المجيد
كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان |
والملائكة كغيرهم من المخلوقات: متفاوتون في الأعمال، جعلهم الله رسلاً في تدبير أوامره القدرية، ورسلاً بينه وبين خلقه في تبليغ أوامره الدينية لرسله وأنبيائه، ومنحهم -سبحانه- من القوة والقدرة ما يستطيعون به تنفيذ أوامر ربهم في أسرع وقت، فقوة جميع الخلائق كلها لا تساوي قوة ملك من الملائكة، فكيف بقوة جميع الملائكة؟...
الخطبة الأولى:
إِنّ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا, مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِي لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران آية 102 ]، وقال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [ النساء آية 1 ]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب آية 70-71 ].
أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور مُحْدثاتُها، وكلَّ محدَثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. [أخرجه أبو داود (2118) وصححه الألباني].
واعلموا -عباد الله- أن الله وكّل بنا ملائكة كرامًا، الإيمان بهم يورث العبد علمًا بعظمة الله تعالى وقوته وسلطانه، فإن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق، ويورث له ذلك شكرًا لله على عنايته ببني آدم؛ حيث وكّل بهم هؤلاء الملائكة، الذين يقومون بحفظه، وكتابة أعمالهم، وغير ذلك من مصالحهم.
عباد الله: الإيمان بالملائكة أحد أركان الإيمان الذي لا يتم إلا به، قال تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) [البقرة: 177]، فلا يصح إيمان العبد إلا به، وقد دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، قال الله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) [البقرة: 285]. وقال -تبارك وتعالى-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فاطر: 1].
وقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الإيمان بالملائكة من أركان الإيمان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَلِقَائِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الْآخِرِ". [متفق عليه].
إن الله -تبارك وتعالى- خلق جميع الكائنات السموات والأرض، وخلق الشمس والقمر، والليل والنهار، وخلق ما نراه وما لا نراه، وخلق الدنيا والآخرة، وخلق الأجساد والأرواح، وخلق الإنس والجن، وخلق الملائكة، والملائكة خلق عظيم من خلق الله خلقهم الله من نور، كما في حديث عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خُلِقَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُم" [مسلم (2996)].
وإن الإيمان بالملائكة، معناه الاعتقاد الجازم بوجودهم، وأنهم من خلق الله -سبحانه-، كما نؤمن بما جاءنا من صريح القرآن وصحيح الأخبار من صفاتهم وخلقهم ووظائفهم، والملائكة خلق من خلق الله في عالم الغيب الطاهرين ذاتًا وصفةً وأفعالاً، وليس لهم من خصائص الربوبيّة والألوهية شيء، وخلقهم سابق على خلق آدم أبي البشر، ولما كانت أجسام الملائكة نورانية لطيفة، فإن البشر لا يستطيعون رؤيتهم إلا إذا تمثلوا في صورة بشر، ولم ير الملائكة من هذه الأمة إلا الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإنه رأى جبريل مرتين في صورته التي خلقه الله عليها.
والملائكة من حيث الرتبة والمكانة عباد مكرمون، وهم من حيث الطاعة لله منحهم الله -عزَّ وجلَّ- القدرة الكاملة لعبادته، والانقياد التام لأمره، وأعطاهم القدرة على تحقيقه، وجبلهم على الطاعة فهم: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6]، وهم من حيث عملهم يعبدون الله ويسبحونه على الدوام، لا يسأمون ولا يفترون ولا يستكبرون، قال -سبحانه-: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء: 19-20].
والملائكة من حيث العدد خلقٌ كثير لا يحصيهم إلا الله -جل جلاله-، منهم من أعلمنا الله بأسمائهم وأعمالهم، ومنهم من اختص الله بعلمهم، فنؤمن بمن سمى الله منهم كجبريل وميكائيل وإسرافيل، ومالك خازن النار، ورضوان خازن الجنة، ومن لم نعلم اسمه منهم ولا صفته ولا وظيفته الخاصة نؤمن بهم إجمالاً.
وملائكة الله ليسوا على درجة واحدة في الخلق والقوة، والصفات والحجم، فبعض الملائكة له جناحان، وبعضهم له ثلاثة، وبعضهم له أربعة، وجبريل له ستمائة جناح، وفي خلقهم يقول -جل وعلا-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فاطر: 1].
عباد الله: وقد أخبرنا الوحي والشرع ببعض مهام الملائكة وأعمالهم، فمنهم حَمَلة العرش، ومنهم الذين حول العرش، ومنهم ملائكة السموات، فكل سماء مملوءة بالملائكة، بل ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد لله، ففي قصة المعراج عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أتى السماء السابعة قال: "فَرُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَسَألْتُ جِبْرِيلَ فَقال: هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا لَمْ يَعودُوا إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ" [البخاري (3207)].
عباد الله: والملائكة كغيرهم من المخلوقات: متفاوتون في الأعمال، جعلهم الله رسلاً في تدبير أوامره القدرية، ورسلاً بينه وبين خلقه في تبليغ أوامره الدينية لرسله وأنبيائه، ومنحهم -سبحانه- من القوة والقدرة ما يستطيعون به تنفيذ أوامر ربهم في أسرع وقت، فقوة جميع الخلائق كلها لا تساوي قوة ملك من الملائكة، فكيف بقوة جميع الملائكة؟، فكيف بقوة من خلقهم -سبحانه-؟.
فمن الملائكة: حَمَلة العرش الثمانية، خلقهم عظيم، فما بين شحمة أذن أحدهم ومنكبه مسيرة سبعمائة عام، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ العرش مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إلى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ" [أبو داود (4727) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (151)].
فإذا كانت المسافة من الأذن إلى العاتق سبعمائة سنة، فكم تكون المسافة من رأسه إلى رجليه؟ وكم تكون قوة هذا الملك الذي يحمل العرش الذي السموات والأرض بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في أرض فلاة؟ وإذا كانت هذه عظمة حملة العرش، فكيف بعظمة العرش الذي هذا الملَك أحد حَمَلته؟ وكيف بقوة وعظمة الذي خلق العرش وخلق حملته، وخلق جميع ما في الكون؟ فما أجهلنا بالرب وأسمائه وصفاته!! وما أجرأنا على معصية أوامره، فاللهم: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].
وهذا جبريل -عليه السلام- أمين الوحي، سيد الملائكة، وكَّله الله بالوحي إلى الأنبياء (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير : 20- 21]، خلق الله له ستمائة جناح، جناح واحد منها لما نشره سدَّ الأفق، وتأمل قوة هذا الجناح بطرفه قلع خمس قرى من قرى قوم لوط بما فيها من المخلوقات والجبال، ثم رفعها إلى السماء، ثم قلبها عليهم بأمر الله -عزَّ وجلَّ-. فإذا كانت هذه قوة طرف جناحه، فكم قوة كامل جناحه؟ وكم قوة وعظمة أجنحته الستمائة التي خلقها الله له؟ وكم تكون قوة جسده؟ فكيف بقوة خالقه العزيز الجبار -جلَّ جلاله-؟ عن ابْن مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى جِبْرِيلَ، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ" [البخاري (3232)].
وهذا إسرافيل ملك من الملائكة، وكَّله الله بالنفخ في الصور، والصور قرن كالبوق، بنفخة واحدة يصعق من في العالم العلوي، ومن في العالم السفلي، إلا من شاء الله. بنفخة أخرى فإذا الخلائق كلهم قيام ينظرون، يقومون لرب العالمين، قال -سبحانه-: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر: 68]، فهاتان نفختان من إسرافيل، بالأولى مات من في العالم، وبالأخرى دبت الحياة في جميع من في العالم.
فماذا يملك إسرافيل من النفخات؟ وإذا كانت هذه قوة نفخته، فكم تكون قوة جسده؟ وكم تكون قوة من خلقه وأمره -جلَّ جلاله- وأعطاه هذه القدرة؟ فسبحان العزيز الجبار الكبير المتعال الذي قهر جميع الخلائق، وخلق القوة في كل قوي: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) [هود: 66].
والملَك الموكل بالقطر ميكائيل -عليه السلام-، وكَّله الله بالقطر والنبات الذي به حياة الأبدان، فكم من المياه يكيلها ويفرّقها في العالم بأمر الله؟ وكم من الأرزاق التي يكيلها للخلائق كل يوم بأمر الله؟ فسبحان من أعطاه القدرة على معرفتها، وقسمتها، وتوزيعها في العالم.
وعلى أعمال بني آدم وكَّل الله ملائكة يحصون خيرها وشرها، ويحفظون ويكتبون قليلها وكثيرها، قال -سبحانه-: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]، وقال -سبحانه-: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف: 80].
وبالرياح وكَّل الله -سبحانه- ملائكة تصرّفها بأمره، ووكل بالقطر ملائكة تنزلها بأمره، ووكل بالسحاب ملائكة تسوقه وتفرغه بأمره، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ" [مسلم (2984)]، ووكل -سبحانه- بالجبال ملائكة يقومون عليها، ويحركونها ويرفعونها بأمر الله.
وللرحمة وكَّل -سبحانه- ملائكة يوصلونها أهلها بأمره، ووكل بالعذاب ملائكة ينزلونه على مستحقيه بأمره، ووكل -سبحانه- بالبحار ملائكة تمنعها أن تفيض على الأرض فتغرق أهلها، وتسجرها نارًا إذا كان يوم القيامة.
ووكَّل -سبحانه- بالجنة ملائكة يبنونها ويفرشونها، ويصنعون أرائكها وسررها، وصحافها ونمارقها، وزرابيها وقصورها ويزينونها للوافدين عليها بأمره. ووكل بالنار ملائكة يبنونها، ويوقدونها ويسجرونها، ويصنعون أغلالها وسلاسلها، ويوقدونها لأهلها بأمره: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6].
أيها المؤمنون: أما مقامات الملائكة عند ربهم فمتفاوتة معلومة، قال -سبحانه-: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) [الصافات: 164-165]، وقال -سبحانه- في جبريل -عليه السلام-: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) [التكوير: 19، 20]، فالأصل في منازل الملائكة ومساكنهم أنها في السماء، ولكنهم ينزلون إلى الأرض بأمر الله، لتنفيذ مهمات أوكلت إليهم كما قال جبريل: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم: 64]، ويكثر نزولهم في مناسبات وأوقات خاصة كليلة القدر: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) [القدر: 4].
والملائكة -إخواني- يموتون عند النفخ في الصور كما يموت الإنس والجن، إلا من استثناهم الله في الآية، ثم تقبض أرواحهم حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم بالبقاء، كما قال -سبحانه-: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: 88].
وإياكم -عباد الله- ووصف الملائكة بالذكورة أو الأنوثة، فقد ضل كثير من الناس في هذه القضية، والسبب في ذلك أنهم يحاولون إخضاع العوالم الغيبية لمقاييسهم البشرية الدنيوية، فلا يجوز أن نصف الملائكة بأنهم إناث، ولا يجوز أيضًا أن نصفهم بأنهم ذكور، وإنما نقف إلى حيث أرشدنا كتاب الله -عز وجل- في هذه القضية: (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) [الزخرف:19]، فهم إذًا عباد الرحمن.
وقد ضل مشركو العرب، وخاضوا في هذه القضية، وزعموا أن الملائكة إناث، بل قد زادوا في ذلك بقولهم: إن هؤلاء الإناث بنات الله، وقد ناقشهم القرآن في هاتين القضيتين، فبيّن أنهم لم يعتمدوا على دليل صحيح فيما ذهبوا إليه: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ) [الصافات:149- 156].
عباد الله: والملائكة أنصح خلق الله وأنفعهم لبني آدم، وعلى أيديهم حصل لهم كل سعادة وعلم وهدى، يستغفرون لمسيئهم، ويثنون على مؤمنيهم، ويدعون لهم، ويعينونهم على أعدائهم من الكفار والشياطين، والشياطين أغشّ خلق الله لعباده، وعلى أيديهم حصل لهم كل شر وإضلال وغواية وإفساد.
والملائكة أهل طاعة مطلقة، فقد كانوا أولى الخلق بالطمأنينة، ولكنهم دائبون في تسبيح ربهم واستغفاره؛ استدرارًا لمغفرته ورحمته، ولما يحسون من علوه وعظمته، ولما يعلمون من جماله وجلاله، ولما يخشون من التقصير في طاعته وحمده, بينما أهل الأرض المقصّرون الضعاف يكفرون، وينحرفون في أقوالهم وأفعالهم، حتى إن السموات ليكدن يتفطرن من فوقهن من شذوذ بعض أهل الأرض، وإشراكهم بالله وكفرهم به، بينما الملائكة الكرام يستغفرون لمن في الأرض جميعًا من هذه الفعلة الشنعاء التي جاء بها بعض المنحرفين: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الشورى: 5].
إن الملائكة تشفق من غضب الله، ولشفقتهم يفزعون للاستغفار لأهل الأرض، مما يقع في الأرض من معصية وتقصير في حق فاطر السموات والأرض، ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، كما أخبر الله عنهم بقوله: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) [غافر: 7].
فهؤلاء هم ملائكة الرحمن وعباده، وهذه هي بعض وظائفهم وإذا عرفنا ذلك فيجب أن نعلم أن كل حركة في السماء والأرض سببها الملائكة، وحركتهم طاعة الله بأمره وإرادته، فيرجع الأمر كله إلى تنفيذ مراد الرب تعالى شرعًا وقدرًا، والملائكة هم المنفذون ذلك بأمره، فهم رسل الله في تنفيذ أوامره في ملكه: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء: 27-28].
فبادروا إخواني إلى طاعة ربكم، واحرصوا على مرضاته، واجتنبوا ما يغضبه، نفعني الله وإياكم بالكتاب والسنة، وأدخلني وإياكم الجنة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع, يزيد في الخلق ما يشاء، إن الله على كل شيء قدير, وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الجلال والإكرام, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الرسل الكرام, اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين.
أما بعد: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته، وترك ما يغضبه، والعمل بما يرضيه.
عباد الله: جعل الله الملائكة تقوم على تدبير بعض أمور الدنيا والآخرة، قال -سبحانه-: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) [النازعات: 5]، وهم الملائكة، الذين وكلهم الله أن يدبروا كثيرًا من أمور المخلوقات، من الأمطار، والنبات، والأشجار، والرياح، والبحار، والأجنة، والحيوانات، والجنة، والنار، فهي تقسم الأمر وتدبره بإذن الله وكل منهم قائم بعمله الذي خصص له لا ينقص فيه ولا يتعدى إلى غيره.
ولذلك لا بد أن نتيقن أن ملائكة الله ليسوا سوى منفذين لأوامر الله في خلقه؛ في كل حال، وفي كل وقت، وفي كل مكان، وفي كل مخلوق، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وكل منهم يقوم بما وكله الله به، وربهم قائم عليهم وعلى أعمالهم، وهم محتاجون لله ضعفاء إليه لا يملكون لأنفسهم شيئًا، ولا يقدرون أن ينفذوا أمرًا إلا بما وهبهم الله ومكَّنهم.
فعلينا –إخوة الإسلام- أن نشعر بوجود هؤلاء الملائكة الكرام الذين هم معنا يكتبون الأعمال، والأقوال، ويحفظونها، وعلينا إجلالهم وتوقيرهم وإكرامهم والحياء منهم، فهم الذين يدافعون عن المؤمنين، ويستغفرون لهم، فلا يليق بالمؤمنين أن ينسوا جوارهم، أو يتناسوا جميلهم، ويتسببوا في أذاهم، وطردهم عنه، فالملك ضيف الإنسان وجاره، والإحسان إلى الجار، وإكرام الضيف من لوازم الإيمان، والملائكة المرافقون للإنسان أكرم ضيف وأعز جار, وقد نبَّه الله على هذا بقوله: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار: 10 - 12]، أي استحوا من هؤلاء الحافظين الكاتبين الكرام، وأكرموهم وأجلوهم أن يروا منكم ما تستحيون أن يراكم عليه من هو مثلكم.
أيها المؤمنون: إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، وإذا كان ابن آدم يتأذى ممن يفجر ويعصي بين يديه وإن كان يعمله، فما الظن بأذى الملائكة الكرام الكاتبين؟ وما الظن بمبارزة الملك العظيم الجبار بالمعاصي والفواحش؟.
ولذا فإن الملائكة تحب ما يحبه الله، فتحب المؤمنين، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا أحَبَّ اللهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأرْضِ" [البخاري (3209)].
والملائكة تصلي على المؤمنين، قال -سبحانه-: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) [الأحزاب: 43]، والصلاة من الله ثناؤه على العبد عند الملائكة ورحمته له، والصلاة من الملائكة بمعنى الدعاء للمؤمنين والاستغفار لهم، لذلك ورد أن الملائكة يصلون على معلمي الناس الخير، ويصلون على الذين ينتظرون صلاة الجماعة ما لم يحدثوا، ولله وملائكته يصلون على أهل الصف الأول، وعلى الصفوف المتقدمة، وعلى الذين يصلون الصفوف، ويسدون الفرج، وعلى الذين يتسحرون، وعلى الذين يصلون على النبي -صلى الله عليه وسلم-، والملائكة يستغفرون للذين يعودون المرضى، وكل هذه ثبت بالأحاديث الصحاح.
وإن استغفار الملائكة للمؤمنين ودعاءهم لهم صريح في كتاب الله، قال تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) [غافر: 7]. ويؤمنون على دعاء المؤمنين، وبذلك يكون هذا الدعاء أقرب للإجابة، فعن أم الدرداء -رضي الله عنه-ا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لأخِيهِ، بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، كُلَّمَا دَعَا لأخِيهِ بِخَيْـرٍ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ. وَلَكَ بِمِثْلٍ" [مسلم (2733)].
ولا ينبغي للمؤمن أن يدعو على نفسه أو على غيره بشر أو بمكروه، فعن أم سلمة -رضي الله عنه-ا قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَدْعُوا عَلَى أنْفُسِكُمْ إِلا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ" [مسلم (920)].
عباد الله: والملائكة تشهد مجالس العلم وتحضر حلق الذكر، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الله مَلائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ الله تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إلى حَاجَتِكُمْ. قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأجْنِحَتِهِمْ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا" [البخاري (6408)].
ويوم الجمعة تسجل أعمال المصلين، وتكتب ساعة حضورهم المبكر منهم والمتأخر، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -عليه الصلاة والسلام-: "إذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَقَفَتِ الْمَلائِكَةُ عَلَى باب الْمَسْجِدِ، يَكْتُبُونَ الأوَّلَ فَالأوَّلَ، وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَبْشًا، ثُمَّ دَجَاجَةً، ثُمَّ بَيْضَةً، فَإذَا خَرَجَ الإمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ، وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ"[البخاري (292)].
ويتعاقبون على المؤمنين في الصباح والمساء؛ فطائفة تأتي، وطائفة تذهب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ: مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْألُهُمْ وَهُوَ أعْلمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُمْ وَهمْ يُصَلُّونَ، وَأتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ" [البخاري (555) ومسلم (632)].
وهناك ملائكة سياحون يبلّغون سلام الأمة للنبي -صلى الله عليه وسلم- في كل وقت، ومنهم من يحمل البشارات للأنبياء وغيرهم كما بشرت الملائكة إبراهيم، قال -سبحانه-: (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) [الذاريات: 28]، وكما بشرت زكريا بيحيى عليهما السلام، قال -سبحانه-: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران: 39].
عباد الله: والملائكة تشهد جنائز الصالحين، وتظل الشهداء بأجنحتها، وذكر القرآن قتال جموع من الملائكة مع المؤمنين ضد أعدائهم كم في بدر وحنين، قال -سبحانه-: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) [الأنفال: 12]، ومنهم من يرسله الله لحماية ونصرة صالحي عباده وغوثهم وإمدادهم بما يحتاجونه، كما أرسل جبريل لإغاثة هاجر وابنها إسماعيل، فبحث بعقبه حتى خرج ماء زمزم بأمر الله، ومثل حمايتهم لمكة والمدينة من الدجال، والملائكة يؤمنون مع المؤمنين، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذَا أمَّنَ الإمَامُ فَأمِّنُوا، فَإنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" [متفق عليه].
فهذه بعض أعمال الملائكة مع المؤمنين، وليست على سبيل الحصر بل الإشارة، فعلينا أن نتولى جميع الملائكة بالحب والتوقير والإكرام، ونتجنب ما يسيء إليهم ويؤذيهم من المعاصي والمنكرات، والروائح الكريهة، فالملائكة لا تدخل الأماكن والبيوت التي يعصى الله فيها، أو يوجد فيها ما يكرهه الله ويبغضه كالأنصاب والصور، والتماثيل والكلاب، والسكران، والجنب إلا أن يتوضأ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَتَأذَّى مِمَّا يَتَأذَّى مِنْـهُ بَنُو آدَمَ" [مسلم (563)].
أيها المسلمون: والملائكة لا يحبون الكفار ولا الظالمين المجرمين، بل يعادونهم ويحاربونهم ويلعنونهم، وقد حاربت الملائكة مع أولياء الله ضد الكفار في بدر كما قال -سبحانه-: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال: 9]، وحاربوا يوم الأحزاب في الخندق، قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) [الأحزاب: 9].
ومن ذلك أيضًا ما فعله جبريل -عليه السلام- مع عدوه الله فرعون، ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:"قَالَ لِي جِبْرِيلُ: لَوْ رَأَيْتَنِي يَا مُحَمَّدُ وَأَنَا أَغُطُّهُ يَعْنِي فِرْعَوْنَ بِإِحْدَى يَدَيَّ، وَأَدُسُّ مِنَ الْمَاءِ فِي فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ رَحْمَةُ رَبِّهِ، فَيَغْفِرَ لَهُ" [شعب الإيمان (12- 20)].
وقد أرسل الله ملائكة إلى قوم لوط الذين جمعوا مع الكفر فاحشة إتيان الذكران من العالمين، فرفع جبريل -عليه السلام- ديارهم بمن فيها ثم قلبها، والملائكة تلعن الكفرة الذين كفروا بالله ولم يستجيبوا لرسله وماتوا على ذلك، كما قال -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [البقرة: 161].
ولا تلعن الملائكة الكفرة فحسب، بل قد تلعن من فعل ذنوبًا معينة، كالمرأة التي يدعوها زوجها إلى الفراش فتأبى، فالملائكة تلعنها حتى ترجع، ومن أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، لما فيه من الترويع لأخيه، ومن أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "المَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا، لاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" [البخاري(1867)]. وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قال -عليه الصلاة والسلام-: "وَمَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ،" [مسلم (1370)].
فما أعظم قدرة الله، وما أعظم مخلوقاته، وما أعظم خلقه من الملائكة الذين لا يحصيهم ولا يحصي أعمالهم إلا الله، وله الحمد -سبحانه- على عنايته ببني آدم حيث وكل من الملائكة من يقوم بحفظهم ونصرتهم والدعاء لهم، والاستغفار لهم، فعلينا محبة من يقومون بعبادة الله، والدعاء والاستغفار للمؤمنين، وتنفيذ أوامر الله، وتبليغ الوحي إلى رسل الله.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا مبدلين ولا مغيرين، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئ الأخلاق والأعمال، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، واجعلنا من عبادك الصالحين.