القوي
كلمة (قوي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من القرب، وهو خلاف...
العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
دخل سليمان بن يسار على الخليفة هشام بن عبد الملك، فقال الخليفة: يا سليمان، من الذي تولى كبر الإفك؟ فقال: عبد الله بن أبي بن سلول. فقال: كذبت، هو عليّ, فسكت سليمان. ثم دخل بعد ابن شهاب الزهري، فسأله هشام، فقال: هو عبد الله بن أبي, قال: كذبت، هو علي, فانتفض الزهري وتغير لونه، وقال: "أنا أكذب لا أبا لك! فو الله الذي لا إله غيره لو نادى منادٍ من السماء: إن الله أحل الكذب ما كذبت"، فما زال الأمير يجلّه بعد ذلك الكلام...
الخطبة الأولى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
في السير أن سليمان بن يسار دخل على الخليفة هشام بن عبد الملك، فقال الخليفة: يا سليمان، من الذي تولى كبر الإفك؟ فقال: عبد الله بن أبي بن سلول. فقال: كذبت، هو عليّ, فسكت سليمان.
ثم دخل بعد ابن شهاب الزهري، فسأله هشام، فقال: هو عبد الله بن أبي, قال: كذبت، هو علي, فانتفض الزهري وتغير لونه، وقال: "أنا أكذب لا أبا لك! فو الله الذي لا إله غيره لو نادى منادٍ من السماء: إن الله أحل الكذب ما كذبت"، فما زال الأمير يجلّه بعد ذلك الكلام. (سير أعلام النبلاء: 5/339).
تلكم الخصلة ما أحسنها! وذلكم الخلق ما أروعه! من تحلى به نجا, ومن اتصف بخلافه هلك, الصدق أيها الفضلاء خُلق الكرام, وخلة أكد عليها الإسلام, بالصدق تميز أهل النفاق من أهل الإيمان, من صال به لم تردّ صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال ومحكّ الأحوال.
الصدق-كما قال ابن تيمية- أساس الحسنات وجماعها، والكذب أساس السيئات ونظامها, الصادق ما يزال به صدقه حتى يوصله إلى الجنة, والكاذب ما يبرح به كذبه حتى يهديه إلى النار.
يا مسلم: ليسوا سواء, امرؤٌ كاذبٌ في أقواله فلا يحدّث لا بالكذب, إذا وعد كذب في موعده, وإذا حدّث افترى وكذب في حديثه, وإذا عاهد لم يتم عهده, وتراه في أفعاله كاذباً كما هو في أقواله, وذاك لا تراه إلا مبغوضاً من العباد ومن رب العباد.
وموفَّق كريم, وصالح نبيل, لا يعرف الكذب للسانه ولا لأفعاله طريقاً, بل الصدقُ هديه وإن كان فيه حتفه؛ لأنه يفكر في نجاة نفسه عند ربه, في الآخرة لا في الدنيا، فمثل هذا كم له من الحسنات! وكم سينال من الكرامات!
بالصدق يا كرام ينال المسلم الجنات, ويهدى للبر والخيرات, «إنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وإنّ الرّجل ليصدق حتّى يكون صدّيقًا، وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وإنّ الرّجل ليكذب حتّى يكتب عند اللّه كذّابًا» (متفق عليه).
في الصدق طمأنينة البال، وراحة النفس, وفي الحديث "إنّ الصّدق طمأنينة، والكذب ريبة" (رواه الترمذي).
بالصدق يحلّ رضوان الله، وأي أمرٍ أعظم من أن يرضى عنك الله؟! (قَالَ اللهُ هَذَا يَوْم يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [المائدة: 119].
بالصدق تحل البركة في البيع والمال، قال –صلى الله عليه وسلم-: " فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا" (رواه البخاري).
أنت بالصدق من أفضل الناس, سئل نبينا –صلى الله عليه وسلم- "أَُي النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ".
ولا يضيرك ما فاتك من الدنيا إذا كانت صادقاً, ففي الحديث، قال –صلى الله عليه وسلم: -«أربع إذا كنّ فيك فلا عليك ما فاتك في الدّنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفّة في طعمة» (رواه أحمد).
لأجل كل هذا ضرب الصالحون في الصدق مثلاً للخَلق, تجليه مواقفهم وتترجمه كلماتهم.
لما تخلّف كعب بن مالك –رضي الله عنه- ورجع النبي –صلى الله عليه وسلم- من غزوه جاء كعبٌ إليه, فسأله النبي –صلى الله عليه وسلم-: "يا كعب ما الذي خلَّفك؟", فقال: يا رسول الله! لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّى لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَىَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَىَّ فِيهِ إِنِّي لأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي عُذْرٌ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ" فقال –صلى الله عليه وسلم-: "أما هذا فقد صدق"، وبصدقه أنجاه الله وتاب عليه.
كان من السلف من يقول: "ما يسرني أني كذبت كذبة وأن لي الدنيا وما فيها".
ومنهم القائل: "والله ما كذبت كذبةً قط منذ بلغت".
وأوصى أحدهم بنيه عند موته قائلاً: "يا بني عليكم بالصدق حتى لو قَتل أحدكم قتيلاً ثم سُئِل عنه أقر به, والله ما كذبت كذبه منذ قرأت القرآن". (حلية الأولياء: 6/ 85).
وقال عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-: "عليك بالصّدق حيث تخاف أنّه يضرّك، فإنّه ينفعك، ودع الكذب حيث ترى أنّه ينفعك فإنّه يضرّ بك" (مدارج السالكين).
وقال: "لا تنظروا إلى صيام أحد ولا صلاته، ولكن انظروا إلى صدق حديثه إذا حدث، وأمانته إذا ائتمن، وورعه إذا أشفى" (حلية الأولياء: 3 / 27).
وإذا الأمور تزاوجت | فالصدق أكرمها نتاجا |
الصدق يعقد فوق رأس | حليفه بالصدق تاجا |
والصدق يقدح زِندُهُ | في كل ناحية سراجا |
وقيل للقمان الحكيم: ما بلغ بك ما ترى؟ قال: "صدق الحديث، وأداء الأمانة، وتركي ما لا يعنيني".
وأما ربعي بن حراش فإنه لم يكذب منذ علم أن الكذب حرام, ولما طلب الحجاج ولديه اختبئا, فقيل للحجاج: إن ربعياً لم يكذب فسله عن بنيه, فدعاه وقال له: ما فعل ابناك يا ربعي؟ فصدقه القول وقال: هما في البيت مختبئين, فقال الحجاج: وهبناكهما لصدقك، وعفا عن ابنيه. (سير أعلام النبلاء: 4/360).
فرحم الله أولئك القوم, صدقت ألسنتهم, وأعدوا لكلماتهم عند ربهم جواباً, قال ابن دقيق: "ما تكلمت كلمة ولا فعلت فعلاً إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله عز وجل".
معشر المسلمين: ما أجمل أن يكون الصدق رائدَنا في كل أحوالنا, فإذا تكلمت فاصدق في مقالك, واعلم أن في الصدق نجاتَك, وإن بدا لك غير ذلك, واذكر أن الصادقين لهم عند الله الشأن العظيم, وأن الله يسمع حديثك ويعلم صدقك من كذبك.
إذا سُئلت عن أحدٍ فاصدق في قولك, ولا تغشّ من سألك, فكم من طلاق وقع! وامرأة زُوِّجت لغير كُفئها! لأجل أن من سُئل عنه ما صدق في قوله, أو لأجل أن الزوج ما صدق في حقيقة أمره وألبس نفسه ثوباً ليس له فغش من تقدم إليه.
تجنب الكذب ولو لإضحاك الناس, ولا يغب عن بالك قول الرسول –صلى الله عليه وسلم-: «ويل للّذي يحدّث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له» (رواه أبو داود والترمذي).
واصدق في وعودك حين تَعِد, فالله أثنى على إسماعيل –عليه السلام- بوفائه بوعده فقال: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) [مريم: 54]، فما بال البعض يعد ولا يفي بما وعد؟! وتلك خصلة من النفاق "إذا وعد أخلف".
وكن على حذر من الكذب في الأحلام والرؤى, وأن تُرِي عينك ما لم تر, ففي الحديث عند البخاري "إن من أفرى الفرى أن يُري المرء عينيه ما لم تر".
وإذا خطّت يدك كلاماً في أي وسيلة مقروءة فلا تكذب فيما تكتب, ولعمري فما أخطر هذا الباب, يأتي ذلك الكاتب فيكتب في صحيفة, أو في صفحة تواصل أو في رسالة جوال, فيكذب فيما كتب, أو لا يتثبت فيما نقل, فيطعن في فلانٍ وفلانة, أو يتهم ذلكم الشيخ أو ذلك المسئول, ثم يطلق كذبته, فتسير بكلمته الركبان, وتقطع القارات, وتتجاوز المحيطات, وتطوف الدنيا, ويقرأها خلق كثير, وهو إنما قالها مازحاً أو كاذباً, أو غير متثبتٍ, والنبي –صلى الله عليه وسلم- أخبر أنه رأى رجلاً يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، وحين سأل عنه قيل له: "هذا الرجل يغدو من بيته ، فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق".
فرفقاً يا مسلم بنفسك وبحسناتك.
وحتى في عِداتك لأولادك تحرَّ الصدق معهم, ولئَن لا تعد أهونَ من أن تعد فتخلف, وفي الحديث عن عبد الله بن عامر –رضي الله عنه- قال "دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: «وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ»؟ فقَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا, فَقَالَ لَهَا: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ».
اصدق حديثك إنّ في | الصدق الخلاص من الدّنس |
ودع الكذوب لشأنه | خير من الكذب الخرس |
عود لسانك قول الصدق تحظ به | إن اللسان لما عودت معتاد |
الخطبة الثانية:
عباد الله: وإذا كان ما مضى من الحديث هو في الصدق في الأقوال فإن ثمة أنواعاً من الصدق أخرى يجدر ذكرها, وربما كانت أهم من الصدق في القول وآكد.
الصدق في النية, أن يتعامل العبد مع الله بالصدق, فلا يُظهِر للناس خلافَ ما يُبطِن, ويصدق مع الله في نيته الخير وطلبه له, كم من امرئ يخبر أنه يريد الخير, والدعوى يسيرة, لكنها تحتاج لبرهان, والله يوفّق للخير من صدَق في طلبه, فكن صادقاً مع الله في كل أمورك, في توبتك, في دعواتك, في أعمالك, ترى التوفيق حليفك.
وفي الحديث «أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: أهاجر معك، فكان مع رسوله الله, ولما كانت غزوة من الغزوات غنم النبي –صلى الله عليه وسلم- سبياً، فقسم، وقسم له، فقال: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا ـ وأشار إلى حلقه ـ بسهمٍ فأموتَ، فأدخلَ الجنة، فقال: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلا، ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي –صلى الله عليه وسلم- يحمل، قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي –صلى الله عليه وسلم- في جبته، ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: "اللهم هذا عبدك، خرج مهاجرًا في سبيلك، فقتل شهيدًا، أنا شهيد على ذلك».
ما أجمل أن يكون المرء صادقاً مع الله في سائر أحواله, فإذا دعا ربه صدق في سؤاله, وإذا خاف الله أو رجاه أو أحبه أو عظَّمه صدق في ذلك, فليست الأمور بالكلام, بل بالحقائق, فكلٌ يقول: إنه يحب الله لكنك حين تبحث عن الصادق في محبته لربه, الذي يترك ما عنه نهى ويفعل أمره ولو صعب لأنه يحب ربه لا تكاد تجده إلا قليلاً, فالصادق مع الله عبدٌ يرضى عن الله في أقداره, يصبر تجاه بلاءه, يعبد ربه في جلوته وخلوته, يحب ربه من قلبه.
يا مؤمن: والصدق في الأفعال مطلب من شرائف الأمور, فما الذي ينفع العبد أن يظهر الخشوع أمام الناس أو يظهر غَيرته وصلاحه وزهده وهو بخلاف ذلك, فالمؤمن الصادق هو الذي ترى سريرته كعلانيته أو أصفى, ولذا قال السلف: "إذا استوت سريرة العبد وعلانيته فذلك النصَف، وإن كانت سريرته أفضلَ من علانيته فذلك الفضل، وإن كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور".
وجماع الأمر أيها الكرام: أننا كلَنا بحاجة إلى الصدق لتستقيم أمورنا.
فالمربي والمعلم بحاجة إلى الصدق في تربيته فيسعى لتخريج نشء ينفع الله به, ويربطه بمعالي الأمور, ويربي الصغار منذ صغرهم على الصدق.
والداعية بحاجة إلى الصدق في دعوته, فلا يبغي بدعوته أمر دنيا, وتكونَ أفعاله توافق أقوالَه, ولا يقولَ إلا صدقاً ولا يتكلمَ إلا بما فيه صلاح الناس.
والمسلم يصدق في كلامه ووعوده, وأفعاله وقلبه وعهوده, فلا تنطق شفتاه بكذب وإن قلّ, وطوبى لمن رأى في صحفيته صدقاً, ويا خيبة من سوّد صحيفته بالكذب.
وإذا كان الله سيسأل الصادقين عن صدقهم فماذا سيكون حال الكاذبين.
اللهم طهر ألسنتنا من الكذب وسائر الأدواء.