الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | عبد الله اليابس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - المنجيات |
ما هو شعور كل واحد منكم لو قيل له: إن عالمًا من كبار العلماء يثني عليك خيرًا ويصرح بحبه لك؟ بل ما هو شعورك لو علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبك؟ وأعظم من ذلك: ما هو شعورك لو تبين لك أن ربنا -جل في علاه- يقول عنك: "إني أحب فلانًا"؟.. محبة الله تعالى للعبد غاية المنى, ونعمة عظمى..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتمَّ علينا النعمة، وجعل أمتنا - ولله الحمد - خير أمة، وبعث فينا رسولاً منا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة.
أحمده على نعمه الجمَّة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تكون لمَنِ اعتصم بها خير عصمة.
وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبده ورسوله, أرسله للعالمين رحمة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً تكون لنا نورًا من كل ظلمة، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. ما هو شعور كل واحد منكم لو قيل له إن عالمًا من كبار العلماء يثني عليك خيرًا ويصرح بحبه لك؟
بل ما هو شعورك لو علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبك؟
وأعظم من ذلك: ما هو شعورك لو تبين لك أن ربنا -جل في علاه- يقول عنك: "إني أحب فلانًا"؟
محبة الله تعالى للعبد غاية المنى, ونعمة عظمى, عن عبد الواحد بن زيد -رحمه الله- قال: "خرجت إلى ناحية الخريبة, فإذا أسود مجذوم قد تقطعت كل جارحة له بالجذام وعمي وأُقعِد, وإذا هو يزحف, وإذا صبيان يرمونه بالحجارة حتى دموا وجهه, فرأيته يُحرك شفتيه فدنوت منه لأسمع ما أقول, فإذا هو يقول: يا سيدي إنك لتعلم إنك لو قرضت لحمي بالمقاريض, ونشرت عظمي بالمناشير, ما ازددت لك إلا حبًا, فاصنع بي ما شئت".
أيها الإخوة: الله -تعالى- يُحب خلقًا من خلقه, وقد أرشدنا -سبحانه وتعالى- إلى صفات من يحبهم, وأرشدنا لذلك أيضًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, كلنا نتمنى أن يحبنا الله, فتعالوا نتعرف سويًا على من يحبهم الله, ولنسعَ لأن نكون منهم.
يحب الله -تعالى- عبادَه المؤمنين الأخيار, يحب العباد الصالحين, المتقين, (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 76], وروى مسلم في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أن رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ اللهَ يحبُّ العبدَ التَّقيَّ، الغنيَّ، الخفيَّ".
كما أن الله -تعالى- يحب التائبين من عباده, العائدين إليه, المستغفرين من ذنوبهم, (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222].
وروى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "للهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبدِه، حين يتوبُ إليه، من أحدِكم كان على راحلتِه بأرضِ فلاةٍ. فانفلتت منه وعليها طعامُه وشرابُه. فأيس منها. فأتى شجرةً. فاضطجع في ظلِّها. قد أيس من راحلتِه. فبينا هو كذلك إذا هو بها، قائمةٌ عنده. فأخذ بخطامِها. ثم قال من شدةِ الفرحِ: اللهم! أنت عبدي وأنا ربُّك. أخطأ من شدةِ الفرحِ".
سلوك طريق الاستقامة, والتوبة إلى الله من كل ذنب, هو طريق النجاة, (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران: 31].
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وهو أكمل البشر, وقد غفر الله -تعالى- له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يكثر من التوبة, روى أبو داوود وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: إن كنا لنَعُدُّ لرسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في المجلس الواحد مائة مرة: "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم".
ومن ما يحبه الله -تعالى- التقرب إليه بالفرائض والنوافل, روى البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ اللهَ -تعالى- قال: من عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحربِ، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ ممَّا افترضتُ عليه، وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافلِ حتَّى أُحبَّه".
ومما يحبه الله كثرة ذكره –تعالى-, فمن أحب الله -تعالى- أكثر من ذكره, ومن أعظم ما يُذكر الله -تعالى- به تلاوة كلامه -جل وعلا-, فإذا اجتمع قوم يذكرون الله ويتلون كتابه كان ذلك علامةً على محبتهم لله ومحبة الله -تعالى- لهم, روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما اجتمعَ قومٌ في بيتِ من بيوتِ اللهِ، يتلون كتابَ اللهِ، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلتْ عليهم السكينةُ، وغشيتْهم الرحمةُ, وحفّتهم الملائكةُ، وذكرَهم اللهُ فيمن عنده".
أيها الأخ المبارك: اعتمد على ربك في كل أمورك, وتوكل عليه, فإن ذلك سبب لمحبة الله لك, (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159], لا تعتمد على حولك ولا قوتك, ولا جِدِّك ولا اجتهادك, لا تعتمد على واسطتك أو قرابتك, اعتمد على الله, ووكله شأنك كله, فذلك علامة على محبتك لله وسبب لمحبته لك.
حسن الخُلق سبب من أسباب محبة الله -تعالى- للعبد, قال أسامة بن شَريك -رضي الله عنه-: كُنَّا جلوسًا عندَ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- كأنَّما على رؤوسِنا الطَّيرُ ما يتكلَّمُ منَّا مُتكلِّمٌ, إذ جاءه ناسٌ فقالوا: مَن أحبُّ عبادِ اللهِ إلى اللهِ تعالى؟ قال: "أحسَنُهم أخلاقًا".
كما أن حسن الخلق سبب لمحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقرب من مجلسه في الآخرة, روى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ أحَبَّكم إليَّ وأقرَبَكم منِّي في الآخرةِ أحاسِنُكم أخلاقًا, وإنَّ أبغَضَكم إليَّ وأبعَدَكم منِّي في الآخرةِ أسوَؤُكم أخلاقًا, المُتشدِّقونَ المُتفيهقونَ الثَّرثارونَ".
وممن يحبهم الله -تعالى- الذين جاء ذكرهم في الحديث: "إنَّ اللهَ يحبُّ سمحَ البيعِ، سمحَ الشراءِ، سمحَ القضاءِ", فيكون العبد متسامحًا هينًا لينًا في بيعه وشرائه, لا يتشدد, ولا يخادع ولا يهضم حق البائع أو المشتري, كما يكون سمحًا في قضاء الدين, متجاوزًا عن المعسرين.
كما أن الله -تعالى- يحب العادل من عباده (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [المائدة: 42], فيعدل في كل شؤونه, مع أهله أو عماله, في بيعه وشرائه, في وظيفته وأحواله, في كل حال, فالعدل خير كله.
أيها الإخوة: روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أحبَّ اللهُ العبدَ نادى جبريلَ: إن اللهَ يحبُّ فلانًا فأحبِبْه، فيُحِبُّه جبريلُ، فينادي جبريلُ في أهلِ السماءِ: إن اللهَ يحبُ فلانًا فأحبُّوه ، فيُحِبُّه أهلُ السماءِ، ثم يُوضَعُ له القَبولُ في الأرضِ".
فاللهم اجعلنا من أحب عبادك إليه, وأتقاهم لك يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله -تعالى- لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على النبي الأمين, أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. وممن يحبهم الله تعالى: الصابرون من عباده, (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146].
الصابرون على ما يُقَدِّرُهُ الله -تعالى- من تصاريف الحياة, الصابرون على أقدار الله المؤلمة, الصابرون على داعي المعصية إذا هتف, فيقدمون محبوب الله -تعالى- على محبوب النفس.
الصبر أيها الإخوة خُلق عظيم, والصابرون ممن يحبهم الله, يصبر الإنسان على من أساء إليه, ولعلكم تشاهدون في الطرق أن كثيرًا من المشاكل أو حوادث السير ناتجة عن قلة الصبر, والعجلة, وعدم احتمال أخطاء الآخرين.
وممن يحبهم الله -تعالى-: عباده المحسنين, (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134], الإحسان في كل شيء, إحسان إلى النفس, إحسان للزوجة والولد, إحسان للناس كافة, إحسان حتى للبهائم, روى مسلم في صحيحه عن شداد بن أوس -رضي الله عنه- أنه قال: ثنتانِ حفظتُهما عن رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. قال: "إنَّ اللهَ كتب الإحسانَ على كلِّ شيٍء. فإذا قتلتم فأحسِنُوا القِتْلَةَ. وإذا ذبحتم فأحسِنُوا الذبحَ. وليُحِدَّ أحدُكم شفرتَه. وليُرِحْ ذبيحتَه".
وممن يحبهم الله -تعالى- المجاهدون في سبيله, (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف: 4], قال مطرف بن عبدالله -رحمه الله-: "كان يَبلُغُني عن أبي ذرٍّ حديثٌ كنتُ أشتهي لقاءَه, فلقيتُه فقلتُ: يا أبا ذرٍّ, كان يَبلغُني عنك حديثٌ وكنتُ أشتهي لقاءَك, قال: للهِ أبوك, قد لقيتَني فهاتِ, قلتُ: حديثٌ بلغني أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حدَّثك, قال: إنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- يحِبُّ ثلاثةً ويبغِضُ ثلاثةً, قال: فما أخالني أكذبُ على رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-, قال: فقلتُ: فمن هؤلاء الثلاثةُ الَّذين يُحبُّهم اللهُ -عزَّ وجلَّ-؟ قال: رجلٌ غزا في سبيلِ اللهِ صابرًا محتسبًا فقاتل حتَّى قُتِل, وأنتم تجِدونه عندكم في كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ, ثمَّ تلا: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)", الحديث.
وممن يحبهم الله -تعالى- المتطهرين, سواء كانت طهارتهم حسية من الأقذار والأوساخ, أو كانت طهارتهم من الذنوب والمعاصي, (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [222], وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد الناس تحقيقًا لهذا المعنى, يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "ما مسستُ بيدي ديباجًا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألْينَ مِن كفِّ رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ، ولا شممتُ رائحةً قطُّ أطيبَ من ريحِ رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-".
فاللهم اجعلنا من التوابين واجعلنا من المتطهرين, اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا, وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا, وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا, واجعل الحياة زيادة لنا من كل خير, والموت راحة لنا من كل شر.
اعلموا أن الله -تعالى- قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.