الرحمن
هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن صالح العجلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - السيرة النبوية |
حَدِيثُنَا عَنِ الْمَلِكِ الْأَسِيرِ، وَالْعَزِيزِ الْكَسِيرِ، صَاحِبِ الْخَبَرِ الْمُثِيرِ، الَّذِي سَحَرَهُ الْخُلُقُ الْمُحَمَّدِيُّ، فَغَيَّرَهُ مِنَ النَّقِيضِ إِلَى النَّقِيضِ. فَمَنْ هُوَ هَذَا الشَّرِيفُ؟ وَكَيْفَ أُسِرَ؟ وَلِمَاذَا أُخِذَ؟ مَا خَبَرُهُ وَمَا حَالُهُ، وَكَيْفَ هُوَ أَمْرُهُ وَمَا مَآلُهُ؟..
الخطبة الأولى:
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: حَدِيثُنَا عَنِ الْمَلِكِ الْأَسِيرِ، وَالْعَزِيزِ الْكَسِيرِ، صَاحِبِ الْخَبَرِ الْمُثِيرِ، الَّذِي سَحَرَهُ الْخُلُقُ الْمُحَمَّدِيُّ، فَغَيَّرَهُ مِنَ النَّقِيضِ إِلَى النَّقِيضِ.
فَمَنْ هُوَ هَذَا الشَّرِيفُ؟ وَكَيْفَ أُسِرَ؟ وَلِمَاذَا أُخِذَ؟ مَا خَبَرُهُ وَمَا حَالُهُ، وَكَيْفَ هُوَ أَمْرُهُ وَمَا مَآلُهُ؟
قِصَّةُ الْبِدَايَةِ كَانَتْ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، حِينَ خَاطَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُلُوكَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ سَيِّدٌ مُطَاعٌ، وَمُهَابٌ لَا يُسْتَطَاعُ، لَا يُعْصَى إِنْ أَمَرَ، وَلَا يُعَانَدُ إِنْ زَجَرَ، سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِ بَنِي حَنِيفَةَ فِي نَجْدٍ.
وَصَلَهُ كِتَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، وَامْتَلَأَ قَلْبُهُ حَنَقًا، وَغَيْظًا عَلَى نَبِيِّ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى دِينِهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، حَتَّى غَدَا ذَلِكَ الْكُرْهُ وَالْبُغْضُ دَمًا يَجْرِي فِي عُرُوقِهِ، وَهَوَاءً يَتَنَفَّسُ بِهِ، فَفَكَّرَ وَقَدَّرَ، وَخَطَّطَ وَدَبَّرَ قَتْلَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَوَأْدَ دَعْوَتِهِ مَعَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَكْرَ الْكُبَّارَ وَالْحِيلَةَ الْآثِمَةَ، وَقَفَتْ عَاجِزَةً، أَمَامَ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [الْمَائِدَةِ: 67]... وَتَمَكَّنَ هَذَا الْمَلِكُ مِنْ أَسْرِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، فَقَتَلَهُمْ شَرَّ قِتْلَةٍ، وَأَخْرَجَ شَيْئًا مِنْ كُرْهِهِ وَعَدَاوَتِهِ لِلنَّبِيِّ وَصَحَابَتِهِ وَدِينِهِ.
وَتَصِلُ الْأَخْبَارُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَأْمُرُ بِهَدْرِ دَمِهِ، وَيُعْلِنُ ذَلِكَ بَيْنَ صَحَابَتِهِ فِي الْمَدِينَةِ.
وَيَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَأْتِيَ هَذَا الشَّرِيفُ مِنْ نَجْدٍ قَاصِدًا مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ، فَلَمْ يُفَاجِئْهُ إِلَّا سَرِيَّةٌ مُحَمَّدِيَّةٌ عَسْكَرِيَّةٌ اسْتِطْلَاعِيَّةٌ تَجُوبُ أَرْضَ نَجْدٍ، فَتُحِيطُ بِهِ، وَتَلُفُّهُ [[وَتَأْخُذُهُ]] أَسِيرًا، وَتَقْتَادُهُ ذَلِيلًا، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ أَنَّ الْمَأْسُورَ هُوَ قَاتِلُ الصَّحَابَةِ.
وَصَلَتِ السَّرِيَّةُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَشَدَّتْ أَسِيرَهَا فِي سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، يَنْتَظِرُونَ رَأْيَ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ فِيهِ.
وَيَخْرُجُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ أَحَدِ حُجُرَاتِهِ، لِيَرَى الرَّجُلَ مَرْبُوطًا فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: "أَتَدْرُونَ مَنْ أَخَذْتُمْ؟" قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: "هَذَا ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ".
ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُمْ: "أَحْسِنُوا إِسَارَهُ"، ثُمَّ رَجَعَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إِلَى أَهْلِهِ وَقَالَ: "اجْمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَكُمْ مِنْ طَعَامٍ، وَابْعَثُوا بِهِ لِابْنِ أُثَالٍ"، ثُمَّ أَمَرَ بِنَاقَتِهِ أَنْ تُحْلَبَ لَهُ بِالْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ.
نَعَمْ... لَقَدْ كَانَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَفْتِكَ بِثُمَامَةَ وَيَصْلُبَهُ وَيُشَرِّدَ بِهِ مَنْ خَلْفَهُ، وَلَكِنَّ هِدَايَتَهُ كَانَتْ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنْ هَذَا.
وَبَعْدَ الْإِكْرَامِ وَالْإِحْسَانِ أَقْبَلَ صَاحِبُ الْخُلُقِ الْكَبِيرِ [[الْكَرِيمِ]]، وَحَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ثُمَامَةَ هَذَا الْحِوَارُ الْمُثِيرُ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟"؛ فَيَرُدُّ ثُمَامَةُ بِمَنْطِقِ السَّادَةِ وَوُثُوقِ الْأَشْرَافِ: "عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ؛ فَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَالًا فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ".
فَسَكَتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَرَكَهُ، وَأَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ جَاءَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ، فَخَاطَبَهُ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" فَقَالَ ثُمَامَةُ: "لَيْسَ عِنْدِي إِلَّا مَا قُلْتُ لَكَ؛ إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَالًا فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ".
فَسَكَتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَامَ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَمَرَ بِإِكْرَامِهِ، وَيَأْتِي الْيَوْمُ الثَّالِثُ فَيَمْشِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى نَاحِيَةِ الْأَسِيرِ، فَيُعِيدُ عَلَيْهِ سُؤَالَهُ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" فَيَأْتِيهِ الْجَوَابُ: "إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَالًا فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ".
هُنَا الْتَفَتَ رَسُولُ الْهُدَى وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: "فُكُّوا وَثَاقَهُ".
غَادَرَ ثُمَامَةُ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَضَى حَتَّى إِذَا بَلَغَ نَخْلًا فِي الْمَدِينَةِ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ عِنْدَهُ، فَاغْتَسَلَ وَتَطَهَّرَ وَتَجَمَّلَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَسْجِدِ بِوَجْهٍ جَدِيدٍ، وَقَلْبٍ آخَرَ، لِيَقِفَ عَلَى مَلَأِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ عَلَاهُمُ الصَّمْتُ، وَلَفَّهُمُ الذُّهُولُ مِنْ عَوْدَتِهِ لِيُعْلِنَهَا أَمَامَهُمْ: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ".
ثُمَّ تَقَدَّمَ ثُمَامَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَزَفَرَتْ نَفْسُهُ بِكَلِمَاتٍ مُعَبِّرَاتٍ قَالَ: "يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ؛ وَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ الْآنَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَوَاللَّهِ مَا كَانَ دِينٌ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ؛ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَوَاللَّهِ مَا كَانَ بَلَدٌ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ؛ فَأَصْبَحَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ".
ثُمَّ أَرْدَفَ قَائِلًا: "لَقَدْ كُنْتُ أَصَبْتُ فِي أَصْحَابِكَ دَمًا؛ فَمَا الَّذِي تُوجِبُهُ عَلَيَّ؟ قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مُبَشِّرًا لِثُمَامَةَ: "لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكَ يَا ثُمَامَةُ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ"؛ فَانْبَسَطَتْ أَسَارِيرُ ثُمَامَةَ وَقَالَ: "وَاللَّهِ لَأُصِيبَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَضْعَافَ مَا أَصَبْتُ مِنْ أَصْحَابِكَ، وَلَأَضَعَنَّ نَفْسِي وَسَيْفِي وَمَنْ مَعِي فِي نُصْرَتِكَ وَنُصْرَةِ دِينِكَ...". ثُمَّ قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ؛ فَبِمَاذَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ؟". فَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "امْضِ لِأَدَاءِ عُمْرَتِكَ، وَلَكِنْ عَلَى شِرْعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ"، وَعَلَّمَهُ مَا يَقُومُ بِهِ مِنَ الْمَنَاسِكِ.
مَضَى ثُمَامَةُ إِلَى غَايَتِهِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَطْنَ مَكَّةَ وَقَفَ يُجَلِّلُ بِصَوْتِهِ تَلْبِيَةَ التَّوْحِيدِ.
فَسَمِعَتْ قُرَيْشٌ صَوْتَ التَّلْبِيَةِ وَالتَّوْحِيدِ؛ فَطَاشَ صَوَابُهَا، وَهَبَّتْ غَاضِبَةً حَانِفَةً، نَاحِيَةَ الصَّوْتِ الَّذِي جَاءَ يُبَارِزُهُمْ فِي مَمْلَكَتِهِمْ وَعُقْرِ دَارِهِمْ، فَقَامُوا إِلَيْهِ وَضَرَبُوهُ ضَرْبًا شَدِيدًا حَتَّى أَنْقَذَهُ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَقَالَ: "هَذَا ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَأَنْتُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى الْحِنْطَةِ مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ". فَتَرَكُوهُ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ جَلَسَ ثُمَامَةُ، وَقَالَ: "وَاللَّهِ لَا تَصِلُ إِلَيْكُمْ بَعْدَ الْيَوْمِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ -وَهِيَ الْقَمْحُ- حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ".
ثُمَّ اعْتَمَرَ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ عَلَى مَرْأًى مِنْ قُرَيْشٍ كَمَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَعْتَمِرَ، ثُمَّ مَضَى إِلَى بِلَادِهِ؛ فَأَمَرَ قَوْمَهُ أَنْ يَحْبِسُوا عَنْ قُرَيْشٍ الْحِنْطَةَ، وَأَنْ يُقَاطِعُوا قُرَيْشًا حَتَّى تَرْضَخَ وَتَعْتَذِرَ لِلنَّبِيِّ، فَاسْتَجَابُوا لَهُ، وَأَطَاعُوا أَمْرَهُ.
وَأَخَذَتِ الْمُقَاطَعَةُ وَالْحِصَارُ يَشْتَدُّ عَلَى قُرَيْشٍ، وَارْتَفَعَتِ الْأَسْعَارُ، وَقَلَّ الطَّعَامُ وَفَشَا فِيهِمُ الْجُوعُ؛ حَتَّى خَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ مِنَ الْهَلَاكِ.
عِنْدَ ذَلِكَ خَضَعُوا وَذَلُّوا وَكَتَبُوا لِلرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُونَ: "إِنَّ عَهْدَنَا بِكَ أَنَّكَ تَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحُضُّ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ قَدْ قَطَعَ مَصَالِحَنَا وَأَضَرَّ بِنَا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَكْتُبَ إِلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْنَا بِمَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ؟". فَمَا كَانَ مِنْهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إِلَّا أَنْ كَتَبَ إِلَى ثُمَامَةَ بِأَنْ يُطْلِقَ لِقُرَيْشٍ طَعَامَهَمُ الَّذِي يَتَقَوَّتُونَ بِهِ.
وَبَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحُصُولِ الرِّدَّةِ، كَانَ لِثُمَامَةَ مَوْقِفٌ مَذْكُورٌ؛ حِينَ هَجَرَ قَوْمَهُ وَوَقَفَ ضِدَّ مُسَيْلِمَةَ وَبَنِي حَنِيفَةَ وَقَالَ لَهُمْ: "يَا بَنِي حَنِيفَةَ، إِيَّاكُمْ وَهَذَا الْأَمْرَ الْمُظْلِمَ الَّذِي لَا نُورَ فِيهِ، إِنَّهُ –وَاللَّهِ- لَشَقَاءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى مَنْ أَخَذَ بِهِ مِنْكُمْ، يَا بَنِي حَنِيفَةَ، إِنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ نَبِيَّانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَلَا نَبِيَّ يُشْرَكُ مَعَهُ"، ثُمَّ انْحَازَ بِمَنْ بَقِيَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَخَذَ يُقَاتِلُ الْمُرْتَدِّينَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
دَعَانَا إِلَى تَرْكِ الدِّيَانَةِ وَالْهُدَى | مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ إِذْ جَاءَ يَسْجَعُ |
فَيَا عَجَبًا مِنْ مَعْشَرٍ قَدْ تَتَابَعُوا | لَهُ فِي سَبِيلِ الْغَيِّ وَالْغَيُّ أَشْنَعُ |
تِلْكَ -عِبَادَ اللَّهِ- طُرَفٌ مِنْ خَبَرِ ثُمَامَةَ مَعَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ ثُمَامَةَ، وَأَلْحَقَنَا وَإِيَّاهُ فِي رَكْبِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُصْطَفَيْنَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا، بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعْدُ فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ... تُشْرِقُ عَلَيْنَا قِصَّةُ ثُمَامَةَ بِدُرُوسٍ تَرْبَوِيَّةٍ، وَفَوَائِدَ فِقْهِيَّةٍ، وَرَسَائِلَ دَعْوِيَّةٍ.
فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ تَجْسِيدٌ وَاقِعِيٌّ لِقَوْلِ الْحَقِّ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الْأَنْبِيَاءِ: 107]، رَحْمَةً إِلَهِيَّةً، لَيْسَ لِلْمُوَحِّدِينَ فَحَسْبُ، بَلْ لِلْعَالَمِينَ أَجْمَعَ، لَقَدْ كَانَ ثُمَامَةُ مَرْبُوطًا بَيْنَ يَدَيْهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَيَاتُهُ رَهْنُ إِشَارَتِهِ، لَكِنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي مُلِئَ قَلْبُهُ رَحْمَةً، وَكَادَتْ نَفْسُهُ تَذْهَبُ حَسَرَاتٍ عَلَى إِعْرَاضِ النَّاسِ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَطِّشًا لِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ يَسْتَهْوِيهِ التَّشَفِّي مِنَ الْخُصُومِ، بَلْ كَانَ هَمُّهُ وَغَايَتُهُ أَنْ يُنْقِذَ النَّاسَ مِنَ النَّارِ، وَأَنْ يُعَبِّدَ الْخَلْقَ لِلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ.
لَقَدْ عَلَّمَنَا خَبَرُ ثُمَامَةَ أَنَّ الْخُلُقَ الْحَسَنَ هُوَ مِفْتَاحُ الْقُلُوبِ، وَأَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْمُخَالِفِينَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي قَلْبِ الْمَوَازِينِ، وَرَأَيْنَا كَيْفَ تَحَوَّلَ ثُمَامَةُ مِنْ عَدُوٍّ لَدُودٍ إِلَى مُحِبٍّ وَدُودٍ، وَفِي الْكِتَابِ الْحَكِيمِ: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فُصِّلَتْ: 34-35].
وَفِي رَبْطِ ثُمَامَةَ فِي الْمَسْجِدِ مَقْصِدٌ دَعْوِيٌّ لِيَرَى بِعَيْنَيْهِ الْوَاجِهَةَ الْحَيَاتِيَّةَ لِمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِينَ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَعَلَاقَاتِهِمْ، وَالَّتِي أَعْظَمُ مَا تَكُونُ وَتُرَى فِي بُيُوتِ اللَّهِ، وَإِذَا كَانَ ثُمَامَةُ الْخَصْمَ الْبَاغِيَ، نَالَهُ الْخُلُقُ الرَّاقِي، فَغَيْرُهُ أَوْلَى أَنْ يَنَالَ نَصِيبًا وَحَظًّا وَافِرًا مِنْ هَذَا الْخُلُقِ، وَكَمْ نَحْنُ الْيَوْمَ بِحَاجَةٍ أَنْ نَتَحَلَّى بِأَخْلَاقِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَمَاحَتِهِ وَعَدَالَتِهِ وَرَحْمَتِهِ لِنَغْزُوا بِهَذَا السِّحْرِ مَلَايِينَ الْبَشَرِ، لَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ، أَوْ رُبَّمَا عَرَفُوهُ مُشَوَّهًا مُحَرَّفًا، بِسَبَبِ الْحَمَلَاتِ الْإِعْلَامِيَّةِ الْمُغْرِضَةِ.
وَعَلَّمَنَا خَبَرُ ثُمَامَةَ أَنَّ التَّشَفِّيَ وَالِانْتِقَامَ لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْكِرَامِ، فَحِينَ اسْتَشْفَعَتْ قُرَيْشٌ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ مُقَاطَعَةَ ثُمَامَةَ، وَسَأَلُوهُ بِالرَّحِمِ، اسْتَجَابَ لَهُمُ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ وَكَتَبَ لِثُمَامَةَ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ بِإِمْكَانِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِحُرُوبِهِمُ الْكَثِيرَةِ، وَبِمُقَاطَعَتِهِمُ الْأَثِيمَةِ لَهُ فِي شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَكِنَّ تَعَامُلَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ خُصُومِهِ بِمَبَادِئِهِ هُوَ لَا بِأَخْلَاقِهِمْ هُمْ، وَكَمْ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ مِنْ تَأْلِيفِ الْمُعَارِضِينَ عَلَى الدِّينِ الصَّحِيحِ، الَّذِي -وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْهُمُ السَّاعَةَ- فَهُوَ سَيُهَيِّئُ نُفُوسَهُمْ لِقَبُولِهِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ.
وَعَلَّمَنَا سَيِّدُ بَنِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُقَاطَعَةَ الِاقْتِصَادِيَّةَ مِنْ أَقْوَى أَسَالِيبِ الْمُوَاجَهَةِ مَعَ الْعَدُوِّ، وَهِيَ سِلَاحٌ نَاعِمٌ لَكِنَّهُ فَعَّالٌ، وَلَا زَالَتِ الْقُوَى الْمُتَنَفِّذَةُ تَسْتَخْدِمُ الْحِصَارَ وَالْمُقَاطَعَةَ الِاقْتِصَادِيَّةَ فِي إِضْعَافِ الدُّوَلِ وَإِذْلَالِ الشُّعُوبِ، وَتَجْفِيفِ الِاقْتِصَادِ.
وَفِي الْقِصَّةِ أَيْضًا أَهَمِّيَّةُ اسْتِقْصَادِ [[اسْتِهْدَافِ]] الرُّمُوزِ بِالدَّعْوَةِ أَوْ بِالْإِصْلَاحِ وَالنَّصِيحَةِ، لِأَنَّ فِي إِسْلَامِهِمْ وَاسْتِقَامَتِهِمْ صَلَاحًا لِأَتْبَاعِهِمْ وَمَنْ يَتَأَثَّرُ بِهِمْ.
وَمِنَ الدُّرُوسِ الْفِقْهِيَّةِ: جَوَازُ دُخُولِ الْكَافِرِ لِلْمَسْجِدِ، وَبِالْأَخَصِّ إِذَا كَانَ ثَمَّةَ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي ذَلِكَ؛ كَأَنْ يَرَى أَخْلَاقَ الْمُسْلِمِينَ وَعِبَادَتَهُمْ، وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ عَلَى حَدِيثِ رَبْطِ ثُمَامَةَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: بَابُ دُخُولِ الْمُشْرِكِ الْمَسْجِدَ.
وَمِنَ الْفَوَائِدِ الْفِقْهِيَّةِ: جَوَازُ الْعَفْوِ عَنِ الْأَسِيرِ الْكَافِرِ دُونَ مُقَابِلٍ، إِذَا رَأَى وَلِيُّ الْأَمْرِ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ.
وَاسْتَدَلَّ بِخَبَرِ ثُمَامَةَ مَنْ يَرَى وُجُوبَ الِاغْتِسَالِ لِمَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ، وَالصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الِاغْتِسَالَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَقَدْ أَسْلَمَ الْآلَافُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْغُسْلِ.
عِبَادَ اللَّهِ... صَلُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الرَّحْمَةِ الْمُهْدَاةِ، وَالنِّعْمَةِ الْمُسْدَاةِ، مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ...