الواحد
كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
نجتزئ من تلك الدروس: المعاشرة الحسنة من النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قائد الأمة وذو المسئوليات المتعددة، لم يقصِّر بحق أهله، ثم يعتذر لنفسه بمشاغله، بل ها هو يتحدث مع أهله ويسمر معهم، وحيث لم ينقل ما الحديث الذي دار بينهما؟ فإن أهم من ذلك ما أثر هذا الحديث على الزوجين في دفع الوحشة, وطرد الجفوة واستدامة الألفة، فهي ساعة خلوية نفسية يستكشف كل زوج ما بنفس زوجه بعد يوم حافل بالمتغيرات، وبعد صخب البيت, ومشاكل الأولاد ومتطلبات الحياة. يستعاد بعدها النشاط ليوم جديد وميدان من الكدح. فهل يعي الأزواج الغائبون الساعات الطويلة في استراحاتهم، ومخيماتهم؟...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله..
أما بعد: فهل تريد – يا عبد الله - أن تُمضي ليلة في بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
حلم ومنية نحتسب عند الله فواتها, ونرجو من الله أعظم منها.
نرجو صحبة دائمة, ومعية خالدة (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء: 69].
وفي صحيح مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ".
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وددت أني لقيت إخواني" قال: فقال أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: أو ليس نحن إخوانك؟ قال: "أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني".
أيها الإخوة: جعل الله لنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21]، وجعل اتباعه سبباً لتحصيل محبة الله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران: 31].
ولا يتم ذلك يا عبد الله إلا بمعرفة هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- والتعرف على سنته، والوقوف على لطائف أخلاقه، وجميل شمائله.
والمعرفة تولد المحبة، والمحبة تحمل على الاقتداء والانقياد بصدق ورغبة!
دعونا نستعرض ساعات قليلة من ليلة مباركة من ليالي النبوة في بيت النبوة.
وكيف كانت تلك الليلة مدرسة متنوعة في العبادة والتعليم والأخلاق وحسن الضيافة والمعاشرة.
أجل أيها الإخوة نبدأ ليلتنا من بعد صلاة العشاء ونختمها بالخروج لصلاة الفجر!
أما دليلنا في هذه الليلة وناقل الأحداث، وراوي الحديث فهو صحابي صغير السن، ولكنه كبير القلب والعقل فطن يعي ما يقول، ويكفيك دليلاً على ذلك والقصة كلها أدلة حينما بين سر تلك الليلة والباعث عليها.
إذن دعونا نصحب ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبدالله بن عباس ليكشف المخفي ويبيّن أسرارًا، بل دروسًا من بيت النبوة، يقول عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "رَقَدْتُ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَهَا، لأَنْظُرَ كَيْفَ صَلاَةُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- باللَّيْلِ؟".
إذن ليس بياته فضول صبيان، واستشراف من غير حاجة إلا الاطلاع فقط.
وميمونة بنت الحارث الهلالية زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- إحدى أمهات المؤمنين -رضي الله عنها-، وهي خالة ابن عباس أخت أمه لبابة الكبرى؛ فهو من محارمها فأكبر بالخالة، وابن أختها.
صلى ابن عباس مع النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة العشاء، ثم أتى النبي بيت ميمونة -رضي الله عنها- فصلى راتبة العشاء، وهذه سنته -عليه الصلاة والسلام- أنه يصلي ما عدا الفريضة في بيته، وقد قال: "خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".
قال ابن عباس: "فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً، أي زمناً، ثُمَّ رَقَدَ النبي -صلى الله عليه وسلم-".
ولك أن تسأل وزوجه ميمونة؟ وكذا ابن عباس؟
هل رقدا؟
نعم، رقدا، وإليك تصوير تلك الرقدة بأبسط وأوضح وصف بعيد عن التكلف والزيادات قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا".
سبحان! وسادة واحدة يتوسدها زوجان، وضيفهم الغلام.
ثم ناموا ما شاء الله أن يناموا, إلا أن الغلام الذي جاء ليرقب هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وينقل سنته لم ينم!
"حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية أنه قام في الثلث الأخير من الليل ثم قَالَ: "نَامَ الْغُلَيِّمُ أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا".
يطمئن على نوم الضيف ابن عباس!
"فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 190- 191]، إلى آخر السورة.
"ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ، وَاسْتَنَّ" أي: استعمل السواك، وهذا قبل وضوئه عليه الصلاة والسلام.
وفي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ، فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَتَسَوَّكُ، وَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي".
قال ابن عباس: "ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي".
تلك العبادة العظيمة التي لم يدعها النبي -صلى الله عليه وسلم- حضراً ولا سفرًا.
وابن عباس يرقب كل هذا!
قال: "فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ. ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ"، إلا أنه -رضي الله عنه- أخطأ الموقف، فوقف عن يسار النبي -صلى الله عليه وسلم-، "فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا، وأداره عن يمينه فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَوْتَرَ.. فَتَتَامَّتْ صَلَاتُهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً"، وفي رواية أنه صلى في تلك الليلة إحدى عشرة ركعة، وكلٌّ سُنّة.
"ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ، فَآذَنَهُ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ" أي: أعلمه، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، "وَلَمْ يَتَوَضَّأْ"؛ لأنه عليه الصلاة والسلام تنام عيناه ولا ينام قلبه.
وهذه السنة في راتبة الفجر التخفيف مع الإتمام، والسنة أيضاً ألا يزيد على الركعتين لا كما يحرص بعض المجتهدين، فربما صلى أحدهم مثنى مثنَى، وربما أطال فيهما، والسنة ألا يزيد على ركعتي راتبة الفجر، ثم يشتغل بما أحب من ذكر أو قرآن.
قال ابن عباس: "ثم خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- ليصلي بالناس صلاة الصبح، وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا، وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا، وَخَلْفِي نُورًا، وَاجْعَلْ لِي نُورًا".
فصلى الله على نبينا محمد....
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد: فتلك الليلة النبوية كانت حافلة بكل خير.
بعد أن علمنا حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على قيام الليل، وإطالة الصلاة فيه، وتعداد ركعاته بإحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، وكيف كان يستعد لذلك بالوضوء والسواك والنوم المبكر.
نجتزئ من تلك الدروس: المعاشرة الحسنة من النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قائد الأمة وذو المسئوليات المتعددة، لم يقصِّر بحق أهله، ثم يعتذر لنفسه بمشاغله، بل ها هو يتحدث مع أهله ويسمر معهم، وحيث لم ينقل ما الحديث الذي دار بينهما؟
فإن أهم من ذلك ما أثر هذا الحديث على الزوجين في دفع الوحشة, وطرد الجفوة واستدامة الألفة، فهي ساعة خلوية نفسية يستكشف كل زوج ما بنفس زوجه بعد يوم حافل بالمتغيرات، وبعد صخب البيت, ومشاكل الأولاد ومتطلبات الحياة.
يستعاد بعدها النشاط ليوم جديد وميدان من الكدح.
فهل يعي الأزواج الغائبون الساعات الطويلة في استراحاتهم، ومخيماتهم؟
هل يعون هذا وهم يعودون في ساعات متأخرة لبيوت لا تسمع فيها همساً قد نام من فيه.
لا علم لهم بأهل ولا ولد.
فأين هم من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فأعط كل ذي حق حقه".
وإلا فلا تشكُ تقصير زوجتك! وتمرد أولادك، وعدم أنسهم بك!
فلا تطلب ما لا تعطي، ولا تؤمل ما لا تستحق. جزاء وفاقًا.
وعن ابن أبي مليكة أن قومًا من قريش كانوا يسمرون بالليل، ويغيبون عن بيوتهم، فكان عائشة -رضي الله عنها- فترسل إليهم: "انقلبوا إلى أهليكم، فإن لهم فيكم نصيبًا".
ولئن كان هذا في حق الأزواج مع بيوتهم، فإن على الأولاد حقّاً لبيوتهم أيضاً، ومن فيها من الوالدين والإخوة والأخوات، فلا تسرقكم كمالات الحياة وترفها عن واجب البيت وحق الوالدين.
ولا يكن هزل الحياة هو الأصل فيكم، وغفلتها هي ديدنكم.
ولكم فيمن حولكم من القرى كيف ذاقت لباس الجوع والخوف؟
ففسدت دنياهم، وتعطلت كثير من أمور دينهم، وتسلط عليهم الأعداء، وصارت منيتهم بعض ما أنتم فيه من الأمن والنعمة والرخاء.
أصلح الله أوضاع المسلمين، وأعاد عليهم أمنهم وإيمانهم...