهِّرْ قلوبَنا، واجعلنا ممن يأتيك يومَ القيامةِ بقلبٍ سليمٍ، واغفرْ لنا ولإخوانِنا الذين سبقونا بالإيمانِ، ولا تجعل في قلوبِنا غلاً للذين آمنوا إنك رؤوفٌ رحيمٌ، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
إن الحمدَ للهِ تعالى، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، وسيئاتِ أعمالِنا، من يهدِ اللهُ تعالى فلا مضلَ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له؛ وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، وبعدُ:
أيها الأخُ المُباركُ.. لا تكنْ أبخلَ النَّاسِ، فَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ الله عَنْهُ-، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: إِنَّ لِفُلَانٍ فِي حَائِطِي عَذْقًا، وَإِنَّهُ قَدْ آذَانِي وَشَقَّ عَلَيَّ مَكَانُ عَذْقِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "بِعْنِي عَذْقَكَ الَّذِي فِي حَائِطِ فُلَانٍ"، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَهَبْهُ لِي"، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَبِعْنِيهِ بِعَذْقٍ فِي الْجَنَّةِ"، قَالَ: لَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا رَأَيْتُ الَّذِي هُوَ أَبْخَلُ مِنْكَ إِلَّا الَّذِي يَبْخَلُ بِالسَّلَامِ".
فسلِّمْ إذا دخلتْ، وسلِّمْ إذا خرجتَ، كما جاءَ في الحديثِ: "إذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ، فَلَيْسَتِ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الْآخِرَةِ"، وارفعْ بها صوتَك، وأسمعْ بها غيرَكَ، كما قالَ ابنُ عمرَ -رضيَ اللهُ عنهما-: "إِذَا سَلَّمْتَ فَأَسْمِعْ، فَإِنَّهَا تَحِيَّةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مباركةٌ طيبةٌ".
هي التَّحيةُ التي يستقبلُ بها الملائكةُ أهلَ الجنَّةِ: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر: 73]، وهي تحيَّةُ أهلِ الجنةِ بينهم: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [يونس: 10].
وأما أعظمُ سلامٍ، وأكملُ سلامٍ، وأجملُ سلامٍ، حينما يجتمعُ أهلُ الجنَّةِ بالوادي الأفيَّحِ الذي جُعلَ لهم موعداً، حتى إذا استقرتْ بهم مجالُسهم واطمأنت بهم أماكنُهم، نادى المنادي: يا أهلَ الجنةِ إن لكم عندَ اللهِ موعداً يُريدُ أن يُنجِزْكمُوه، فيقولونَ: ما هو؟، ألم يُبيِّضْ وجوهَنا، ويُثقِّلْ موازينَنا، ويدخلْنا الجنةَ، ويزحزحْنا عن النَّارِ؟، فبينما هم كذلِك إذ سطعَ لهم نورٌ أشرقتْ له الجنةُ، فرفعوا رءوسَهم، فإذا الجبارُ جلَّ جلالُه وتقدَّستْ أسماؤه، قد أشرفَ عليهم من فوقِهم، وقالَ: يا أهلَ الجنةِ سلامٌ عليكم، فلا تُردُّ هذه التحيةُ بأحسنَ من قولِهم: اللهمَّ أنتَ السلامُ، ومنكَ السَّلامُ، تباركتَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ .. (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيمًا) [الأحزاب: 44].
اللهم إنا نسألُك لذَّةَ النظرِ إلى وجهِكَ،والشوْقَ إلى لقائِكَ في غيرِ ضراءَ مُضِرَّةٍ ،ولا فتنةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُلُوبِنَا، وَأَزْوَاجِنَا، وَذُرِّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمِكَ مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ، قَابِلِينَ لَهَا، وَأَتِمِمْهَا عَلَيْنَا، بِرَحْمَتِكَ يا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ.