البحث

عبارات مقترحة:

المجيب

كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...

القيوم

كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...

المعطي

كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...

التذكير بما أوصى به جبريل -عليه السلام-

العربية

المؤلف الرهواني محمد
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الحديث الشريف وعلومه
عناصر الخطبة
  1. نص حديث وصية جبريل للنبي –صلى الله عليه وسلم- .
  2. حتمية الموت ومفارقة الأحباب .
  3. مجازاة الإنسان على عمله .
  4. شرف قيام الليل وفضله .
  5. العزة في الاستغناء عن الناس .

اقتباس

جبريلُ -عليه السلام- ملَك من الملائكة العظام، أتى النبي محمدا -صلى الله عليه وسلم-، فقال له: "يا محمد"، خاطبه باسمه المجرد، ولم يخاطبه بوصف النبوة أو الرسالة، لم يقل له: يا نبي الله أو يا رسول الله، وإنما خاطبه قائلا: "يا محمد"، وفي هذا إشارةٌ واضحة أن هذه الوصايا الخمس ليست...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعِينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فاللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه.

روى الحاكم في مستدركه من حديث سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيّ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزَّه استغناؤُه عن الناس".

كلماتٌ معدودات جُمعت في خمس وصايا أوصى ووعظ بها جبريلُ -عليه السلام-، محمدا -صلى الله عليه وسلم-.

جبريلُ -عليه السلام- ملَك من الملائكة العظام، أتى النبي محمدا -صلى الله عليه وسلم-، فقال له: "يا محمد"، خاطبه باسمه المجرد، ولم يخاطبه بوصف النبوة أو الرسالة، لم يقل له: يا نبي الله أو يا رسول الله، وإنما خاطبه قائلا: "يا محمد"، وفي هذا إشارةٌ واضحة أن هذه الوصايا الخمس ليست خاصةً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما هي عامة، إنما هي تذكرة وموعظة لكل فرد من أمته من بعده -صلى الله عليه وسلم-.

الوصية الأولى: جبريل -عليه السلام- بدأ بالتذكيرِ بِالموت، فقال: "يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت".

يا لها من موعظة تقرع القلوبَ عسى أن تتعظ وتعتبر!

"عش ما شئت" كبيرا أو صغيرا شابا أو كهلا، "عش ما شئت" كثيرا أم قليلا، عش على أي حال تكون غنيا أم فقيرا، صحيحا أو مريضا، فإنك في النهاية ميتٌ قال ربنا: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر: 30].

فالكل سيموت: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) إلا ذو العزة والجبروت، قال ربنا: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26 - 27].

"عش ما شئت" فالموت آت لا محالة، ولا بد أنه نازل ولن يخطئ أحدا أبدا.

"عش ما شئت" واعلم أن:

كلَّ باك فسيُبكي

وكلَّ ناع فسيُنعى

كلَّ مذخور سيَفنى

وكلَّ مذكور سيُنسى

ليس غيرُ الله يبقى

ومن علا فالله أعلى

و (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص: 88] -سبحانه وتعالى-.

"عش ما شئت" فالموت آت، وإن كنا نراه بعيدا فإنه عند الله قريب، فكلُّ آتٍ آتٍ، وكلُّ آتٍ قريب: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا) [المعارج: 6 - 7].

"عش ما شئت" فمهما طال الزمن أم قصر، مهما كثرت أموالك أو قلّت، مهما زادت شهرتك وقوتك في الآفاق أو خفتت، مهما كان ومهما كنت وكيفما كنت وحيثما كنت فإنك إلى الموت صائر لا محالة: "عش ما شئت فإنك ميت"، و "أحبب من شئت فإنك مفارقه".

وتلك هي الوصية الثانية: "أحبب من شئت فإنك مفارقه".

"أَحبِب من شئت" من الخلق "فإنك مفارقه" بموت أو غيرِه.

"أحبب من شئت" أحبب أخاك "فإنك ستفارقه" أحبب أمك أباك فإنك ستفارقهما، أحبب زوجتك أولادك فإنك ستفارقهم، أحبب عائلتك أحبابك أصدقاءك جيرانك فإنك مفارقهم، أحبب دارك فإنك ستغادرها، أحبب ما شئت من مال أو جاه أو منصب أو غيرِ ذلك من متاع الحياة الدنيا، فإنك عما قريب ستفارقه بموت أو غيره.

فيا من تعلق قلبُه بهذه الدنيا بمتاعها ولذاتها وزينتها وشهواتها: وطِّن نفسك على الفراق، واستعد للانتقال من دار إلى دار، فما من أحد في هذه الدنيا إلا وهو ضيف وما بيده فهو عارية، وحتما الضيف مرتحل والعارية مردودة.

"أحبب من شئت فإنك مفارقه" وإياك أن تشغل قلبك بمتاعٍ أو شهوة من شهوات الدنيا الزائلة، فإنها إما أن تزول عنك أو أنت زائل عنها، وإنما أَشْغل قلبك بِحب من لا يُفارقك ولا تُفارقه، اشغل قلبك بالعمل الصالح الذي يحبه الله ويقرب منه تعالى، فإن ذلك يصحبك في القبر وما بعده ولن يفارقك أبدا، ففي الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ، وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ"، يبقى عمله ليُجزى به.

وتلك هي الوصية الثالثة: "واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به".

اعمل ما شئت من خير أو شر، من حق أو ضلال، فإن الموت ملاقيك، ثم إنك بعد الموت مَجْزِيٌّ بما عملت، ولن تجد عند الله إلا ما عملت، فكل شيء عملته ستجده مكتوبا ومسطورا: (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) [القمر: 52  - 53] فإن عملت صالحا فستجد صالحا، وإن عملت غير ذلك فلا تلومن إلا نفسك، قال ربنا: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران: 30].

وفي الحديث القدسي: "قال الله -تعالى-: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيها لكم يوم القيامة، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".

وقال جل جلاله: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49].

(وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا) [الكهف: 49].

وقال سبحانه: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 13 - 14].

فماذا تحب أن تقرأ في ذلك الكتاب الذي سطرته بأعمالك؟ أتحب أن تقرأ فيه ذنوب وجرائم، ربا وزنا، فواحش ومنكرات، ظلم غيبة نميمة؟ أم أنك تريد أن ترى كتابك فيه ما يبيض وجهك في ذلك اليوم العظيم الذي تبيض فيه وجوه وتسود وجوه؟ قال ربنا -جل وعلا-: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [آل عمران: 106 - 107].

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

الوصية الرابعة: "واعلم أن شرف المؤمن قيامُه بالليل".

ما أجمل وألذ تلك اللحظات عندما يخلوا أولئك الصادقون مع رب الأرض والسموات في مدرسة الصدق والإخلاص، في مدرسة المجاهدة والتربية في ظلام الليل حيث لا يراهم ولا يطلع عليهم إلا الله -جل وعلا-، وقد أثنى عليهم حين تركوا المضاجع والملذات من أجل الوقوف بين يديه تبارك وتعالى، فقال عنهم: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [السجدة: 16].

فلما أخفَوْا عبادتهم وقيامهم عن الناس أخفى الله ما أعد لهم من عظيم الأجر حين يلقونه سبحانه، قال عز وجل: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17].

فلأهلِ قيامِ الليل منزلةً عند الله لا تدانيها منزلة، قال ربنا: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 15 - 18].

فمن أراد الشرف والرفعة فعليه بقيام الليل، وذلك بدوام الصلاة والذكر والتلاوة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يبشر أن مِن بينِ ما يرفع منزلة المؤمن هو قيامه وصلاته بالليل، فقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ في الجنةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُها من باطِنِها وباطِنُها من ظَاهِرِها، أَعَدَّها اللهُ –تعالى- لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وأَفْشَى السلامَ، وصلَّى بِالليلِ والناسُ نِيامٌ".

فقيام الليل -معاشر الصالحين والصالحات- من أعظم القربات إلى الله، فهو دأب الصالحين، وتجارة المؤمنين، وعمل الفائزين.

في الليل يخلو المؤمنون الصادقون بربهم فيأنسون به ويشكون إليه أحوالهم، ويسألونه من فضله، فهم قائمون بين يديه، عاكفون على مناجاته، يتنسمون من تلكَ النفحات، ويقتبسون من أنوار تلكَ القربات، ويتضرعون إلى عظيم العطايا والهبات، ويرغبون ويتطلعون إلى ما بَشر به النبي الكريم، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ينزلُ اللهُ في كلِّ ليلةٍ إلى سماءِ الدُّنيا فيقولُ: هل من سائلٍ فأُعطِيَه؟ هل من مُستغفرٍ فأغفرَ له؟ هل من تائبٍ فأتوبَ عليه؟ حتى يطلعَ الفجرُ".

فهنيئا لمن وُفق للقيام بين يدي رب العزة والجلال والتلذذ بمناجاته.

الوصية الخامسة: "واعلم أن عزَّ المؤمن استغناؤه عن الناس".

لما كان الشرف والعز أخوين استطرد بذكر ما يحصل به العز، فقال: "عز المؤمن" أي قوته وعظمته وغلبته على غيره في اكتفائه بما قُسِمَ له واستغناءِه عما في أيدي الناس.

فإن من الأخلاق المحمودة، والصفات النبيلة: الاستغناءُ والعفة عما في أيدي الناس، فقد كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم: "اللَّهمَّ إنِّي أسأَلُكَ الهُدَى والتُّقى والعفافَ والغِنى".

وكان الحسن البصري يقول: "لا تَزَالُ كَرِيمًا عَلَى النَّاسِ، أَوْ لا يَزَالُ النَّاسُ يُكْرِمُونَكَ مَا لَمْ تتعَاطَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، فَإِذَا فَعَلْتَ اسْتَخَفُّوا بِكَ، وَكَرِهُوا حَدِيثَكَ وَأَبْغَضُوكَ".

معاشر أمة الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم-: هذه وصايا عظيمة جليلة نافعة أوصى بها جبريل -عليه السلام- محمدا -صلى االله عليه وسلم- فقال: "يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيّ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزَّه استغناؤُه عن الناس".

فنسأل الله رب العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.