البحث

عبارات مقترحة:

الأول

(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

الغفار

كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...

القدوة الحسنة

العربية

المؤلف علي باوزير
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. الاقتداء بالآخرين فطرة طبيعية .
  2. الأثر الخطير للاقتداء في قضية الإيمان .
  3. التربية بالقدوة من أهم وسائل التربية النبوية .
  4. أهمية وأثر التربية بالقدوة .
  5. أزمة القدوات في واقعنا المعيش .

اقتباس

إن أي محاولة للتربية، بعيدة عن التربية بالقدوة، تربيةٌ جوفاءُ لا حقيقةَ لها، لا واقع لها، وإنما هي مجرد كلام؛ فإن الإنسان لا يمكن أن يقتنع بمجرد الكلام حتى يرى هذا الكلام عمليا.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق القول كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وبعد: أيها المسلمون عباد الله، من المناظر التي تتكرر كثيرا أن ترى سربا من الطيور قابعا على الأرض يسير عليها بأقدامه فإذا تحرك واحد من هذا السرب وطار فإذا ببقية السرب كله يلحق به ويطير وراء هذا الطائر، ليس هناك سبب وليس هناك ما يدعو إلا أنهم رأوا صاحبهم طار فطاروا معه.

وترى قطيعا من البهائم يسير في اتجاه معين فإذا خرجت واحدة من هذه البهائم إلى اتجاه آخر أو مالت إلى إحدى ناحيتي الطريق فإذا بالقطيع كله يسير وراء هذه البهيمة دون أن يكون هناك سبب إلا مجرد التشبه والاقتداء.

وهذه طبيعة موجودة في معظم المخلوقات، وهي في الإنسان أكثر وأشد وضوحا، فإن الإنسان قد جبل بطبعه على التأثر بغيره، وهو ميال لما جبل عليه من الاقتداء بالآخرين.

وانظر في نفسك وتأمل في حالك، سيجد كل واحد منا أنه في حياته اليومية يمارس أشياء ويفعل أمورا فإذا جاء يبحث عن سببها ولماذا يفعل هذا لوجد أنه ليس هناك أي سبب إلا الاقتداء بالآخرين ومحاكاة الناس فيما يفعلون.

وهذه الطبيعة -أيها الأحباب- تحدث عنها علماء السلوك وتحدث عنها علماء النفس والاجتماع، وبينوا أن الإنسان بطبعه يتأثر بمن حوله ويقتدي بما يراه من أفعال الناس وتصرفاتهم وسلوكهم، وهذا التأثر والاقتداء قد يكون في الإنسان أحيانا بغير إرادة، يكون اقتداء تلقائيا.

وانظر إلى بعض الأشخاص يجلسون في مجلس واحد فيتثاءب الأول فإذا بالثاني يتثاءب مثله، وإذا بالثالث يتثاءب مثلهم، حتى يتثاءبوا جميعا وليس فيهم ذرة نعاس، وإنما هو التأثر اللا إرادي والاقتداء التلقائي الذي جبل عليه هذا الإنسان.

وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أثر الاقتداء الخطير في قضية هي أهم قضية في حياة الإنسان وهي قضية الإيمان والعقيدة، فيقول -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ"، أي: إنه يولد وفيه فطرة سليمة قابلة للتوحيد والإيمان بالله -سبحانه-.

ثم يأتي التأثير من الأبوين وهما من أعظم المؤثرات التي تؤثر على الإنسان، فإن كان يهوديين أثرا في ولدهما فصار يهوديا مثلهما، وإن كان نصرانيين كذلك أثرا فيه فصار نصرانيا مثلهما، وإن كان مجوسيين أو على غير ذلك من الديانات فإنهما يؤثران في ولدهما فيصير مثلهما، وليس بالضرورة أن يكون هذا التأثير بالقول والتعليم بل يكفي أن يرى الطفل والديه النصرانيين وهما يعظمان الصليب ويرددان العبارات التي فيها تأليه لعيسى -عليه السلام- يكفي هذا لجعل هذا الولد نصرانيا مثلهما، فتأثير الفعل أقوى وأعظم من تأثير القول المجرد.

وهكذا سائر أصحاب الديانات والاعتقادات الباطلة تجد أنهم يتمسكون بأديانهم ويتمسكون بعقائدهم، فإذا بحثت عن السبب وجدت أنه ليس إلا مجرد الاقتداء بالآباء والأجداد، قال الله -سبحانه-: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) [الزخرف:23]، أي: سائرون على نفس الطريقة. فانظر إلى هذا الأثر الخطير جدا للقدوة سواء كانت قدوة حسنة أو كانت قدوة سيئة!.

ولهذا -أيها الأحباب- لأهمية القدوة صارت القدوة من أهم المسالك التربوية التي يربى الناس عليها، بل هذا هو مسلك الأنبياء في دعوتهم وتربيتهم لأممهم، ما كان الأنبياء يأتون بعبارات مجردة أو بكلام فارغ ليس له مضمون ومحتوى عملي بل كانوا يعملون ويقولون ويطبقون؛ لأنهم لو تكلموا فقط واكتفوا بذلك لقال الناس إن ذلك كلام حسن ودعوة جميلة ونظريات قيمة ومبادئ عظيمة ولكن لا مجال لتطبيقها في الواقع، لكن الأنبياء لم يكتفوا بمجرد الكلام بل دعوا وطبقوا، فلما طبقوا وصاروا قدوة للناس أثبتوا للناس عمليا أن هذا الكلام الحسن ليس مجرد عبارات للاستهلاك وليس مجرد كلام وألفاظ تقال بل يمكن أن يكون واقعا تصلح به حياة الناس ويسعدون وينعمون به في الدنيا والآخرة، ما كان يناقض قولهم فعلهم.

هذا شعيب -عليه السلام- يقول لقومه: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) [هود:88]، لا يمكن أن أنهاكم عن التلاعب في المكيال والميزان ثم أذهب وأتلاعب أنا بالمكيال والميزان، (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ).

فلما صاروا بهذه المثابة ولما حققوا القدوة الحسنة أثروا في أممهم وأقوامهم، واستحقوا توجيه الله -سبحانه وتعالى- لنبيهم -صلى الله عليه وسلم- أن يقتدي بهم، فقال -سبحانه-: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام:90].

وسار -صلى الله عليه وسلم- على هذه الطريقة، وسلك هذا المسلك التربوي المهم، وبنى دعوته على هذا الأساس، فكان لا يقول إلا ما يفعله، ولا يأمر الناس بشيء إلا ويطبقه؛ بل إنه -صلى الله عليه وسلم- كان يفعل قبل أن يقول، فعرف بين الناس بالصادق الأمين قبل أن يؤمر بالصدق والأمانة، فلما أمرهم بعد ذلك بالصدق والأمانة استجابوا له، وتأثروا به، وعلموا أن كلامه هذا كلام رجل صادق قد صدق فعله قوله، وقد صدق واقعه ما يدعو إليه من الكلام الحسن، والمبادئ العظيمة القيمة.

النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفسر القرآن كثيرا بكلامه بل أحاديثه في تفسير القرآن قليلة معدودة، وإنما فسر القرآن بفعله، فكان -صلى الله عليه وسلم- قرآنا يمشي على الأرض، فاستجاب الناس للقرآن، وأحب الناس القرآن، وعظم الناس القرآن؛ لما وجدوا نموذجا يمثل أخلاق القرآن يمشي بينهم، ويسير في أوساطهم.

ومن هناك ندرك: لماذا ربنا -سبحانه وتعالى- لم يبعث ملائكة وإنما بعث بشرا؟ لو بعث ملائكة لقال الناس هذه أفعال لا يقدر عليها إلا الملائكة، هذه أخلاق لا يستطيعها إلا الملائكة، أما نحن البشر فلا نقدر على مثل هذا، فما بعث الله ملكا، بل بعث بشرا ليقول للناس هو بشر مثلكم خلق كما خلقتم وله من القدرة والقوة مثل ما عندكم، فلا فرق بينكم وبينه من حيث البشرية، فهذه القدوة العملية تثبت لكم أن هذا الذي يقوله يمكن تطبيقه.

ومن هنا ربنا -سبحانه- يقول: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [الأحزاب:21].

كان -صلى الله عليه وسلم- يتعب كما نتعب، ويمرض كما نمرض، وينسى كما ننسى، ويجوع كما نجوع، ويحتاج للمال كما نحتاج، ويلبس كما نلبس، ويمارس حياته البشرية كما نمارسها تماما؛ ولكنه كان قدوة ومثلا في الأخلاق الحسنة والقيم الفاضلة.

إن أي محاولة للتربية، بعيدة عن التربية بالقدوة، تربيةٌ جوفاءُ لا حقيقةَ لها، لا واقع لها، وإنما هي مجرد كلام؛ فإن الإنسان لا يمكن أن يقتنع بمجرد الكلام حتى يرى هذا الكلام عمليا.

وانظروا واسمعوا إلى هذه القصة العجيبة التي جرت في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، يحكي لنا جرير بن عبدالله -رضي الله عنه وارضاه- كما في صحيح مسلم يقول: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدر النهار فجاء قوم مجتابي النمار أو العباءة، يعني ثيابهم مقطعة تبدو عليهم علامات الفقر والجوع والتعب، فتمعر -أي: تغير- وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رأى فيهم من الفاقة والحاجة، فدخل ثم خرج، كأنه -صلى الله عليه وسلم- دخل بيته ينظر هل يجد شيئا ليعطيهم فلم يجد شيئا في بيته، فخرج وأمر بلالا فأذن وأقام فصلى، ثم خطب وحثهم على الصدقة وقال: "تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره"، حتى قال: "ولو بشق تمرة".

استمع الصحابة كلهم لهذا الكلام وهذا الحث النبوي، ومن بين الصحابة قام رجل من الأنصار وذهب وأتى بصرة من الطعام قد عجزت كفيه عن حملها من ثقلها ووضعها أمام النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما رآه الناس تتابعوا بالصدقات حتى اجتمع كومان: كوم من طعام، وكوم من ثياب؛ فتهلل وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنه مذهبة، أي: كأنه ذهب يلمع، من فرحه بهذا الفعل الجليل وإقبال الصحابة على الصدقة.

ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- هنا علق على هذه القضية تعليقا مهما فقال -صلى الله عليه وسلم-: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".

أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينبه على قضية القدوة، كأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجد أن الصحابة لم يتفاعلوا إلا عندما رأوا القدوة، رأوا ذاك الأنصاري المسكين يأتي بما عنده فيضعه بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- أثر القدوة أراد أن يؤكد أهمية هذه القدوة وفضل هذه القدوة ومكانة القدوة الحسنة، وفي المقابل خطورة القدوة السيئة وأثرها على الإنسان وضررها الكبير عليه في دنياه وآخرته.

ولما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ذكر السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ذكر أول هؤلاء السبعة: "إمام عادل"، حاكم يقيم الحق والعدل، هذا أول واحد يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ ولهذا أسباب كثيرة من أهمها أن هذا الحاكم إذا أقام الحق والعدل بين الناس اقتدى الشعب به فصاروا على طريقته وأقاموا الحق والعدل مثله فانتشر الخير بين الناس، وكما قيل: "الناس على دين ملوكهم".

أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- رسالة مرة إلى هرقل عظيم الروم ملك الروم وقال له: "أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن أبيت فإن عليك إثم الأريسيِّين"، أي: عامة الشعب الذي سيقتدي بك على دينك، فإن أسلمت كان لك أجرك وأجرهم، وإن أبيت كان عليك وزرك ووزرهم؛ لأنك أنت القدوة لهم. وهذا يدلنا -أيها الأحباب- على مكانة وأهمية وخطورة القدوة في حياة الناس.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك  له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.

وبعد -أيها الأحباب الكرام- إن من الأزمات الخطيرة العميقة التي نعاني منها في واقعنا اليوم غياب القدوات الصالحات، وقلتها، وكثرة القدوات السيئة، اهتمام الإعلام بهذه القدوات السيئة وإبرازها على أنها النموذج الذي ينبغي أن يقتدى به، وفي المقابل تغييب هذه القدوات الصالحة وعدم الإشارة إليها أو الإشادة بها، بل حتى في واقعنا، بعيدا عن وسائل الإعلام، أين هي القدوات الصالحة التي نراها في حياتنا وواقعنا لتكون نبراسا لنا؟ لتكون دافعا لنا إلى الخير؟ لتكون منهجا يربى عليه أبناؤنا وأولادنا؟.

نفتقد إلى هذا كثيرا في واقعنا مما أدى إلى وجود فجوة كبيرة بين النظرية وبين الواقع، بين المطلوب وبين الموجود، أصبح الكلام كثيرا والوعظ كثيرا والتذكير كثيرا، ولكن في الواقع العملي التطبيق قليل، والامتثال قليل، والاستجابة قليلة؛ ومن أهم الأسباب في هذا غياب القدوات.

الطفل الصغير الذي يرى أباه قدوة أمامه يعلمه أبوه أن الكذب حرام وأن الخيانة كبيرة من الكبائر ويريد من ولده أن يكون صادقا أمينا، والأب يمارس الكذب ويخون الأمانة وولده يراه ويسمعه؛ فبماذا سيتأثر الولد؟ هل سيتأثر بالكلام الذي يسمعه أم بالواقع الذي يراه؟.

التلميذ في المدرسة يدخل عليه المدرس ويعطيه درسا طويلا لمدة ساعة كاملة في حفظ اللسان وآداب الكلام ونحو ذلك، ثم إذا خرج المدرس وخرج التلميذ يتفاجأ التلميذ بأنه يسمع من مدرسه قاموسا كاملا في أنواع الشتم والسب وقبيح الكلام وبذيئه! بالله عليكم؛ كيف سيكون حال هذا التلميذ المسكين؟ وبماذا يتأثر؟ هل سيتأثر بما سمعه من كلام أم سيتأثر بالواقع الذي يراه ويشاهده؟!.

الله -سبحانه وتعالى- قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) [التوبة:34]، قال العلماء: هؤلاء يدعون إلى الله -عز وجل- بأقوالهم ويصدون عن سبيله بأفعالهم.

حين يأتي العاصي المذنب ويستمع نصيحة تهز القلب وتدمع العين ثم يكتشف أن الذي وعظه واقع فيما هو أسوأ مما هو فيه؛ هل سيكون هناك للتوبة مجال بعد ذلك؟!.

حين يسمع الموظف الصغير من المسؤول الكبير محاضرة طويلة في الانضباط والنزاهة والأمانة والشفافية وغير ذلك ثم يكتشف الموظف سجلا طويلا من ملفات الفساد الذي يمارسه هذا المسؤول، كيف سيكون حاله؟ وهل سيستجيب لمثل هذا الكلام وهو يرى الواقع في واد آخر؟.

أمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى من واقع نعيشه ونعاني منه، لا نقول هذا تبريرا للأخطاء الموجودة، ولكننا نتحدث عن أسباب هذه الأخطاء، ومن أين جاءت هذه الانحرافات.

نريد جيلا كجيل الصحابة والتابعين، نريد جيلا كالسلف الصالحين، وننسى أن أولئك القوم تربوا في ظل قدوات عظيمة في كنف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن حولهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وسعيد والزبير وابن مسعود وغيرهم.

اليوم، هذا الجيل الذي نريد منه أن يكون مثلهم، من هم القدوات الذين يراهم أمامه؟ من هم القدوات الذين سيتأثر بهم؟.

إن المبادئ والقيم لا يمكن أن توجد إلا بوجود من يطبقها، ولا يمكن أن تحفظ إلا ببقاء من يمارسها في الواقع، ولك أن تشعر بأثر القدوة الصالحة، إذا جئت تتحدث مثلا مع شخص فقال لك إن الناس كلهم يرتشون فتتذكر موظفا نزيها شريفا فتقول: لا، هناك من لا يأخذ فلسا من حرام، ربما الذي يحدثك ستظهر على وجهه علامات الدهشة والتعجب، هل بقي في هذا الزمن من مثل هذا الصنف والنوع من الناس؟! فتقول في نفسك: جزا الله خيرا ذاك النزيه الأمين الذي حفظ الأمانة فحفظ المبدأ وبقي في الناس من يذكّر الناس بأننا أهل أمانة، أهل ديانة، أهل تقوى وخوف من الله -سبحانه وتعالى-.

ولا زلنا -أيها الأحباب- ولا زال كل واحد منا يتذكر في نفسه أشخاصا تركوا في حياته بصمة حسنة وأثرا طيبا، لا زال ربما كل واحد منا يتذكر معلم المادة الفلانية الذي درسه في الابتدائية، أو يتذكر إمام المسجد الفلاني الذي كان يصلي فيه وهو صغير، أو يتذكر ذاك التاجر أو ذاك القائد أو ذاك الزعيم السياسي أو ذاك الشيخ الكبير الذي كان نموذجا للصلاح والتقوى، أو يتذكر ذاك الشاب النشيط الذي كان نموذجا في الهمة والعمل، لا زلنا نتذكر أمثال هؤلاء الذين تركوا في حياتنا بصمات حسنة وأثرا طيبا.

فهل سنترك نحن نفس الأثر ونفس البصمة في أبنائنا وفي أجيالنا بل وفيمن حولنا من الناس؟!

ماذا عسانا أن نقدم لأبنائنا وأجيالنا؟ هل نقدم لهم مالا وعقارا ومتاعا؟ الحال يعلم به الله، والمال في أيدي الناس قليل، وليس هناك ما يقدم للجيل إلا القدوة الحسنة.

هذا هو أول ما يقدم لهم، هذا الذي سينير لهم دروبهم ويبصرهم بطريقهم ويوصلهم إلى سبل السلامة والنجاة في الدنيا والآخرة، وهذا هو أعظم ميراث نورثهم إياه ونتركه لهم بعد مماتنا.

ألم تروا إلى يعقوب -عليه السلام- وهو يوصي بنيه: (مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي)؟ وهو في حال الموت! (قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:133].

انظروا إلى هذه القدوات التي صارت نبراسا لأولادها ولأحفادها من بعدها، صارت منهجا يسيرون عليه، فإذا تذكروا تذكروا هؤلاء الآباء العظام فساروا على طريقهم.

هذا هو الذي نحتاج إلى أن نقدمه لأولادنا أيها الأحباب، هذه القدوات لن تأتي من كوكب آخر، ولا من فضاء خارجي، إنما تصنع هذه القدوات فينا وبيننا ومنا، وصدق الله القائل: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11].

نسأل الله -سبحانه- أن يصلح أحوالنا كلها...