الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | فؤاد بن يوسف أبو سعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - الصلاة |
بالصلاة يمتاز المؤمنون عن المنافقين، تقبل هذه العبادة عند أرحم الراحمين؛ إذا أخلص فيها لرب العالمين، ودخل فيها بنية من قلبه خالصة لربه، مستحضرا لنوعها، مميزا لاسمها ورسمها، آتيا بشروطها، من طهارته وستر عورتِه، مستقبلا قبلتَه، وعند دخول وقتِها، يدخل في أركانها، قائما على قدميه، مكبرا تاليا للفاتحة، قارئا من القرآن بما تيسر لديه، ثم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله القائل: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27].
سبحانه: (هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى: 25- 26].
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه ورسوله؛ محمد بن عبد الله المبعوث رحمة مهداة للعالمين كافة، القائل: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته أجمعين، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
بالإخلاص لله في العبادة وصوابها يقبل الله -سبحانه- أهلَها وأصحابَها.
إن العبادات جميعَها جعل الله شروطا لقبولها، وأصولا لصحتها وصوابها وصلاحها، فمن جاء بالشروط فاز بالقبول، ولم يحرم من الوصول، ومن فقد شرطا من الشروط؛ فقد أبطل عبادته، وفتح على نفسه بابا من أبواب القنوط، ومن أخل بأصل من أصولها؛ فقد فاته قبولها، وحرم نفسه من حصولها.
إن أول ركن من أركان الإسلام: "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله".
هذه الشهادة التي بها يدخل الإنسان في الإسلام: "لا إله إلا الله" بفقدها يخرج من الدين والإيمان: "لا إله إلا الله" بها تعصم الدماء: "لا إله إلا الله" هي مفتاح الجنة: "لا إله إلا الله" كم نكررها بأفواهنا ونحن عن شروطها لاهين؟
"لا إله إلا الله" كم تلهج بها ألسنتُنا، ونحن عن العمل بمقتضياتها غافلين؟
"لا إله إلا الله" يهودي قالها، سمعته بأُذيَّ ورأيته بعينيَّ، فلا تنفعه؛ لافتقاده شروطها، ولم يعمل بمضمونها، ومسلم يقصر فيها، وعندما يذكَّر بها: يا رجل وحِّد الله! يعاند، ويقول: أنا كل يوم الصبح أوحِّدُ الله!.
"لا إله إلا الله" -مع أن كثيرا يقولها يخفُّ ميزانه- لماذا خفَّ ميزانه مع قوله: "لا إله إلا الله؟" السبب؛ هو نقصان شروطها، فقد يقولها غيرَ مخلص، وقد يقولها غيرَ صادق، وقد يقولها ويأتي بسيئات تغلب، وتثقُل في ميزانه.
فهذه ثلاثة أسباب في خِفَّة ميزان من يقول: "لا إله إلا الله" [كتاب الجمع والتجريد في شرح كتاب التوحيد، للشيخ علي بن خضير الخضير].
"لا إله إلا الله" تنفع صاحبَها المخلصَ الصادقَ عند الموت، عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، صَادِقاً مِنْ قَلْبِهِ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ" [انظر: الصحيحة ح(2278) [أخرجه أحمد (5/229) والنسائي (1134) قلت -الألباني: "وإسناده صحيح على شرط الشيخين"].
فأين الصدق والإخلاص في "لا إله إلا الله" إن لم يؤدِّ ما أمر الله، ولم يعمل بمضمونها، فقصَّر في الركن الثاني من أركان الإسلام وهو الصلاة، التي هي الصلة بين العبد وربه؟
الصلاة عمود الإسلام، فمن هدمها فقد هدم الدين، ومن أقامها فقد أقام الدين.
بالصلاة يوم القيامة يخف الحساب، ويشدد على المقصرين.
وبالصلاة يمتاز المؤمنون عن المنافقين، تقبل هذه العبادة عند أرحم الراحمين؛ إذا أخلص فيها لرب العالمين، ودخل فيها بنية من قلبه خالصة لربه، مستحضرا لنوعها، مميزا لاسمها ورسمها، آتيا بشروطها، من طهارته وستر عورتِه، مستقبلا قبلتَه، وعند دخول وقتِها، يدخل في أركانها، قائما على قدميه، مكبرا تاليا للفاتحة، قارئا من القرآن بما تيسر لديه، ثم راكعا مرة واحدة بتطويلة لطيفة، وساجدا مرتين بينهما جلسة خفيفة، وبذا تكون الركعةُ الأولى قد انتهت، فيقوم للركعة الثانية التي قد ابتدت، فيفعل فعله في الركعة السابقة، وكذا في كل ركعة لاحقة، والخضوع والخشوع قد وجب، والطمأنينة وتجنبُ العبثِ واللعب، ويختم بجلوس للتشهد، والصلاةِ والسلامِ على النبي أحمد، ثم الخروجُ من صلاته بالسلام، عن اليمين والشمال.
"والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرّغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها -وما لها-، وآثرها على غيرِها، وحينئذ تكون راحة له وقرة عين؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "جعلت قرة عيني في الصلاة" [تفسير ابن كثير 5/456 والحديث في مسند أحمد (3/128) وهو في صحيح الجامع (3124)].
لكن! كم من قوم قد صلَّوا وما صلَّوا، وأجهدوا أنفسهم بالقيام والركوع والسجود وما وصَلُوا، دخل في صلاته على أنها عادة، لم يخطر بباله أنها لربه عبادَة، أغلبُها تثاؤب، فاتحا فاه إلى أقصاه؛ على نحو من التلاعب، أو مراوحا بين قدميه، تعبث بثيابِه وجسمِه يداه، أو يكثرُ الالتفاتَ نحو يسراه ويمناه، نسي أنه بين يدي الله، فجسمه في المسجد وقلبه غافلٌ لاه.
وهناك صنف من المصلين لهم في هذه العبادة لون آخر من التفكير، فبمجرد وُلُوْجَه في الصلاة؛ جاءه شيطانه "خِنْـزَب" يُذكِّرُه ما اختزن ذهنُه من صور العاهرات، وما حُشِر في صدره من مواقعَ شيطانيةٍ، على الشبكةِ العنكبوتية، وما التقطته عيناه من القنوات الإباحية، امتلأ بذلك قلبه، فلم يبقِ فيه موضعا لربه، فأي عبادة هذه؟ وأي صلاة هذه؟
هو في عبادة وصلاة، وتفكيرُه سارحٌ في هواه؛ فهذا مصلٍّ يفكر في الطعام والشراب، وذاك يفكر البيع والتجارة، وثالث يفكر في الزراعة والصناعة، ورابع ليس له همٌّ إلا السفر والدراسة، وما إلى ذلك من الملهيات عن أداء كمال الصلاة، والمشغلاتِ عن إخلاص العبادة لله.
ونوع ثالث من المصلين يخرج من المسجد بعد إنهاء الصلاة، ربما استحضر هيبةَ ربِّه، ربما بكى متأثرا بما سمع من تلاوة الإمام، فإذا خرج من المسجد تركها فيه وسعى إلى الأمام، وودَّعها إلى أن يرجع إلى صلاة أخرى، في وقت آخر، يخرج عائدا إلى ما كان عليه؛ من سلوكياتٍ رديَّة، وصفاتٍ سيئة، فيشتم هذا، ويسبُّ هذا، ويأكلُ مال هذا، فاكهتُه سفكُ الدماء، وطعامُه هتك الأعراض، وشرابُه غيبة الأبرياء، أخلاقه ذميمة، وحديثه في مجالسه نميمة، يبحث عن أذى المسلمين بحثا، ويؤزُّه شيطانه إلى الإضرار بالمؤمنين أزًّا.
فيا أيها المؤمنون المسلمون: أي صلاة هذه؟ وأي عبادة هذه؟ أين الإحسان في العبادة والصلاة؟ أين "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"؟ أين نحن من قوله صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"؟ و"أرحنا بالصلاة يا بلال"؟ ولم يقل: أرحنا منها.
أخي في دين الله: لا تكن من لصوص العبادات، وسُرَّاق الصلوات، فقد قال النبي -عليه أشرف الصلوات وأتم التسليمات-: "أسوأ الناس سرقة؛ الذي يسرق من صلاته" فاستفسر أبو قتادة -رضي الله عنه- قائلا: "يا رسول الله! كيف يسرق صلاته؟" قال: "لا يتم ركوعها ولا سجودها" [رواه أحمد والحاكم 1/ 229، وهو في صحيح الجامع 997].
عبد الله! أيها المصلي: لا تنسَ وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لك: "اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذَكر الموت في صلاته؛ لحريٌّ أن يحسن صلاته، وصلّ صلاة رجلٍ لا يظن أنه يصلي غيرها" [الصحيحة ح(1421)].
وهذه أيضا وصيته صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب -رضي الله عنه- لما قال له: "إذا قمت في صلاتك فصلِّ صلاة مودِّع" [رواه أحمد (5/412)، صحيح الجامع، ح(742)].
يعني صلاة من يظن أنه لن يصلي غيرها، فإنه لا يدري لعلها تكون هذه هي.
عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ لَيْلَةٍ ... مُتَرَسِّلاً؛ إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ؛ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ؛ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ؛ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ" فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" ثُمَّ قَامَ طَوِيلاً قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَقَالَ: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى" فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ" [رواه مسلم ح(772)].
وفي رواية: "صليت مع رسول الله ليلة، فكان إذا مرَّ بآية رحمة؛ سأل، وإذا مرَّ بآية عذاب؛ تعوذ، وإذا مرَّ بآية فيها تنـزيهٌ لله؛ سبَّح" [تعظيم قدر الصلاة 1/327].
وقد جاء هذا في قيام الليل.
وقال سعيد بن عبيد الطائي: سمعت سعيدَ بن جبير يؤمهم في شهر رمضان وهو يردّد هذه الآية: (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [غافر: 70 - 72].
وقال القاسم: "رأيت سعيد بن جبير قام ليلة يصلي، فقرأ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
فرددها بضعا وعشرين مرة" [التذكرة، للقرطبي، ص: 125].
وكان هارون بن رباب الأسيديُّ يقوم من الليل للتهجد، فربما ردد هذه الآية حتى يُصبح: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام: 27].
ويبكي حتى يُصبح.
عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: "دَخَلْتُ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَلَى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَهِيَ فِي خِدْرِهَا، فَقَالَتْ: "مَنْ هَؤُلاءِ؟" قُلْنَا: عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَقَالَتْ: "يَا عُبَيْدُ بْنَ عُمَيْرٍ! أَنْتَ كَمَا قَالَ الأَوَّلُ: زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا" فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "دَعُونَا مِنْ بَاطِلِكُمْ هَذَا، حَدِّثِينَا بِأَعْجَبَ مَا رَأَيْتِ مِنَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَتْ: كُلُّ أَمْرِهِ كَانَ عَجَبًا، أَتَانِي ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَقَدْ دَخَلْتُ فِرَاشِي، فَدَخَلَ مَعِي؛ حَتَّى لَصَقَ جِلْدَهُ بِجِلْدِي" ثُمَّ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ! ائْذَنِي لِي أَتَعَبَّدْ لِرَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ-" قَالَتْ: قُلْتُ: "يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي لأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ هَوَاكَ" قَالَتْ: "فَقَامَ إِلَى قِرْبَةٍ فِي الْبَيْتِ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا، ثُمَّ قَرَأَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ دُمُوعَهُ بَلَغَتْ حُبْوَتَهُ، ثُمَّ جَلَسَ، فَدَعَا وَبَكَىَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ دُمُوعَهُ بَلَغَتْ حُجْزَتَهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى يَمِينِهِ، وَجَعَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الأَيْمَنِ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ دُمُوعَهُ قَدْ بَلَغَتِ الأَرْضَ، ثُمَّ جَاءَهُ بِلالٌ بَعْدَمَا أَذِنَ، فَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! تَبْكِي؟ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: "وَمَا لِي لا أَبْكِي! وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 190- 191].
وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا، ثُمَّ لَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا، وَيْحَكَ يَا بِلالُ أَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا" [رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (12/33) ح(4618)، وهذا لفظه، رواه ابن حبّان، وقال في السلسلة الصحيحة ح(68): "وهذا إسناد جيد"].
فإذا أردت مغفرةَ الذنوبِ فأمِّن مع تأمين الإمام، لا تسبقه، ولا يسبقك، بل وافقه، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أمَّنَ الإمام؛ فأمِّنُوا، فإنه مَن وافق تأمِينُهُ تأمينَ الملائكةِ؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه" [رواه البخاري ح(747)].
أيها المصلي: إن ربَّك يحاورُك ويكلمك في الصلاة، وأنت لا تشعر، فلا تلتفت عنه، بل أقبل عليه.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ؛ فَهْىَ خِدَاجٌ -ثَلاَثًا- غَيْرُ تَمَامٍ" فَقِيلَ لأَبِى هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الإِمَامِ؟ فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِى نَفْسِكَ، فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِى وَبَيْنَ عَبْدِى نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: حَمِدَنِى عَبْدِى! وَإِذَا قَالَ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: أَثْنَى عَلَىَّ عَبْدِى! وَإِذَا قَالَ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قَالَ: مَجَّدَنِى عَبْدِى -وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَىَّ عَبْدِى!- فَإِذَا قَالَ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قَالَ: هَذَا بَيْنِى وَبَيْنَ عَبْدِى وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) قَالَ: هَذَا لِعَبْدِى؛ وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ" [صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة].
ويجب تعظيمُ هذه المخاطبةِ والمحاورة الربانية الرحمانة، وقدْرُها حقّ قدرِها، قال صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه فلينظر كيف يناجيه" [مستدرك الحاكم 1/236 وهو في صحيح الجامع، رقم 1538].
"والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقامٍ وأقربِه وأغيظِه للشيطان، وأشدِّه عليه، فهو يحرصُ ويجتهدُ كلَّ الاجتهادِ أن لا يقيمَه فيه، بل لا يزال به يعدُه ويمنّيه وينسيه، ويجلِب عليه بخيلِه ورَجْلِه؛ حتى يهوِّنَ عليه شأنَ الصلاة، فيتهاون بها فيتركُها. فإن عجَز عن ذلك منه، وعصاه العبد، وقام في ذلك المقام؛ أقبلَ عدوُّ اللهِ -تعالى- حتى يخطِرَ بينه وبين نفسه، ويحولَ بينه وبين قلبِه، فيذكّرُه في الصلاة ما لم يكن يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي الشيء والحاجة وأَيِسَ منها؛ فيذكِّرُه إياها في الصلاة ليَشغَلَ قلبَه بها، ويأخذَه عن الله -عز وجل-، فيقوم فيها بلا قلب، فلا ينال من إقبال الله -تعالى- وكرامتِه وقربِه ما ينالُه المقبلُ على ربه -عز وجل-، الحاضرُ بقلبه في صلاته، فينصرف من صلاته مثلما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقالِه، لم تُخفَّفْ عنه بالصلاة، فإن الصلاةَ إنما تُكَفِّرُ سيئاتِ مَن أدَّى حقَّها، وأكملَ خشوعَها، ووقفَ بين يدي الله -تعالى- بقلبه وقالبه" [الوابل الصيب، لابن القيم (36)].
فكيف نتخلصُ من كيد الشيطان ونُذهِب وسوسته، وننجو من شرِّه؟!
والجواب: عن أبي العاص -رضي الله عنه- قال: "يا رسول الله! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبِّسها عليّ!" فقال رسول الله -صلى عليه وسلم-: "ذاك شيطان يُقال له: خِنْزَبٌ؛ فإذا أحسَسْتَه فتعوّذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثا" قال: "ففعلت ذلك؛ فأذهبه الله عني" [رواه مسلم ح( 2203)].
ومن كيده كذلك: ما أخبرنا عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد حركة في دبره أحدث أو لم يحدث ، فأشكل عليه ، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" [رواه مسلم ح(389)].
بل إن كيده ليبلغ مبلغا عجيبا كما يوضحه هذا الحديث: عن ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الرجل؛ يُخيَّلُ إليه في صلاته أنه أحدث ولم يُحدِث، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الشيطانَ يأتي أحدَكم وهو في صلاته، حتى يفتَح مقعدته، فيُخيَّل إليه أنه أحدث ولم يُحدث، فإذا وجد أحدكم ذلك؛ فلا ينصرفن حتى يسمع صوت ذلك بأذنه، أو يجد ريح ذلك بأنفه" [رواه الطبراني في الكبير، ح(11556) (11/222) وقال في مجمع الزوائد (1/242): "رجاله رجال الصحيح"].
"وهناك خدعة شيطانية يأتي بها "خِنْزَبٌ" إلى بعض الخيِّرين من المصلين، وهي محاولة إشغالهم بالتفكير في أبواب أخرى من الطاعات عن الصلاة، التي هم بشأنها، وذلك كإشغال أذهانهم ببعض أمور الدعوة، أو المسائل العلمية، فيستغرقون فيها، فلا يعقلون أجزاء من صلاتهم" [المنجد (33) سببا للخشوع في الصلاة"].
عباد الله: ما هي أحوال السلف الصالح مع الصلاة؟!
كان ابن الزبير: "إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع، وكان يسجد فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه وهو في الصلاة لا يرفع رأسه".
وكان مسلمة بن بشار: يصلي في المسجد، فانهدم طائفة منه، فقام الناس وهو في الصلاة لم يشعر.
ولقد بلغنا أن بعضهم كان كالثوب الملقى، وبعضهم ينفتل من صلاته متغير اللون لقيامه بين يدي الله -عز وجل-.
وبعضهم إذا كان في الصلاة لا يعرِفُ من على يمينه وشماله.
وبعضهم يصفرَّ وجهه إذا توضأ للصلاة، فقيل له: إنا نراك إذا توضأت للصلاة تغيرت أحوالك! قال: "إني أعرف بين يدي مَن سأقوم".
وكان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إذا حضرت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه، فقيل له: ما لك؟ فيقول: "جاء والله وقتُ أمانةٍ عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملتُها".
وكان سعيد التنوخي إذا صلى؛ لم تنقطع الدموع من خديه على لحيته.
وبلغنا عن بعض التابعين؛ أنه كان إذا قام إلى الصلاة تغير لونه، وكان يقول: "أتدرون بين يدي مَن أقف ومن أناجي؟!" فمن منكم لله في قلبه مثل هذه الهيبة؟" [سلاح اليقظان لطرد الشيطان، لعبد العزيز السلمان (209)].
وقالوا لعامر بن عبد القيس: أتحدّث نفسك في الصلاة؟ فقال: "أوَ شيء أحبُّ إليّ من الصلاة أحدّث به نفسي!" قالوا: إنا لنحدّث أنفسنا في الصلاة! فقال: "أبالجنة والحور ونحو ذلك؟" قالوا: لا! ولكن بأهلينا وأموالنا، فقال: "لأن تختلف الأسنّة فيّ أحبُّ إليّ" أي لأن يكثر طعن الرماح في جسدي أحبّ إلي من أن أحدّث نفسي في الصلاة بأمور الدنيا.
وقال سعد بن معاذ: "فيّ ثلاثُ خصال لو كنت في سائر أحوالي أكون فيهن؛ لكنت أنا أنا: إذا كنت في الصلاة لا أحدث نفسي بغير ما أنا فيه، وإذا سمعت من رسول الله حديثا لا يقع في قلبي ريب أنه الحقّ، وإذا كنت في جنازة لم أحدّث نفسي بغير ما تقول ويقال لها" [الفتاوى، لابن تيمية 22/605].
وقال أبو بكر الصبغي: أدركت إمامين لم أرزق السماع منهما: أبو حاتم، الرازي، ومحمد بن نصر المروزي.
وأما عبد بن ربيعة، فما رأيت أحسن صلاةً منه.
ولقد بلغني أن زنبوراً قعد على جبهته، فسال الدم على وجهه ولم يتحرك.
وقال ابن الأخرم: "ما رأيت أحسن صلاةً من محمد بن نصر، كان الذباب يقع على أذنه، فيسيل الدم، ولا يذبه عن نفسه. ولقد كنا نتعجب من حسن صلاته وخشوعه، وهيبته للصلاة. كان يضع رقبته على صدره، فتتصلب كأنه خشبة منصوبة" [تاريخ الإسلام، للإمام الذهبي (22 / 297)، في ترجمة، محمد بن نصر المروزي].
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- إذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه، حتى يميل يمنة ويسرة [الكواكب الدريّة في مناقب المجتهد ابن تيمية، لمرعي الكرمي، ص: 83، دار الغرب الإسلامي].
قارن بين هذا وبين ما يفعله بعضنا اليوم؛ هذا ينظر في ساعته، وآخر يصلح هندامه، وثالث يعبث بأنفه، ومنهم من يبيع ويشتري في الصلاة، وربما عدّ نقوده، وبعضهم يتابع الزخارف في السجاد والسقوف، أو يحاول التعرّف على من بجانبيه.
تُرى لو وقف واحد من هؤلاء بين يدي عظيم من عظماء الدنيا هل يجرؤ على فعل شيء من ذلك.
فكم يكتب لك من الأجر من صلاتك؟ وكم تحرز من عبادتك؟ قال صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليصلي الصلاة ما يُكتب له منها إلا عشرُها، تسعُها، ثمنُها، سبعُها، سدسُها، خمسُها، ربعُها، ثلثُها، نصفُها" [رواه الإمام أحمد 4/321، وهو في صحيح الجامع 1626].
قال سفيان الثوري -رحمه الله تعالى-: "يكتب للرجل من صلاته ما عقل منها" [رواه أبو نعيم في الحلية ( 7/ 61 ) بإسناد صحيح، انظر السلسلة الضعيفة (14/1027)].
"إن العبد إذا قام يصلي؛ أُتي بذنوبه كلِّها فوضعت على رأسه وعاتقيه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه" [رواه البيهقي في السنن الكبرى 3/10 وهو في صحيح الجامع، ح(1671)].
قال المناوي: "المراد أنه كلما أتمَّ ركنا من الصلاة؛ سقط عنه ركن من الذنوب، حتى إذا أتمَّها تكاملَ السقوطُ، وهذا في صلاةٍ متوفرةُ الشروط والأركان والخشوع، كما يؤذن به لفظ "العبد" و"القيام" إذ هو إشارةٌ إلى أنه قام بين يدي ملك الملوك؛ مقامَ عبدٍ حقيرٍ ذليلٍ، ومن لم يكن كذلك؛ فصلاته التي هي أعظم الطاعات؛ أعظم إبعادًا له عن الله من الكبائر" [فيض القدير (2/466)].
إن الخاشع في صلاته: "إذا انصرف منها؛ وجد خفّة من نفسه، وأحسَّ بأثقالٍ قد وضعت عنه، فوجد نشاطا وراحة ورَوحا، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها؛ لأنها قرّةُ عينه، ونعيمُ روحه، وجنةُ قلبه، ومستراحُه في الدنيا، فلا يزالُ كأنه في سجنٍ وضيقٍ حتى يدخل فيها، فيستريحُ بها لا منها، فالمحبون يقولون: نصلي فنستريحُ بصلاتنا، كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيُّهم صلى الله عليه وسلم: "يا بلال! أرحنا بالصلاة". ولم يقل: أرحنا منها.
وقال صلى الله عليه وسلم: "جعلت قرة عيني بالصلاة".
فمن جُعلت قرّة عينه في الصلاة؛ كيف تقرُّ عينه بدونِها؟ وكيف يطيق الصبر عنها؟" [الوابل الصيّب (37)].
والصلاة منجاة ومناجاة، ودعاء وتوسل واستعانة بالله، فعلَّمَنا صلى الله عليه وسلم: أن نستعيذ بالله بعد التشهد: "من أربع؛ من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال".
وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل".
وسمع رجلا يقول في تشهده: "اللهم إني أسألك يا اللهُ الأحدُ الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد؛ أن تغفرَ لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم" فقال صلى الله عليه وسلم: "قد غُفر له، قد غُفر له".
وسمع آخر، يقول في تشهده: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم؛ إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار" فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "تدرون بما دعا؟!" قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: "والذي نفسي بيده! لقد سأل الله باسمه الأعظم؛ الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى".
وكان من آخر ما يقوله صلى الله عليه وسلم بين التشهد والتسليم: "اللهم اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت" [صفة الصلاة، للألباني، ص: 163 ط.11].
وحفظ مثل هذه الأدعية يعالج مشكلة صمت بعض الناس وراء الإمام إذا فرغوا من التشهد؛ لأنهم لا يدرون ماذا يقولون.
فالصدق والإخلاص في العبادة يولد الخشوع، وذلك لا يتأتى إلا لمن وفقه الله لذلك.
وحرمان الإخلاص والخشوع مصيبة كبيرة، وخطب جلل، ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا" [مسلم].
والناس في الصلاة على مراتب خمسة:
أحدها: مرتبة الظالم لنفسه المفرط، وهو الذي انتقص من وضوئها ومواقيتها، وحدودها وأركانها.
الثاني: من يحافظ على مواقيتها وحدودها، وأركانها الظاهرة ووضوئها، لكنه قد ضيّع مجاهدة نفسه في الوسوسة، فذهب مع الوساوس والأفكار.
الثالث: من حافظ على حدودها وأركانها، وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار، فهو مشغول بمجهادة عدوه لئلا يسرق صلاته، فهو في صلاة وجهاد.
الرابع: من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها وأركانَها وحدودَها، واستغرق قلبُه مراعاةَ حدودِها وحقوقِها لئلا يضيعَ شيئا منها، بلْ همُّه كلُّه مصروف إلى إقامتها كما ينبغي، وإكمالِها وإتمامِها، قد استغرق قلبُه شأنَ الصلاة، وعبوديةَ ربه -تبارك وتعالى- فيها.
الخامس: من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك، ولكن مع هذا قد أخذ قلبَه ووضعَه بين يدي ربه -عز وجل-، ناظرا بقلبه إليه، مراقبا له، ممتلئا من محبته وعظمته، كأنه يراه ويشاهده، وقد اضمحلَّت تلك الوساوس والخطرات، وارتفعت حجبُها بينه وبين ربه، فهذا بينه وبين غيره في الصلاة؛ أعظمُ مما بين السماء والأرض، وهذا في صلاته مشغول بربه -عز وجل- قرير العين به.
فالقسم الأول معاقب، والثاني محاسب، والثالث مُكَفَّرٌ عنه، والرابع مثاب، والخامس مقرّب من ربّه؛ لأن له نصيبًا ممن جُعلت قرّة عينه في الصلاة، فمن قَرَّت عينُه بصلاته في الدنيا، قَرَّت عينُه بقربِه من ربّه -عز وجل- في الآخرة، وقرّت عينه أيضا به في الدنيا، ومن قرت عينه بالله قرّت به كل عين، ومن لم تقرّ عينه بالله -تعالى-؛ تقطعّت نفسُه على الدنيا حسرات" الوابل الصيب (40)].
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُنْتَخَبِينَ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، الْوَفْدِ الْمُتَقَبَّلِينَ.
رب أعنَّا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، رب اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، لك راهبين، لك مطاوعين، إليك مخبتين، اللهم آمين.