النصير
كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
هذه قلوب الصحابة والصالحين في كل زمان، كانت الدنيا في أيديهم وليست في قلوبهم فعمروها بطاعة الله، وأخذوا منها قدر حاجتهم؛ فأعزهم الله ونصرهم, وفتح بهم بلاد الدنيا, وأجرى على أيديهم الخير والمعروف...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: إن الله -تعالى- خلق هذه الدنيا وجعلها موطن للامتحان والاختبار؛ وجعل فيها آدم وذريته يحيون فيها مدة قصيرة من الزمن ثم يتركونها, وينتقلون إلى الحياة الآخرة في رحلة المعاد إلى رب العباد، وحتى يحققوا الغاية التي خلقوا من أجلها حذرهم الشرع الحكيم مما يفسد عليهم قلوبهم ويشغلهم عن غايتهم التي خلقوا لتحقيقها، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى"(الألباني صحيح لغيره) .
والتعلق بالدنيا ليس مذموماً لذاته؛ فالعبد مجبول على محبة ما يقوم به حياته وما يجد فيه مصالحه؛ إلا أن المذموم هو أن يجعلها شغله الشاغل وينسى الله والدار الآخرة، وما أجمل الوسطية والاعتدال في ذلك ما جاء في التوجيه الرباني بقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)[القصص: 77].
والتحذير الذي ينبغي أن ننتبه له، هو التعلق بالدنيا الذي يفضي إلى فساد القلوب ونسيان الآخرة؛ وقد جاء القرآن بمسميات لهذه الحياة تتجلى فيها حقارتها وسرعان زوالها؛ كما في قوله -تعالى-: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُورا)[الإسراء: 18]، وقال سبحانه: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ)[القيامة: 20]، وهي دار الغرور: (ما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آلعمران: 185].
أيها المسلمون: إن التعلق بالدنيا -بما فيها من شهوات وشبهات- ونسيان الآخرة من أعظم مفسدات القلوب، ولذلك آثار خطيرة في دين الفرد ودنياه وآخرته؛ فقد تتحول الدنيا إلى إله معبود من دون الله؛ فترتكب كل المنكرات بسببها ولأجلها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة؛ إنْ أُعطِي رضي، وإن لم يُعطَ لم يرضَ"(رواه البخاري).
"إن الاستغراق في شهوات الدنيا، ورغائب النفوس، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار؛ ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة, ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى, ويغلظ الحس فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة, ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض, واللائقة كذلك بمخلوق يستخلفه الله في هذا الملك العريض".
ومن يتأمل في أسباب تحذير الشرع الحكيم من التعلق في الدنيا يتجلى له خطورة ذلك؛ فيوقن أن في هذا التحذير والتوجيه أسباب يدركها كل ذي بصيرة وعلم، وقد لخص هذه الأسباب من أوتي جوامع الكلم -صلى الله عليه وسلم- فقال: فقال -صلى الله عليه وسلم-: "يوشِك الأممُ أن تَدَاعَى عليكم كما تداعى الأكلةُ إلى قَصْعتها"، فقال قائل: ومِنْ قلةٍ نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غُثَاءٌ كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابةَ منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوَهْنَ"، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: "حُبُّ الدنيا، وكراهيَةُ الموت"، وفي لفظ لأحمد "وكراهية القتال"(أخرجه أبو داوود وأحمد، وصححه الألباني).
وقد بين القرآن الكريم أن التعلق بالدنيا وبما فيها من المتاع الزائل يضعف القلب؛ فيقوده ذلك إلى التثاقل عن امتثال أوامر الله والجهاد لإعلاء كلمته، وكذلك الرضا بالقعود، ولو كان ذلك القعود ثمناً لعزته، ونصر أمته, قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)[التوبة: 38].
وفي هذه الآية يتجلى للعاقل أن وراء كل هزيمة وضعف هو الغلو في محبة الدنيا والتعلق بها، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)[آل عمران: 152].
عباد الله: ومن الآثار الخطيرة على القلوب بسبب التعلق بالدنيا قسوة القلوب وتضييع الطاعات والعبادات, والتسويف وعدم الإنابة والتوبة، ولا شك أن العبد كثير الذنوب غير سالم من العيوب، وهو بذلك محتاج إلى الاستغفار والتوبة والندم على ما وقع فيه من الذنوب والمعاصي, والعزم على عدم العودة، ورد المظالم إلى أهلها؛ إلا أن الكثير منهم تعلقت قلوبهم بالدنيا والركون إليها ونعيمها الزائل؛ فسخروا أوقاتهم وأعمارهم في الانشغال بحطامها، وما علموا أن ذلك الحرص والتعلق يعقبه خزي وندامة وحسرة؛ كما قال سبحانه: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ)[الأنعام: 70].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على رسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
عباد الله: جاء رجل إلى الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ليكتب له عقد بيت اشتراه, فنظر علي إلى الرجل فوجد أن الدنيا متربعة عَلَى قلبه, وقد فتن بها وأغرته أمواله, فأراد الإمام علي أن يوصل له رسالة توقظه من غفلته فكتب: "اشترى ميت من ميت بيتا في دار المذنبين له أربعة حدود، الحد الأول يؤدي إلى الموت, والحد الثاني يؤدي إلى القبر, والحد الثالث يؤدي إلى الحساب, والحد الرابع يؤدي إما لجنة وإما لنار". فقال الرجل: ما جئتك لهذا يا إمام، فقال له علي -رضي الله عنه-:
النفس تبكي عـلى الدنيـا وقـد علمـت | أن السلامة فيها ترك ما فيهـا |
لا دار للمرء بعـد الموت يسكنهــا | إلا التي كان قبل الموت يبنيهـا |
فـإن بنـاهـا بخير طـاب مسكنه | وإن بناها بشر خاب بانيهـا |
أين الملوك التي كانت مسلطنـة | حتى سقاها بكاس الموت ساقيهــا |
أموالنا لذوي الميراث نجمعهـا | ودورنا لخراب الدهر نبنيهـا |
كم من مدائن في الأفاق قد بنيـت | أمست خرابا وأفنى الموت أهليهـا |
لا تركنن إلى الدنيا وما فيها | فالموت لاشك يفنينا و يفنيهـا |
واعمل لدار غداً رضوان خازنها | والجار أحمد والرحمن ناشيهـا |
من يشتري الدار في الفردوس يعمرها | بركعة في ظلام الليل يحييهـا |
فقال الرجل لعلي -رضي الله عنه-: أشهدك أني قد جعلتها لله ورسوله.
وفي يوم من الأيام دخل على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعض ممن يثق بهم من أهل حِمص، فقال لهم: "اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسُدّ حاجاتهم", فرفعوا إليه كتابًا فإذا فيه فلان وفلان، وسعيد بن عامر, فقال: "ومن سعيد بن عامر؟!", فقالوا : أميرنا, قال: "أميركم فقير؟!", قالوا: نعم؛ ووالله إنه لتمر عليه الأيام الطوال ولا يوقد في بيته نارا، فبكى عمر حتى بللت دموعه لحيته، ثم عمد إلى ألف دينار فجعلها في صُرَّة وقال: "اقرؤوا عليه السلام مني، وقولوا له: بعث إليك أمير المؤمنين بهذا المال؛ لتستعين به على قضاء حاجاتك".
جاء الوفد لسعيد بالصُرَّة فنظر إليها فإذا هي دنانير, فجعل يُبعدها عنه ويقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون", فهبَّت زوجته مذعورة وقالت: ما شأنك يا سعيد؟! أمات أمير المؤمنين؟! قال: "بل أعظم من ذلك", قالت: أأُصيب المسلمون في واقعة؟! قال: "بل أعظم من ذلك", قالت: وما أعظم من ذلك؟!, قال: "دخَلتْ عليَّ الدنيا لتُفسد آخرتي, ودخَلتْ الفتنة في بيتي". فقالت: تخلَّص منها, قال: "أوتُعِينيني على ذلك؟", قالت: نعم. فأخذ الدنانير فجعلها في صُرَرٍ ثم وزعها.
هذه قلوب الصحابة والصالحين في كل زمان، كانت الدنيا في أيديهم وليست في قلوبهم فعمروها بطاعة الله، وأخذوا منها قدر حاجتهم؛ فأعزهم الله ونصرهم, وفتح بهم بلاد الدنيا, وأجرى على أيديهم الخير والمعروف.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].