العربية
المؤلف | محمد بن حسن المريخي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - المنجيات |
إن البناء الحقيقي هو النافع الذي ينفع صاحبه ولا يضره يحفظه من البرد والحر ويستره ويجمله ويزينه عند الله والناس. هو البناء الذي يؤسس على تقوى من الله ورضوان، يبنى على قاعدة من...
الخطبة الأولى:
الحمد لله يهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم، ويوفق من أطاعه وابتغى بعمله وجهه الكريم، أحمده سبحانه وأشكره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه وشريعته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته، والإخلاص له ومراقبته، فاتقوا الله -رحمكم الله- وتمسكوا بالملة والدين، أسسوا بنيانكم على تقوى الله ورضوانه، واحذروا أن تؤسسوه على ما يغضبه ويسخطه.
أيها المسلمون: البناء والإعمار شيء محبوب، ومشكور عند الناس، والبنّاء شخص مذكور بالخير والمعروف، سواء كان هذا البناء حقيقياً حسياً كالبناء المعروف، أو كان معنوياً كالبناء الأخلاقي والأدبي، والمشاريع التعليمية والدعوية.
لقد حث الإسلام أهله وأتباعه على البناء والإعمار، وأمر بالسعي في الأرض وإعمارها، وتشييد أركانها، وأثنى على من سعى في الأرض من أجل الإعمار، فقال سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [التوبة: 18]، وقال سبحانه عن عبده الخضر وموسى -عليهما السلام-: (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ) [الكهف: 77]، وقال: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [التوبة: 105]، وقال صلى الله عليه وسلمَ: "من بنى مسجداً لله -تعالى- يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة"، وفي رواية: "بنى الله له في الجنة مثله" (رواه البخاري ومسلم]، وقال عليه الصلاة والسلام: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليفعل" (رواه الضياء في الأحاديث المختارة).
كما أثنى سبحانه على من يبني البناء الطيب المبارك كما هو شأن إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- فقال: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة: 127].
إن البناء الحقيقي -يا عباد الله- هو النافع الذي ينفع صاحبه ولا يضره يحفظه من البرد والحر ويستره ويجمله ويزينه عند الله والناس، هو البناء الذي يؤسس على تقوى من الله ورضوان، يبنى على قاعدة من القوة بالله والمتانة، والمعرفة بالله وسننه، وما أذن الله -تعالى- فيه الذي
ينال صاحبه أجره عند ربه ويرفعه درجات.
البناء الحقيقي ما كان موافقاً للشرع والسنن والعقيدة الإسلامية الصحيحة.
أيها المسلمون: تبنى البيوت والمساكن من الحلال الطاهر والدراهم النقية حتى يبارك الله –تعالى- في تلك البيوت، كما تبنى معنوياً بذكر الله وطاعته، وتشيّد على نشر الفضيلة، وتخريج الذرية الصالحة، البيوت التي تطهر من أرجاس الأغاني، وأدوات اللهو، يقول صلى الله عليه وسلم: "مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحيّ والميت" (رواه مسلم)، ويقول: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة" (رواه مسلم).
وتبنى الأبدان من الحلال الخالص وتطهر من الحرام، يقول صلى الله عليه وسلمَ لسعد بن أبي وقاص -رضَي الله عنه- وقد سأله أن يدعو له ليكون مجاب الدعوة: "يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به".
وتبنى النفوس والقلوب بذكر الله -تعالى-: (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].
وتؤسس على الأخلاق الفاضلة، والآداب الإسلامية، والشيم والمروءات، فالبناء والإعمار لكل شيء يكون على ما يحبه الله ويرتضيه.
إن البناء إذا بني وأسس على أساس متين، وقواعد صلبة، كانت نتيجته الصمود والبقاء والمقاومة لعوامل الأزمان، واستمرت فائدته ومنفعته إلى ما شاء الله -تعالى-.
إن الأزمان التي نعيشها والقادمة -عباد الله- تحتاج إلى بناء قوي متين من الدين الحنيف، والأخلاق الكريمة، والمروءات والشيم الإسلامية؛ لأن فظائع الأزمان، وعظائم الأيام، وتقلبات القلوب والأنفس، وتغير الأحوال شيء كبير، وقوى تجرف سيوله الكثير من الأخلاق والمثبتات والآداب، وتهدم من بيوت العز والشرف ما لا يعلمه إلا الله، فأعدوا لها عدتها من البنيان القوى الأخلاقي المؤسس على شرائع الإسلام، والحذر الحذر من البناء الهش الخفيف، فإنه لا يصمد طويلاً أمام قوة دفع السيول، فلقد تضرر من لم يبن بنيانه على منهج الإسلام الحق، ولم يؤسسه على سنن مولاه -عز وجل-، ولم ينشأه على نصح محمد رسول الله، كان البناء هشاً وضعيفاً كانوا يحسبونه قوياً متيناً وهو مبني على طمع الدنيا ومتاعها وشهواتها وملذاتها، فلما جرت السيول إذا بنيانهم ينهار عليهم، ويخر السقف على رؤوسهم، ولما جاءت الأزمات والمحن إذا هم ينهارون، ولما نزلت الابتلاءات إذا هم يفرون ويهربون.
إنهم الضعاف الهزيلون الذين لم تكن لهم عناية العقائد الإسلامية المتينة، والمناهج النبوية الكريمة: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) [التوبة: 109].
أيها المسلمون: وإذا كان الإسلام يدعو للبناء ويحث عليه فإنه ذم الهدم والتخريب والإفساد في الأرض، يقول تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) [البقرة: 205]، وقال: (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) [الفجر: 10 - 13].
ووصف اليهود بأنهم أداة الفساد في الأرض فهم أهله ومنبعه، فقال: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [المائدة: 64]، فالهدم والإفساد هو التخريب والتدمير سواء كان حقيقياً كتدمير الأعداء للبلدان، أو هدم الأخلاق والآداب بنشر الرذائل، والأفكار والمعتقدات الفاسدة، والجرأة على الله -تعالى-، وتعدي حدوده، وعدم الالتفات إلى مناهجه الربانية والنبوية، وتقليد الكافر، وانتهاج منهجه، ونشر البدعة والضلالة والخرافة، وتهميش السنّة، والاجتهاد في مناهج الضلال والمفسدين والمخربين، كل ذلك وغيره من الهدم والإفساد في الأرض.
الهدم -معشر المسلمين- شيء مبغوض ومكروه خاصة إذا كان في الجانب المعنوي كهدم الأخلاق والآداب والسنّة، وهذا أخطر وأشد تدميراً وإيلاماً من الهدم للبنيان والقرى؛ لأن الناس بأخلاقهم وآدابهم ومتابعتهم لمنهج ربهم ونبيهم -عليه الصلاة والسلام-، فإذا ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
لقد بادت أمم، وانتهت قرون بسبب انسلاخهم عن منهج ربهم وأنبيائهم: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) [يونس: 13].
وكفى خسة بالمرء أن يكون هداماً مخرباً مفسداً؛ لأنه تشبه في ذلك بأخس المخاليق؛ إبليس واليهود وإخوانهم من المنافقين، يقول الله -تعالى-: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [التوبة: 67].
إن الأحوال في هذه الأزمان قد اختلطت وتغيرت، فدعاة البناء كثير حتى المخرب يزعم أنه يبني، وإن كان يقدم أو يعرض فساداً لا يتحرج من تسميته: بناءً وتعميراً، فمن الناس من يبني خبثاً، ويؤسس فسقاً، ويسميه بأسماء القبول والرضا، والبعض باسم الإسلام يهدم ويخرب، ويسمي صنيعه: بناءً، وذلك عندما يدعو عباد الله إلى تبني المعتقدات المضللة، والأفكار المنحرفة، عن منهج النبي -عليه الصلاة والسلام-، عندما يدعو إلى البدعة، وينشر الخرافة، ويزينها للناس، وهذا أيضاً من أخطر الهدم حين يهدم السنن الربانية والنبوية، ويحيى الطرق والسبل وينشر ما يشوش على السنة المطهرة والهدى المستقيم.
إن السعي لنشر ما يخالف ما جاء به رسول الله يعد فساداً وتخريباً توعد الله -تعالى- فاعله، يقول تعالى ذاماً لبعض الأقوام على لسان شعيب -عليه السلام-: (فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [الأعراف: 85].
فالخير كله فيما جاءت به الرسل ومن سعى ليغير منهج المرسلين فهو من المفسدين حقيقة، والمؤمن حقاً لا يرضى بهذا أبداً، ويرى الخير كله فيما جاء به رسول الله من عند ربه.
يا ويلهم يهدمون ويخربون ويدمرون ويقولون نبني، يحسبون أن الله لا يعلم ما يفعلون: (أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) [التوبة: 78].
يا ويلهم يقولون: نبني، وهم يكرهون العباد على هجر السنن، وتركها بتسمية السنة بالأسماء المنفرة كالتشدد والتزمت، ويذمون أهل السنة.
يا ويلهم يسمون الهدم بناءً حتى يقبله الناس ويرضونه: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ) [الأعراف: 30].
أيها المسلمون: من بنى بناءً حقيقياً فإنما يبني لنفسه، ومن هدم وخرب فإنما يهدم على نفسه ويخرب عليها، ويعرقل طريقه إلى الآخرة: (مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) [الروم: 44]، (فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا) [فاطر: 39].
فيا أيها المسلمون: ليكن المرء بنّاءً حقيقة كما أراد الله -تعالى- يبنى الدور بطاعة الله، ويبني المساجد وبيوت الخير، ويبني الأبدان والأنفس بالأخلاق الإسلامية، والآداب والشيم والمروءات، والسمعة الطيبة، والذكر الحسن، ويتسبب في دعوة الناس له، ويحذر كل الحذر من أن يتسبب في دعاء الناس عليه بسن السنن المنحرفة، والمشاريع المدمرة، والمناهج الفاسدة، والطرق المتعرجة المضللة؛ ففي الحديث: "يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله -عز وجل-: أبي يغترون، أم علي يجترئون؟ فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيران".