القريب
كلمة (قريب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فاعل) من القرب، وهو خلاف...
العربية
المؤلف | عادل العضيب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة - السيرة النبوية |
ما أقوى عزمك! وما أشد بأسك! وما أعظم إخلاصك وصبرك يا رسول الله! عشر سنين، لا ترى إلا الصدّ والهجران، لا ترى إلا دموع مَن يبتعك من المستضعفين، وما لانت لك قناة، وما انكسرت لك عزيمة ولا يئست، ولا أسأت الظن بربك.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، أحمده، جعل لكل حي مآلاً وأجلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، استوى على عرشه وعلا، وأشهد أن محمدًا عبده المصطفى ورسوله المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله، أيها المسلون: عشر سنين من بعثته –عليه الصلاة والسلام- قضاها وهو يتتبع الحُجَّاج في موسم الحج وأسواق العرب، يدعو الناس إلى الله وهو يقول: "من يؤويني وينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة"، فلا يجد أحدًا ينصره أو يؤويه، حتى إن الرجل كان يرحل من مصر أو اليمن إلى أقاربه في مكة فيقولون له: "احذر غلام قريش، لا يفتنك".
ما أقوى عزمك! وما أشد بأسك! وما أعظم إخلاصك وصبرك يا رسول الله! عشر سنين، لا ترى إلا الصدّ والهجران، لا ترى إلا دموع مَن يبتعك من المستضعفين، وما لانت لك قناة، وما انكسرت لك عزيمة ولا يئست، ولا أسأت الظن بربك.
المصلحون أصابع جمعت يدًا | هي أنت بل أنت اليد البيضاء |
وفي موسم الحج من السنة الحادية عشرة من النبوة وجدت دعوته -عليه الصلاة والسلام- بذورًا صالحةً، سرعان ما تحولت إلى أشجار باسقة، اتقى المسلمون في ظلالها الوارفة عن نفحات الظلم والطغيان.
فقد خرج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومعه أبو بكر وعمر وعلي ليلاً؛ حتى لا تعلم به قريش، فمر –عليه الصلاة والسلام- بعقبة منى، فسمع أصوات رجال يتكلمون، فذهب إليهم وكانوا ستة نفر من شباب يثرب، كلهم من الخزرج، فجلس معهم وكلمهم ودعاهم إلى الله، وتلا عليهم القرآن؛ فقال بعضهم لبعض: "تعلمون والله يا قوم، إنه النبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه"، فأجابوا دعوته وأسلموا.
وكان من سعادتهم أنهم كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود المدينة أن نبيًّا من الأنبياء سيخرج، فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم.
لما رجع النفر إلى المدينة حملوا إليها رسالة الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذِكْر لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
وفي موسم الحج من السنة الثالثة عشرة من النبوة حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفسًا من المسلمين من أهل يثرب، وكانوا وهم في الطريق يقولون: حتى متى نترك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يطوف ويُطرد في جبال مكة، فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين رسول الله –صلى الله عليه وسلم- اتصالات سرية أدت إلى اتفاق الفريقين على الاجتماع في أوسط أيام التشريق، في الشِّعب الذي عند جمرة العقبة ليلاً.
وفي ثلث الليل حضر ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان من أهل يثرب، وجاء رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومعه عمه العباس لعقد اتفاقية، ربما كانت أعظم اتفاقية في تاريخ الإسلام، فتكلم العباس وبيَّن لهم خطورة الاتفاقية وعِظم المسئولية التي ستلقى على كواهلهم، وكان مما قال: "إنه -أي: رسول الله- أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما وعدتموه ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مُسلِمُوه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه"، فقال كعب: "فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك وما أحببت".
فبايعهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وكان مما بايعهم عليه "على أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة".
فقال أبو الهيثم بين التيهان: "يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قطاعوها - يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا، قال: فتبسم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم".
فقاموا يبايعونه، فقال أسعد بن زرارة: "رويدًا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مفارقةٌ للعرب وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف، فإما أن تصبروا على ذلك فخذوه، وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفةً فذروه، فهو أعذر لكم عند الله". فقالوا: "يا أسعد، أمط عنا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها".
وبعد ذلك بدأت البيعة، وبعد أن تمت البيعة ونجح رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في تأسيس وطن للمسلمين، أذن لأصحابه بالهجرة، ثم هاجر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، واستقبله الأنصار يحيونه بتحية النبوة، وكان يومًا مشهودًا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها. وهكذا استقر النبي الكريم في المدينة عند أنصاره الذين عاهدوه على النصرة والمنعة.
وتمر الأيام، وتأتي معركة بدر، ويستشير النبي –صلى الله عليه وسلم- الذين معه في القتال؛ لأنه خرج يريد قافلة قريش ولم يخرج للقتال، لكن القافلة نجت، وعلمت قريش بخروج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فخرجوا بألف مقاتل، فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال: "إيانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها –يعني الخيل- ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا". فسُرَّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لقول سعد –رضي الله عنه-.
وقاتل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقاتل الأنصار معه، وانتصر المسلمون، وظل الأنصار يضحّون بالغالي والنفيس لأجل رسول الله –صلى الله عليه وسلم؛ حتى قال سعد بن الربيع وهو يودع الحياة بعد أن أُصيب بأُحد للذي جاءه: "قل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلُص إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وفيكم عين تطرف".
ظل الأنصار وافين بالعهد لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
وبعد غزوة حنين قسم النبي –صلى الله عليه وسلم- الغنائم ولم يعط الأنصار شيئًا، فوجد الأنصار في أنفسهم حتى قال قائلهم: "لقد لقي والله رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قومه".
ودخل عليه سعد بن عبادة وقال: "يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء، قال: "فأين أنت من ذلك يا سعد؟" قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي، قال: فاجمع لي قومك".
فجمعهم، فأتاهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟ وعالةً فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟" قالوا: بلى، لله ورسوله الله المنُّ والفضل، ثم قال: "ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟" قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ "لله ولرسوله المنُّ والفضل...
قال: "أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم، أتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلاً فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا، تألفت بها قومًا ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس واديًا وشعبًا لسلكت وادي الأنصار، وشعب الأنصار، الأنصار شعار والناس دثار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار"، فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: "رضينا برسول الله –صلى الله عليه وسلم- قسمًا وحظًا".
كلمات محبّ خرجت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لامست قلوب الأنصار وذكرتهم أنهم فازوا بأعظم نعمة يوم رجعوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ديارهم ليكمل باقي حياته بين أظهرهم وليموت ويدفن في أرضهم.
لقد فاز الأنصار فوزًا عظيمًا، فقد أصبحت المدينة دارًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها مسجده، وفيها قبره، فيها مات، ومنها يُبعث عليه الصلاة والسلام..
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاة على عباده الذين اصطفى.
أما بعد، فيا معشر المسلمين: المسلمين، لقد وفَّى الأنصار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما عاهدوا عليه، فاستحقوا الثناء من الله ومن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال الله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9].
وقال –عليه الصلاة والسلام-: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار".
وقال –عليه الصلاة والسلام-: "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله".
وقال –عليه الصلاة والسلام-: "أما بعد، أيها الناس، فإن الناس يكثرون وتقل الأنصار، حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرًا يضر فيه أحدًا أو ينفعه، فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم" (رواها جميعًا البخاري).
وقال –عليه الصلاة والسلام: "أوصيكم بالأنصار، فإنهم كَرِشِي وَعَيْبَتِي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم" .
رضي الله عن الأنصار وعن أبناء الأنصار وعن أبناء أبناء الأنصار، ورضي الله عن الصحابة الأطهار، المهاجرين منهم والأنصار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100].
هذا، وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام...