البحث

عبارات مقترحة:

القاهر

كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...

الغني

كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...

المليك

كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...

الفرص التي لا تعوض

العربية

المؤلف محمد بن إبراهيم النعيم
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الحديث الشريف وعلومه
عناصر الخطبة
  1. أهمية اغتنام المسلم للفرص التي تكسبه الخير .
  2. عَرضٌ وشروحٌ لأحاديث ترشد لفرص ينبغي اغتنامها .
  3. دعوة للبدار باستغلال الأوقات وتدارك باقي الأعمار .

اقتباس

إن ما يجب أن نعرفه أن كل طاعة تعرض عليك فتفوّتها إنما هي فرصة لا يمكن تعويضها؛ لأن الأيام ليست متكررة، وإنما كل يوم هو خلق جديد، وإذا مضى فإنه لا يعود إلى يوم القيامة، فإذا ضيعت يومك في غير طاعة وفيما لا ينفع فإنما ضيعت عليك فرصة الطاعات التي مرت في هذا اليوم.

 الخطبة الأولى:

كثيرا ما نسمع ونقرأ في مختلف الوسائل الإعلامية بعض الإعلانات والدعايات التجارية عن عقارات أو معارض أو مجمعات تجارية فيها من التنزيلات والتخفيضات التي قد تشد الأنظار، لا سيما إذا رافقها بعض العبارات الملفتة للنظر كقولهم: "لا تدع الفرصة تفوتك"، وقولهم: "فرصة العمر"، وقولهم: "آخر فرصة"، وقولهم: "فرصة لا تعوض"، وقولهم: "حقق أحلامك ولا تدع الفرصة تفوت"، وقولهم: "اغتنم الفرصة الأخيرة"، وقولهم: "اغتنم الفرصة وتسوق قبل انتهاء فترة العرض". ونحوها من كلامات وعبارات تجارية رنانة.

إننا نجد كثيراً من الناس قَصر وحجّر استخدام كلمة "الفرصة" على النواحي المادية، وقلما أن تستخدم في مكانها الحقيقي لتمثل فرصة العمر على حقيقتها، وأقصد أن تستخدم كلمة الفرصة لأمر الآخرة.

إن في حياة المسلم فرصا كثيرة لكسب الخير قد لا تعوض البتة طوال الحياة، وكثير من الناس لا يلتفتون إلى ذلك؛ فهناك فرص قد لا تتكرر في حياتك، فهلا انتبهنا لذلك؟!. روى الحاكم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".

قوله –صلى الله عليه وسلم-: "اغتنم خمسا قبل خمس"، معناه: اظفر على وجه المغالبة وقهر النفس خمس نعم قبل خمس محن؛ فإن النعمة لا تدوم على ما هي عليه في جميع الأحوال، لأنه -كما يقال- من المحال دوام الحال، فالشباب يبلى ويذبل، والصحة تضعف وتنكمش، والمال ظل زائل سرعان ما يذهب ويزول وينتقل من موروث إلى وارث، والفراغ نعمة من النعم التي يُغبن فيها الإنسان وسرعان ما تأتي الشواغل على حين غفلة فيجد المرء نفسه عاجزا عن تحقيق مآربه وأحلامه، بل وحتى الواجبات التي عليه لفوات وقت الفراغ وضياع الفرصة التي لم يغتنمها.

والحياة أنفاسٌ معدودةٌ تنقطع بالموت في وقت ربما لا يكون في الحسبان، فيندم المرء على ضياع العمر حيث لا ينفع ولا يجدي ذلك الندم شيئا.

فالفرصة إذا لم تُنتهز فهي غُصة، قال خالد بن معدان: "إذا فُتح لأحدكم بابُ خيرٍ فليسرع إليه؛ فإنه لا يدري متى يغلق عنه"، فاغتنم كما يقول لك الرؤوف الرحيم –صلى الله عليه وسلم- اغتنم خمس فرص قبل فواتها.

وأول تلك الفرص أن تغتنم شبابك قبل هرمك، أن تغتنم هذا القدر من العمر فيما ينفعك في دينك ودنياك، ولا تضيعه في اللهو واللعب والشهوات.

إن الشباب هو زمن العمل الجاد؛ لأنه فترة قوة بين ضعفين: ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة.

والشباب هو وقت القدرة على الطاعة على تمامها، والشباب ضيف سريع الرحيل، فإن لم يغتنمه العاقل تقطعت نفسه بعده حسرات.

إن المرء منا يمرُ بعدة مراحل طوال حياته: مرحلة الطفولة، ثم مرحلة الشباب، ثم مرحلة الكهولة، ثم مرحلة الشيخوخة.

ولقد رغب النبي –صلى الله عليه وسلم- بأن تكون مرحلة الشباب في حياة الفرد مليئة بالطاعات، ومرحلة الشباب هي التي لا يتجاوز فيها العمر على ثلاثين سنة، وما زاد عن ذلك حتى أربعين سنة يسمى المرء فيها كهلا،  فالذي تجاوز الثلاثين سنة ولم ينشأ على طاعة الله فاتته فرصة عظيمة هي الاستظلال تحت ظل عرش الرحمن يوم القيامة يوم تدنو الشمس من الخلائق بمقدار ميل فيغرق الناس في العرق على قدر أعمالهم، قال –صلى الله عليه وسلم-: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وذكر منهم: "وشاب نشأ في عبادة الله".

فيا حسرة الرجل منا الذي تجاوز الثلاثين عاما ومرت عليه مرحلة الشباب ولم ينشأ على طاعة الله! إنها فرصة فاتت ولن تعوض.

أخي المسلم: فإذا فاتتك هذه الفرصة التي لن تعوض البتة فلا يفتك أن تعلق قلبك بالمساجد، وأن تخفي صدقتك كي لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك، وأن تفيض عينك عند ذكر الله خاليا كي لا تحرم من الاستظلال تحت ظل عرش الرحمن.

أما الفرصة الثانية فهي أن تغتنم "صحتك قبل مرضك"، أي أن تظفر بالوقت الذي تكون فيه صحيح الجسم لتقضيه في ميدان العمل الصالح، وأن لا تؤخر فضيلة من الفضائل وتقول حتى أكبر وأتفرغ، فإنك لا تدري: هل تظل صحيحا معافى أم يعتريك ما يعل صحتك ويقلل نشاطك فتقول يا ليتني صليت من الليل! ويا ليتني صمت من النوافل! ويا ليتني بذلت جهدي وقت قوتي في الدعوة إلى الله! ونحو ذلك.

كما أنها فرصة عظيمة أن تكثر من الأعمال الصالحة وقت صحتك لكي يكتب لك الثواب كاملا في حال مرضك، فقد صح عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحا مقيما".

وأما من لم يستغل صحته قبل مرضه بكثرة الأعمال الصالحة فسيفوته الخير الكثير، وسيندم في حين لا ينفع الندم؛ فقد روى الإمام أحمد عن عبد بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من مسلم يصاب في جسده إلا أمر الله -تعالى- الحفظة: اكتبوا لعبدي في كل يوم وليلة من الخير ما كان يعمل ما دام محبوسا في وثاقي".

فاغتنام فرصة صحتك قبل مرضك هي أن تبادر إلى شتى الطاعات قبل حلول المفاجآت؛ ولهذا رغّب النبي –صلى الله عليه وسلم- أيضا بالتعجل بالحج خشية مفاجأة المرض فقال –صلى الله عليه وسلم-: "من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة" رواه أحمد والبيهقي عن الفضل -رضي الله عنه-.

روى شفيق -رضي الله عنه- قال: مرض عبد الله بن مسعود فعدناه فجعل يبكي فعوتب، فقال: إني لا أبكي لأجل المرض؛ لأني سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "المرض كفارة" ، وإنما أبكي أنه أصابني على حال فترة ولم يصبني في حال اجتهاد، لأنه يكتب للعبد من الأجر إذا مرض ما كان يكتب له قبل أن يمرض فمنعه المرض. فاغتنم صحتك قبل مرضك.

أما الفرصة الثالثة أن تغتنم فرصة غناك قبل فقرك: بأن تكثر من الصدقات وبذل المال في وجوه الخير قبل تغير أحوالك الاقتصادية، أو قبل تغير أحوال المجتمع الذي من حولك؛ فإن أعظم الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان!  إنها فرصة أن تتعرف على الله في الرخاء ليعرفك في الشدة.

كما ويحتمل أن يكون معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وغناك قبل فقرك"، أن يكون هذا إنذارا للغني من الفقر إذا لم ينفق من ماله في وقت الغنى، لا سيما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا بأن هناك ملكين يدعوان كل صباح: "اللهم أعط كل منفق خلفا، وأعط كل ممسك تلفا".

لقد أخبرنا الله -عز وجل- بأن المسلم لَيتمنى إذا مات أن لو أعطي فرصة أخرى للعودة إلى الحياة، لا ليتمتع فيها أو يلهو فيها وإنما ليتصدق ويكون صالحا ويبادر إلى الفرص التي فاتته طوال حياته! قال الله -تعالى-: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون:10].

الفرصة الرابعة أن تغتنم فراغك قبل شغلك، أي: أن تغتنم أوقات الفراغ في شغل النفس بما ينفعك، فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، أن تغتنم فرصة فراغك لتصرفه ليس في سياحة ولا لهو وإنما فيما ينفعك في أمر دينك ودنياك، أن تستغل هذا الفراغ الذي يكثر في مرحلة الشباب وقبل تحمل المسؤوليات أن تستغله في حفظ كتاب الله وتعلم العلم الشرعي؛ لأنك إذا كبرت فقد تخجل أن تتعلم وقد يصعب عليك الحفظ، بل وقد لا تجد الوقت الكافي للتعلم لأنك ستكتشف أن الواجبات أكثر من الأوقات. ولهذا صدق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حينما قال: "تعلموا العلم قبل أن تسودوا"، أي: تعلم قبل أن تصبح مسؤولا وتشغل فلا تجد الوقت للتعلم.

كما أن الاستفادة من العلماء والتعلم منهم عن قرب قبل موتهم فرصة لا تعوض، وقد قال –صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جُهَّالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا". ففرصة عظيمة -أخي المسلم- أن تغتنم فراغك قبل شغلك.

الفرصة الخامسة والأخيرة في هذا الحديث أن تغتنم حياتك قبل موتك، بأن تقدم لنفسك ما ينفعك بعد موتك، ولا تسوف حتى إذا جاء الموت قلتَ: يا ليتني قدمت لحياتي! يا ليتني تصدقت! ويا ليتني صمت! ويا ليتني صليت! ويا ليتني فعلت! فيكون حالك كحال الذين قال الله -تعالى- عنهم: (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر:23-24].  

إن وجودك في هذه الحياة أعظم فرصة لجمع الحسنات، وللرقي في الجنة إلى أعلى الدرجات؛ فاغتنام حياتك قبل موتك يكون بالمبادرة إلى التوبة قبل حلول الأجل، قبل أن تغرغر فيُلَفُ الساقُ بالساق؛ فقد قال –صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -عز وجل- يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"، فإن اغتنام فرصة الحياة قبل الممات هو أن تغتنم وقتك، لا تضيعه في لهو، فضلا عن معصية.

فكم من مستقبِل يوما لا يستكمله! وكم من مؤمل غدا لا يدركه! وقد صح عن الحسن البصري -رحمه الله تعالى- أنه قال: "ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني بعمل صالح فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة". فكل دقيقة من حياتك هي فرصة لن تعوض؛ لأنه لا يمكن إرجاعها أو تدراكها.

فأمس الذي مرَّ عن قربه

يعجز أهل الأرض من رده

وقد صح عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حسر عليها يوم القيامة".

كما إنها فرصة إلى المبادرة إلى التوبة قبل ظهور بعض علامات الساعة الكبرى؛ فقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض" رواه مسلم. فاغتنم حياتك قبل موتك، إنها خير كلمة جامعة في استغلال الوقت.

إن تفاوت أعمار البشر من أسرار الله في خلقه، فترى هذا يموت في الصغر، وآخر في الكبر، والكل يعطى فرصته في الحياة ليرى الله كيف يعمل العاملون.

الكل منا يقول ويعترف بأن الموت لا مفر منه، وأنه طريق الكل الذي سيسير فيه، وأنه كأس الكل سيشربها، وغير ذلك من كلمات تخرج أحيانا جافة من اللسان وليس من القلب، ولكن، لو توقفنا عندها لوجدنا مرارتها على اللسان والقلب.

المشكلة أن البعض يتصور أن الكل سيموت إلا هو! فتراه يسوف التوبة ويؤجل التزامه واستقامته، فمتى سنجعل الموت عبرة لنا لنغتنم حياتنا قبل موتنا؟.

أيها الإخوة في الله: وإذا انتقلنا إلى أحاديث نبوية أخرى كي نبحث فيها عن فرص الخير التي لا تعوض فسنرى أن هناك كماً من الأحاديث تدعونا إلى العمل قبل فوات الأوان، فمن الفرص التي لا تعوض، وهي الفرصة السادسة، في هذه الخطبة: أن تستغل وجود والديك على قيد الحياة لتبرهما؛ فإن أعظم الفرص لك لكي تدخل الجنة أن تلزم والديك وتبرهما فهما بابان لك إلى أبواب الجنة، قال–صلى الله عليه وسلم-: "رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة" رواه مسلم. وقال في حديث آخر: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فَأَضِعْ ذلك الباب أو احفظه" رواه ابن ماجه.

فيا حسرة من مات والداه ولم يبرهما! حيث فوت فرصة عظيمة لا يمكن بأي حال أن يعوضها لكي ينال رضاهما ويدخل بسببهما الجنة؛ فإن رضا الرب في رضا الوالدين، وسخط الرب في سخطهما.

أيها الإخوة الحضور: أما الفرصة السابعة فهي أن تتبع السيئة الحسنة، إنها فرصة عظيمة بأن تتوب من الذنب مباشرة قبل أن يسجل عليك، نعم، قبل أن يسجل عليك فيسود صحيفتك؛ فقد روى الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان وصححه الألباني عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ، فإن ندم واستغفر ألقاها، وإلا كتبت واحدة".

لذلك؛ لا نعجب إذا علمنا أن رسول الله -وهو الرحيم بنا- قد وجهنا إلى ذلك بقوله: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"، فتأمل -رحمة الله بك- كيف يعطيك هذه الفرصة بأن يجعل الملك ينتظر ست ساعات لعله ينتظر منك توبة أو استغفارا! وتأمل -أيضا- شفقة النبي –صلى الله عليه وسلم- وهو ينصحك بقوله: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها"، وكلمة أتبع تفيد المبادرة وعدم التواني. لذلك بادر إلى التوبة، وإلا ملئت صحيفتك سيئات، فرأيتها يوم القيامة عليك حسرات.

الفرصة الثامنة: أن تحظى بالشهادة، وهي ليست شهادة الماجستير ولا الدكتوراه ولا شهادة خبرة، وإنما فرصة الشهادة في سبيل الله، فإنه من المعلوم أن كل من حقق معنى الشهادتين سيدخل الجنة برحمة الله، ولكن؛ من منا يستطيع أن ينال درجة الشهادة في سبيل الله وهي أعلى الدرجات بعد منزلة النبوة والصديقية؟.

وإن لم تستطع ذلك أو حال بينك وبينه حائل فلا حل لك سوى أن تسأل الله الشهادة في سبيل الله بصدق، ومن فعل ذلك وصدق مع الله فإن الله سيصدقه؛ فقد وعد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من كانت هذه نيته ورغبته أن يرزقه منازل الشهداء في الجنة ولو مات على فراشه، فقد روى سهل بن حنيف -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه" رواه مسلم.

فلا تدع الفرصة تفوتك، ومن لم يفعل ذلك فإنه قد يموت على شعبه من النفاق والعياذ بالله؛ فقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق" رواه مسلم.

الفرصة التاسعة: أن تبادر إلى التحلل ممن ظلمته قبل أن تسلب منك حسناتك يوم القيامة؛ فقد روى البخاري -في صحيحه- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه".

الفرصة العاشرة والأخيرة في هذه الخطبة- كي لا أطيل عليكم- أن نبادر إلى إنكار المنكر قبل نزول العذاب؛ فقد روى الإمام أحمد والترمذي عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أن رسول الله قال -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم".

إن المنكرات لتنتشر في أسواق المسلمين ومنتدياتهم وبيوتهم ومجالسهم وإعلامهم انتشار النار في الهشيم، وإن التبرج في أوساط النساء المسلمات بات مألوفا؛ فقل الحياء والغيرة، وإنها لفرصة لنا لإنكار هذه المنكرات قبل أن يستفحل الأمر فينزل العذاب، ثم إذا دعونا الله -عز وجل- ليكشف عنا ما حل بنا فلن يستجيب! هكذا قال لنا الرؤوف الرحيم –صلى الله عليه وسلم-.

أقول قولي هذا وأستغفر الله من كل ذنب لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فكم واحد منا لا يزال يعض على أصابع الندم كلما تذكر كيف فاتته فرصة من فرص الحياة لا يمكن تكرارها ولا تعويضها! وقليل من الناس من يفعل ذلك في أمور الآخرة؛ إما لجهله بالثواب الذي فاته، أو لغفلته بالعقاب الذي ينتظره.

إن ما يجب أن نعرفه أن كل طاعة تعرض عليك فتفوّتها إنما هي فرصة لا يمكن تعويضها؛ لأن الأيام ليست متكررة، وإنما كل يوم هو خلق جديد، وإذا مضى فإنه لا يعود إلى يوم القيامة، فإذا ضيعت يومك في غير طاعة وفيما لا ينفع فإنما ضيعت عليك فرصة الطاعات التي مرت في هذا اليوم.

فهل أديت شكر اليوم الذي مضى؟ أي يوم الخميس؟ فقد قال–صلى الله عليه وسلم-: "من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر؛ فقد أدى شكر ذلك اليوم". فمن لم يقل هذا الدعاء بالأمس ضاعت عليه فرصة شكر ذلك اليوم إلى الأبد.

هل أديت شكر مفاصلك بالأمس؟ فقد قال –صلى الله عليه وسلم-: "على كل سلامى من ابن آدم في كل يوم صدقة".

وهكذا؛ فإن هناك كثيرا من الفرص التي إذا فاتت لا يمكن تعويضها، وكل عمل صالح يفوت منك لا يمكن تعويضه، وكل دقيقة تمر عليك في غير طاعة قد كانت لك فرصة من الله لا يمكن تعويضها أو تداركها؛ لذلك: البدارَ البدار إلى استغلال الأوقات وتدارك باقي الأعمار!.

 جعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه...

اللهم...