العربية
المؤلف | محمد بن عبد الله الإمام |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - المنجيات |
فتفكّروا عباد الله في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعدٍ ما أصدقه! ومن حاكمٍ ما أعدلَه! كفى بالموت مفزعاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقاً للجماعات، وهادماً للذات، وقاطعاً للأمنيات فهل فكّرت فيه يا عبدالله، بيوم مصرعك، وانتقالك لقبرك، إذا نُقِلْت من سعة إلى ضيقٍ، وخانك الصاحب والرفيق، وهجرك الأخُ والصديق، وأُخذت من فراشك وغطائك إلى غرر، وغطوك من بعد لين لحافها بتراب ومدر، فيا جامع المال، والمجتهد في البنيان، ليس لك من مالك إلا الأكفان...
الخطبة الأولى:
الحمد لله كتب الموت على كلّ نفس، وجعلها حقيقة لابدّ منها بلا لبس، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلّف الجنّ والإنس، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله مات وقد ذاق سكرات الموت وأحسّ، صلّى الله وسلّم عليه وعلى آله وصحبه ما بزغ القمر وأشرقت الشّمس.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله واستحضروا قلوبكم اليوم لتخشعوا اليوم وتتذكروا الأمس.
أيها الإخوة: هناك حقائق إيمانية يعتقد بها المسلم، نحتاج لتذكرها لنزداد ثباتاً بها (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم: 27]، كي لا نكون ممن قال الله فيهم: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام: 93].
إخوتي: هي أول ليلة في القبر، بكى منها العلماء، وشكى منها الحكماء نتحدث عنها مع كثرة اتباع الجنائز اليوم..
أيها المسلمون: القبر أول منازل الآخرة، ذلك المكان المظلم الضيق، الذي لابد لكل منا أن يلِجَه، ويسكن فيه، فهل وقفنا مع أنفسنا يا عباد الله، وحاولنا أن نتذكَّر القبر وضمته، وضيقه وظلمته، أم أننا لاهون بدنيانا، حتى لم نجد لحظة واحدة، نتذكر موقفاً عظيماً كلنا سنمر به.. (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) [الأنعام: 62].
الموتُ في كل يوم ينشرُ الكفنا | ونحنُ في غفلةٍ عمَّا يرادُ بنا |
لا تطمئنَّ إلى الدنيا وبهجتها | وإن توشَّحت من أثوابِها الحسَنا |
أين الأحبةُ والجيرانُ ما فعلوا | أين الذينَ همُ كانوا لنا سكنا |
سقاهُم الموتُ كأساً غير صافية | فصيَّرتْهم لأطباقِ الثرى رهنا |
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا وُضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدّموني قدّموني، وإن كانت غير ذلك قالت: يا ويلها! أين يذهبون بها؟! يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصُعِقَ" (رواه البخاري).
أيها المسلمون: للقبر هول عظيم، وفظاعة شديدة، قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما رأيت منظراً قط إلا القبر أفظع منه" (رواه الترمذي وابن ماجه).
والقبر له ظلمةٌ شديدة، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن هذه القبورُ مليئةً ظلمةً على أهلها، وإن الله عز وجل مُنوِّرها لهم بصلاتي عليهم" (متفق عليه).
والله لو عاش الفتى في عمره | ألفاً من الأعوام مالك أمره |
متمتعاً فيها بكل لذيذة | متلذذاً فيها بسكنى قصره |
لا يعتريه الهمُّ طولَ حياته | كلا ولا ترد الهموم بصدره |
ما كان ذلك كلَّه في أن يفي | فيها بأول ليلة في قبره |
إن للقبر لضمة، لا ينجو منها أحدٌ كبيراً أو صغيراً، صالحا أو ظالماً، ولو نجى منها أحد، لنجى منها سعد بن معاذ، كما قال -عليه الصلاة والسلام-؛ ذلك الذي تحرك لموته عرش الرحمن، وفُتحت له أبواب السماء.
فيا من تنتظرهم قبورهم، وليس بينهم وبين ذلك، إلا مفارقة الروح للبدن، اعلموا أن للقبر فتنةٌ، وأنَّ هذه الأمةَ تُفتنُ في قبورِها، كما أخبرَ -صلى الله عليه وسلم-! فعن زَيْد بْن ثَابِتٍ -رضي الله عنه- قَالَ: بيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ، عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ، وَنَحْنُ مَعَهُ، فَحَادَتِ الْبَغْلَةُ بِهِ، فَكَادَتْ تُلْقِيهِ، فَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ، فَقَالَ: "مَنْ يَعْرِفُ أصَحابَ هَذِهِ الأَقْبُرِ؟"، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ: "فَمَتَى مَاتَ هَؤُلاءِ"؟ فَقَالَ: مَاتُوا فِي الإِشْرَاكِ، فَقَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلا أَنْ لا تَدَافَنُوا، لَدَعَوْتُ اللَّهُ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ"، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقُلْنَا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ" (رواه مسلم).
فتفكّروا عباد الله في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعدٍ ما أصدقه! ومن حاكمٍ ما أعدلَه! كفى بالموت مفزعاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقاً للجماعات، وهادماً للذات، وقاطعاً للأمنيات فهل فكّرت فيه يا عبدالله، بيوم مصرعك، وانتقالك لقبرك، إذا نُقِلْت من سعة إلى ضيقٍ، وخانك الصاحب والرفيق، وهجرك الأخُ والصديق، وأُخذت من فراشك وغطائك إلى غرر، وغطوك من بعد لين لحافها بتراب ومدر، فيا جامع المال، والمجتهد في البنيان، ليس لك من مالك إلا الأكفان، فأين الذي جمعته من المال، هل أنقذك من الأهوال، (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) فمن كان القبرُ بيتَه، والترابُ فراشَه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، فكيف يكون حاله؟
مثِّل لنفسك يا عبد الله وقد حلت بك السكرات، ونزل بك الأنين والغمرات، فمن قائل يقول: إن فلاناً قد أوصى، وماله قد أحصى، ومن قائل يقول: إن فلاناً ثقل لسانه، فلا يعرف جيرانه، ولا يكلّم إخوانه، فكأني أنظر إليك تسمع الخطاب، ولا تقدر على رد الجواب، فتخيل نفسك يا عبد الله ميّتاً، تؤخذ لمُغسّلك وأُلبست الأكفان، وأوحش منك الأهل والجيران، وبكى عليك الأهلُ والأصحاب والإخوان.
يا ابن آدم!
أنت الذي ولدتك أمك باكياً | والناس حولك يضحكون سروراً |
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا | في يوم موتك ضاحكاً مسروراً |
فيا غافلاً عن هذه الأحوال، يا غافلاً عن قبرك والمآل، إلى كم هذه الغفلة أتحسب أن الأمر بسيط، وتظن أن سينفعك حالك، إذا آن ارتحالك أو ينقذك مالك، حين تُوبِقُك أعمالك، أو يفنى عنك ندمك، إذا زلت بك قدمك.. لا بالكفاف تقنع، ولا من الحرام تشبع، ولا للعظات تسمع، ولا بالوعيد ترتدع، دأبك أن تتقلب مع الأهواء، وتخبط خبط عشواء، يعجبك التكاثر بما لديك، ولا تذكر ما بين يديك، يا مدبراًَ عن المساجد ما عرفت الصلاة يا معرضاً عن القرآن!
يا منتهكاً لحدود الله، ومقيماً على معاصي الله، يا عاقاً بوالديه ومقصراً في رعاية أهله ما حالك في يوم مقبرك؟ لن يُدفع عنك الموت بمال ولا بنون، ولا ينفع أهلَ القبولِ إلا العملُ المبرور، فطوبى لمن سمع ووعى، ونهى النفس عن الهوى، وعلم أن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى وأن إلى ربك المنتهى، فانتبه من هذه الرقدة، واجعل العمل الصالح لك عدة، ولا تتمنَّ منازل الأبرار، وأنت مقيم على الأوزار، عاملٌ بعمل الفجار.
إخوتي كلامٌ نحن بحاجة إليه ليُذكِّرَ بعضُنا بعضاً به، نحاسبُ غيرنا وننسى محاسبةَ أنفسِنا فقفوا وقفة صادقة مع النفس محاسبةً ومساءلة. فوالله لتموتن كما تنامون، ولتُبعثُنَّ كما تستيقظون، ولتجزونَّ بما كنتم تعملون. فجنةٌ للمطيعين، ونارُ جهنم للعاصين (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [فصلت: 40].
من غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، ثم اشتدت عليه حسرته، ومن أصلح ما بينه وبين ربه كفاه ما بينه وبين الناس، ومن صدق في سريرته حسنت علانيته، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه.
روى الإمام أحمد بسند صحيح عند الألباني، عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: "خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد، فجلس -صلى الله عليه وسلم- مستقبلاً القبلة، وجلسنا حوله، وكأن على رؤوسنا الطير، وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثاً، فقال: "استعيذوا بالله من عذاب القبر -مرتين أو ثلاثاً-".
ثم قال: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر"، ثلاثاً، ثم قال: "إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة.
نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء، فيجعلوها في ذلك الكفن والحنوط، فذلك قوله تعالى: (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) [الأنعام: 61].
ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون، على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب، فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها، حتى يُنتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وما أدراك ما عليون، كتاب مرقوم، يشهده المقربون، فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى.
قال: فيُرد إلى الأرض وتعاد روحه في جسده، قال: فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه مدبرين، فيأتيه ملكان، فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له، ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟، فيقول: هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقولان له: وما علمك، فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت، وهي آخرُ فتنةٍ تُعرض على المؤمن، فذلك قول الله عز وجل: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ) [إبراهيم: 27].
فينادى مناد في السماء: أن صدق عبدي، فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً من الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت، فوجهك يجيء بالخير فيقول: أنا عملك الصالح، لقد كنت سريعاً في طاعة الله بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً، ثم يفتح له باب من الجنة، وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة قال: رب أقم الساعة كيما أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال له: اسكن".
قال -صلى الله عليه وسلم-: "وإن العبد الكافر أو الفاجر، إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد، سود الوجوه، معهم المسوح من النار، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده فينزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فتقطع معها العروق والعصب، فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وتغلق أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم، فيأخذها، حتى يجعلوها في ذلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأٍ من الملائكة، إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له".
ثم قرأ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) [الأعراف: 40]، فيقول الله -عز وجل-: "اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، ثم يقال، أعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فيطرح روحه من السماء طرحاً، حتى تقع في جسده"، ثم قرأ: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج: 31]، فتُعاد روحه في جسده، قال: فإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا وَلَّوْا عنه، ويأتيه ملكان، فينتهرانه، ويجلسانه، فيقولان له، من ربك، فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ها هاه لا أدري، فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقال محمد، فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون ذاك، قال: فيقال: لا دريت ولا تلوت، فينادي مناد من السماء، أن كذب، فأفرشوا له من النار وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف منه أضلاعه.
ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، لقد كنتَ بطيئاً عن طاعة الله، سريعاً إلى معصية الله ثم يقيض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبّة، لو ضُربَ بها جبلٌ كان تراباً، فيضربه ضربة حتى يصير بها تراباً، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه به ضربة أخرى، فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يفتح له باب من النار، ويمهد من فرش النار، فيقول: رب لا تقم الساعة".
راقب الله يا عبد الله في الخلوات، لا يغرنك الأمل فتزهد عن العمل: واعلم أن أسباب النجاة من عذاب القبر كثيرة منها: الاستقامة على طاعة الله، والعمل الصالح، وكثرة الاستغفار، والتوبة والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، وبر الوالدين، وصلة الرحم وأن يرزقه الله الشهادة قال -صلى الله عليه وسلم-: "سورة الملك تبارك الذي بيده الملك هي المانعة، وهي المنجية من عذاب القبر" (رواه الحاكم وصححه الألباني).
فاتقوا الله عباد الله، كفى بالموت واعظاً، فإنه لا يقرع باباً، ولا يهاب حجاباً لا يقبل بديلاً، لا يأخذ كفيلاً، ولا يرحم صغيراً، ولا يوقر كبيراً.
أكثروا من ذكر هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ولا تغتروا بالعمل وارجوا رحمة أرحم الراحمين. أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
أيها الإخوة: سمعنا ماذا يحصل للميّت في قبره فهل أعددنا لأول ليلة في القبر؟! يا شيخاً قد احدودب ظهره ودنا أجله ويا شاباً غره شبابه وطول أمله، هل أعددتم لذلك؟! يروى أنه لما احتُضر أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، قالت عائشة:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى | إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر |
فقال: ليس كذلك، ولكن قولي: (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ)[ق: 18]".
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عند موته: "ويلي وويل أمي، إن لم يرحمني ربي". ولما احتضر أبو هريرة -رضي الله عنه- بكى، فقيل له: وما يبكيك فقال: "بُعد المفازة وقلة الزاد، وعقبةٌ كؤود، المهبط منها إلى الجنة أو إلى النار".
وعثمان بن عفان إذا وقف على القبر بكى، وإذا ذكر الجنة والنار لا يبكي فسُئل عن ذلك فقال: "لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "القبر أول منازل الآخرة فإن نجي منه صاحبه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج فما بعده أشد منه".
ولما احتضر عمر بن عبد العزيز، قال: "إلهي أمرتني فلم أئتمر، وزجرتني فلم أنزجر، غير أني أقول: لا إله إلا الله".
وقال المزني، دخلت على الشافعي في علته التي مات فيها، فقلت له: أبا عبد الله، كيف أصبحت؟ قال: "أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، وبكأس المنية شارباً، وعلى الله واراداً، ولا أدري نفسي تصير إلى الجنة فأهنئها أم إلى النار فأعزيها. ثم بكى وقال:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي | جعلت رجائي نحو عفوك سلما |
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك | ربي كان عفوك أعظما |
وما زلت ذا عفو عن الذنب | سيدي تجود وتعفو منّة وتكرما |
ولولاك لم يغوِ بإبليس عابد | فكيف وقد أغوى صفيك آدما |
اللهم أيقظنا من رقدة الغافلين، واحشرنا في زمرة المتقين، اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد؛ اللهم اجعلنا من الذين ثبتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، هيئ لنا نوراً في قبورنا وقبولك لعملنا الصالح برحمتك.
واجعل اللهم قبورنا وقبور آبائنا وأمهاتنا ومن له حق علينا روضة من رياض الجنة ولا تجعلها حفرةً من حفر النيران.
يا ذا الجلال والإكرام، انصر إخواننا المسلمين بسوريا والعراق واليمن وفلسطين واجمع على الحق والدين كلمة المسلمين وأصلح ولاة أمورهم لنصر الإسلام والمسلمين وانصر اللهم جندنا المرابطين واحفظ علينا ديننا وأمننا وكتابنا يا أرحم الراحمين.