الشاكر
كلمة (شاكر) في اللغة اسم فاعل من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المنجيات |
في بيئة العمل صاحب العمل يحلم بموظف أدائه إذا كان في حضرته أو كان غائبًا عنه سواء؛ لأنه بذلك يراقب الله قبل أن يراقب صاحب المال أو رئيسه في العمل، ويراقب ضميره قبل أن يراقب مكاسبه الشخصية، فصاحب المال نفسه مطمئنة لا يخشى تفريطًا في ماله ولا ضياعًا. أما إذا كان الصدق نادرًا فإن الثقة تُفقد ويسود الشك في المعاملات بين الناس فيفسد الحال وتتعطل كثيرا من المصالح.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وقفنا في أهمية التغيير لتحقيق تغيير الله -تعالى- لحالنا: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11] على الخلق الثالث الذي يجب مراجعته بعد خلقي العدل والالتزام وهو خلق "الصدق".
وابحث عن الصادق في زمان شاع فيه التدليس والكذب، والصدق يكون بالقول ويكون بالموقف أيضًا، أما الصدق في القول فهو قول الحق الذي يواطئ اللسان فيه القلب، ودليله قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
وأما الصدق في الموقف وهو مطابقة الموقف للوعد والعهد ودليله قوله -عز وجل-: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23].
معاشر الإخوة: في بيئة العمل صاحب العمل يحلم بموظف أدائه إذا كان في حضرته أو كان غائبًا عنه سواء؛ لأنه بذلك يراقب الله قبل أن يراقب صاحب المال أو رئيسه في العمل، ويراقب ضميره قبل أن يراقب مكاسبه الشخصية، فصاحب المال نفسه مطمئنة لا يخشى تفريطًا في ماله ولا ضياعًا.
أما إذا كان الصدق نادرًا فإن الثقة تُفقد ويسود الشك في المعاملات بين الناس فيفسد الحال وتتعطل كثيرا من المصالح.
وتأملوا في هذا الحديث في صحيح البخاري عن حذيفة قال حدثنا -صلى الله عليه وسلم- حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر؛ حدثنا أَنَّ الأَمانَةَ نَزَلَتْ في جَذْرِ قُلوبِ الرِّجالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، وَحَدَّثَنا عَنْ رَفْعِها –أي الأمانة- قَالَ: يَنامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُها مثل أَثَر الْوَكْتِ –أي الشيء اليسير- ثُمَّ يَنامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ، فَيَبْقى أَثَرُها مِثْلَ الْمَجْلِ –أي الذي يصير في اليد من العمل بفأس أو نحوها ويصير كالقبة فيه ماء قليل- كَجَمْرِ دَحْرَجْتَهُ عَلى رِجْلِكَ، فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا – أي مرتفعًا- وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ –أي لا يبقى من الأمانة شيء يذكر ربما شعارات جوفاء فقط-، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبايَعُونَ فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِينًا؛ وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَان، قال حذيفة: وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ –أي أن هناك صدقا شائعا وأمانة في المجتمع ومن ثم فإني أبياع من دون خوف من غدر أو كذب- لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيَّ الإِسْلاَمُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ، فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلاَّ فُلاَنًا وَفُلاَنًا".
كيف يكون لمجتمع ما كيان متماسك وأفراده لا يتعاملون فيما بينهم بالصدق كيف؟ هذا لا يكون، إذ لولا الثقة بشرف الكلمة وصدقها لتفككت معظم الروابط الاجتماعية بين الناس، ويكفي أن نتصور مجتمعًا قائمًا على الكذب لندرك مدى تفككه وانعدام صور التعاون بين أفراده، كلٌّ يشك في الآخر، بل كيف يكون لمثل هذا المجتمع رصيد من ثقافة أو تاريخ أو حتى حضارة، كيف يوثق بنقل المعارف والعلوم إذا لم يكن الصدق أساسًا حضارياً يقوم عليه المجتمع.
كيف يوثق بنقل الأخبار والتواريخ؟ كيف يوثق بالوعود والعهود ما لم يكن الصدق أساسًا في التعامل بين الناس؟ كيف يوثق بالدعاوى والشهادات ودلائل الإثبات القولية ما لم يكن للصدق قيمة كبرى في المجتمع؟!
إذا لم يكن هناك صدق كيف يفرق المسئول بين الناصح والمطبِّل، وقد ذكر في علم الإدارة أن من ضمن المدراء ما يسمى بالمدير التصفيقي، وهو الذي يقرِّب المصفقين حوله، أولئك الذين يسبِّحون بحمده ويثنون عليه مهما قال ومهما عمل، ويضحكون في وجهه إذا كل ما دخل أو خرج، فالمهم عندهم حتى يحافظوا على مناصبهم أن يوافقوه، والمهم عنده هو أنهم يوافقونه.
لا بل يمجدون آراءه، هذا أهم معيار قبل معيار الكفاءة والمؤهل والصدق، وقد حكي إليَّ أكثر من مرة بل رأيت وعايشت من المدراء من يبدو في ظاهره والله أعلم بباطنه حريصًا على أن يظهر أمام الآخرين بأنه الأوحد وأن الناس تبع له، وأنهم ملتفون حوله وهو الأبرز والأفهم والأصح دائمًا وويل لمن يخالف رأيه.
تمامًا كحال فرعون (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر:29]، وهو كذلك مركزي مستكبر لا يقبل الحق مهما كانت النتائج وخيمة عليه وعلى من حوله كما قال -تعالى- في فرعون (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى) [طه:79].
فهذا ليس من الصدق مع الله -تعالى- ولا مع النفس ولا مع من حوله ولا مع المجتمع، بل هو يكذب على نفسه وعلى المؤسسة التي يعمل فيها، ولو صدق مع نفسه ومع الله قبل ذلك ما قرَّب مطبلاً ولا مصفقًا ولا أصغى لمن يخالفه رأيه وقد قيل من قبل "صديقك مَن صدَقَك لا مَن صدَّقك".
أيها الإخوة: لا يمكن أن يرتقي مجتمع ولا أن يصلح حاله ما لم تكن هناك صحوة تعيد للصدق مكانته بين الناس، صحوة رُبِّي عليها الأجيال منذ الصغر تربية جادة نظرية وعملية في آنٍ واحدٍ أن الكذب كبيرة من الكبائر، وأن الصدق واجب من الواجبات منذ الصغر يربَّى عليها الطفل، يضبط بها المجتمع كله في جميع معاملاته بحيث يُختار الأكفأ والأقوى علمًا وأمانة كما قال -تعالى-: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص: 27].
ويُكافَأ الصادق على صدقه، ويُعاقب الكاذب، ويدير المجتمع شؤونه صغيرها وكبيرها على الصدق والأمانة بشكل جاد عملي ويرى الأجيال أمامهم هذا المنهج القويم حيًّا لا أن يكون الصدق مجرد عبارات جوفاء تُقال في المناسبات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أما بعد: فإن المجتمع الجاد المنتج بكل مقوماته لا يحتمل الكذب، ولذلك نسمع بين حين وآخر في المجتمعات الجادة انتحار بعض المسئولين الكبار في اليابان وكوريا؛ إذا ما كُشف في أحدهم كذبٌ أو غشّ أو خيانة في العمل يرمي بنفسه من شاهق المباني أو غير ذلك.
لماذا يصل الأمر إلى حد الانتحار؛ لأن الصدق له قيمة كبرى ومصيرية في المجتمع، والكذب يعتبر ناقوس خطر وخطيئة لا تُغتفر وليس الانتحار مشروعًا، بل هو معصية كبيرة كما هو معروف في ديننا، ولكنَّ القصد هو بيان شيء مما أوصل تلك المجتمعات إلى قمة الصناعة والقدرة المادية المؤثرة في مجريات الأمور حول العالم.
نقول أيها الإخوة: الكذب مآله الخسران في الدنيا وإن طال المقام ومآله في الآخرة أشد خسراناً وخلاف ذلك الصدق، قال -تعالى-: (قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [المائدة:119].
والله -تعالى- يحث المؤمنين على الصدق، ويضع صفة الصدق بعد الإيمان والتقوى مباشرة؛ لأن الصدق من مقتضيات الإيمان ومن ضرورات التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
فالإسلام والكذب ضدان متناحران لا ينبغي أن يجتمعا، ولذلك قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "المؤمن يُطبَع على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب"، المؤمن إذا صح إيمانه كان لكلمته شرف كبير لا يمكن يمسّ، إذا قال كلام أتبعه الوفاء فمتى إذاً يصحو من يصلي ويصوم، ولكنه يكذب في وعده ولا يصدق في كلامه، فليس لكلمته أدنى شرف، سبحان الله قال -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا" نسأل الله السلامة والعافية.
إن من ثمار الصدق: ازدهار الثقة المتبادلة بين الناس، والثقة تجعل المجتمع يعيش في جو نظيف من العلاقات والمعاملات السوية على كافة المستويات، إذا عقد عقدًا لا يضع يده على قلبه خائفًا من الغدر والكذب والخيانة، لا، سواء في البيع والشراء أو في المصالح الرسمية الحكومية أو في الزواج غيرها من المستويات؛ لأن للكلمة شرفها.
وفي المقابل فإن الكذب يسبب انعدام الثقة التي تفسد العلاقات الاجتماعية وتزرع الشكوك في المعاملات فيتعمق الظن السيئ ويتوارث الناس التدليس كلٌّ يقلِّد الآخر، كلهم يكذبون لماذا لا نكذب معهم، كلهم يدلسون لأدلس معهم.
فلا مجال حينئذ للتقدم ولا لدفع عجلة التنمية في مثل هذا الجو المريب، ومن ثم أيها الإخوة تتضح لنا حاجة المجتمع الإنساني الماسة إلى خلق الصدق فلتتربى الأجيال المسلمة عليه، قال -تعالى-: (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ) [محمد:21].
اللهم أصلح أمتنا..