المهيمن
كلمة (المهيمن) في اللغة اسم فاعل، واختلف في الفعل الذي اشتقَّ...
العربية
المؤلف | عقيل بن محمد المقطري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
يبدأ المرض بالمسلم بالذات بالهروب من الصلة بالله -جل وعلا-، والابتعاد عن الناس الصالحين الطيبين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وإن صلى هذا الإنسان فلا يصلى إلا في الجمع أو في الأعياد، وربما قطع الصلة بينه وبين الله -سبحانه وتعالى-، خاتمة هذا هروب من الواقع المظلم، إنه مرض الحزن والهم والاكتئاب، وهو غاية الحزن والهم، فإذا اشتد بالإنسان الهم والحزن فإنه يتحول إلى اكتئاب.
الخطبة الأولى:
أما بعد:
أيها المسلمون: رجل مريض وهو في غاية من الصلاح وذاكر لله -جل وعلا- وقائم لليل ومكثر من قراءة القرآن ومتعلق بالله -عز وجل-، على الرغم من هذا كله فإن هذا الإنسان أصيب بشيء من النوازل كدرت عليه حياته، وأظلمت عليه الدنيا، وضاقت عليه الدنيا بما رحبت، وتنكّر له كل شيء في هذا الوجود، فأصبح منطويًا على نفسه، كثير الهم، شديد الغم، هذا الرجل كان في بيئة فيها من الصلاح ما فيها، كان يعيش في زمن ينزل فيه الوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم- استوحشت عليه نفسه، فخرج يومًا من الأيام تاركًا بيته، لزم المسجد فدخل عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو في المسجد ولا يوجد غيره، فيسأله -عليه الصلاة والسلام- عن سر وجوده في هذا الوقت الذي ليس بوقت صلاة، فيشكو للنبي -عليه الصلاة والسلام- ما ألمّ به، هذا الأمر الذي أصاب اليوم جمهورًا كبيرًا من الناس في العالم، إنه مرض استفحل في كثير من المجتمعات، مرض بسببه ينتحر ثمانمائة ألف في العالم كله سنويًا، من هؤلاء من لا يقدمون على عرض أنفسهم على الأطباء هروبًا من أن يفشوا ما في أنفسهم أو صدورهم فيموتون انتحارًا.
إننا اليوم بصدد ذكر أسباب وعلاج هذا المرض الذي بسببه تضيق الصدور، وتتحول الفرحة إلى حزن، فيتحول طيب العيش إلى نكد، وتتحول الدنيا بسببها إلى أضيق من سم الخياط، وتتنكر الدنيا بكلها على صاحب هذا المرض، فيعيش هائمًا على وجهه، تارة في السفر، وتارة في الخلوات، وتارة في الشوارع، ويؤول به الحال أحيانًا إلى الأرصفة مع المخدرات والمسكرات، وتكون نهايته أن ينتحر، إنه مرض وداء قاتل لأصحابه هذا الداء يعرفه كثير من الناس ويشخصه كثير من الأطباء، يعرَف في وجوه أصحابه بإظلام الوجه ونحول الجسم، ويُعرف باضطراب التفكير وطول السرحان، يُعرف بأن هذا الإنسان دائمًا يعيش وهو مطبق للشفتين لا ترى منه ابتسامة، لا ترى منه طيبًا في كلامه، وإنما تجد عينيه دائمًا تنظر إلى نقطة ما نظرًا طويلاً.
يبدأ المرض بالمسلم بالذات بالهروب من الصلة بالله -جل وعلا-، والابتعاد عن الناس الصالحين الطيبين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وإن صلى هذا الإنسان فلا يصلى إلا في الجمع أو في الأعياد، وربما قطع الصلة بينه وبين الله -سبحانه وتعالى-، خاتمة هذا هروب من الواقع المظلم، إنه مرض الحزن والهم والاكتئاب، وهو غاية الحزن والهم، فإذا اشتد بالإنسان الهم والحزن فإنه يتحول إلى اكتئاب.
فيا ترى ما علاج هذا المرض؟! بل ما أسبابه؟! وإذا عرفت الأسباب واجتُنبت يجنب الإنسان شر هذا المرض.
أول سبب من أسباب هذا المرض: هو التنكُّب عن صراط الله المستقيم: وأكثر من يصاب بهذا المرض ممن لا ديانة له أو ضعف إيمانه، فمن لا دين له غالبًا يؤول به الأمر إلى الانتحار.
التنكُّب عن صراط الله، عن كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام-، هذا المرض ما فتك بالضعفاء فحسب، بل ليس بينه وبين أي إنسان مهما كانت مرتبته صلة أو علاقة، فقد يصاب بهذا المرض إنسان غني أو رئيس أو وزير أو ذو جاه، وقد يصيب إنسانًا فقيرًا فليس بينه وبين أحد من الناس نسب، بل إن كل من تنكب عن هدى الله تعالى فإنه قد يقتحمه هذا المرض؛ يقول الله -عز وجل-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) [طه: 124 – 127].
وقال تعالى: (فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 125].
فانظر كيف جعل لهذا القلب المهموم المغموم المكتئب ثلاث صفات:
الصفة الأولى: أنه ضيق فلا يتسع لشيء.
الصفة الثانية: أنه حرج؛ فلا يلج إليه شيء ولا ينفع في الغالب فيه نصح.
الصفة الثالثة: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ)، أي من شدة ضيق الصدر يكاد قلبه ينفجر؛ لأن الإنسان كلما صعد غالبًا إلى السماء نقص عنه الهواء، وكلما نقص عنه الهواء اشتد ضيق صدره واشتد الضيق عن نفسه، فيكاد صدره أن ينفطر.
إذا هذا هو السبب الأول من أسباب ضيق الصدر، من أسباب الهم، من أسباب الغم، من أسباب الاكتئاب.
السبب الثاني: انعدام أو ضعف الإيمان بقضاء الله وقدره؛ فكم من إنسان نزلت به النوازل وألمت به الملمات وليس عنده إيمان بقضاء الله وقدره، ولم يعرف أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ما كان ليقول: قدّر الله وما شاء فعل، لو كان عند هذا الإنسان علم بأن الأمور مكتوبة عليه، وأن كل شيء بقضاء وقدر، لكنه لما كان يجهل المصير المؤجل ويجهل عواقب الأمور فربما نزلت نازلة بالعبد يكون عاقبتها خيرًا، ويكون بعد الضيق فرجًا، ويكون بعد العسر يسرًا، ولن يغلب عسر يسرين أبدًا.
لكنه لما كان هذا الإنسان يجهل هذه الأمور ويجهل أن بعض الذنوب والمحن التي تصيبه قد تكون سببًا في هدايته واستقامته ورفعة درجته وتكفير حسناته وإذهابًا لسيئاته؛ يضيق صدره بهذا، ويهتم لها ويغتم كأنه حمل الدنيا بما فيها على رأسه، ولو أنه عرف منهج الأنبياء، منهج الأصفياء في التعامل مع النوازل والمدلهمات لما أصابه حزن قط، نعم الحزن يعتري الإنسان لكنه راضٍ بقضاء الله تعالى وقدره، فإن الحزن والهم عواطف إنسانية لا تخلو من أحد من الناس، لكنها إذا زادت عن حدها فهذا هو المرض، وإلا فإن هذا جزء من شعور الإنسان أن يحزن وأن يهتم وأن يغتم، فقد اهتم الأنبياء واغتم الأنبياء؛ فهذا نبينا -عليه الصلاة والسلام- حينما ضاقت عليه الدنيا وضيقت عليه قريش وحاربته ومنعته من الدعوة إلى الله خرج من مكة هائمًا على وجهه لا يدري أين يمشي، ولم يفق إلا بعد أن قطع شوطًا طويلاً وهو يمشي؛ قال: "لم أفق إلا وأنا في قرن الثعالب". وهو جبل قرب الطائف على مسافة تزيد على ستين كيلو مترًا تقريبًا، فقطع -عليه الصلاة والسلام- كل هذه المسافة ولم يفق إلا وهو عند هذا الجبل.
قال: أتدري لماذا؟! لأن قومك منعوني أن أدعو إلى الله تعالى، لكنه -عليه الصلاة والسلام- كان راضيًا مطمئنًا بقضاء الله وقدره، بل حينما ذهب إلى الطائف داعيًا رَجَمَه السفهاء والأطفال بالحجارة حتى دميت عقبه -عليه الصلاة والسلام-، وهو يقول: "إن لم يكن بك عليّ سخط فلا أبالي". هذا أمر مقدر عليه.
وحينما يصاب بمصاب جلل؛ يفقد فلذة كبده، بل أحب الناس وأقربهم إلى قلبه إبراهيم -عليه السلام-، ويا لله ما الحزن الذي يعتري هذا الإنسان إذا فقد عزيزًا أو حبيبًا أو قريبًا، خصوصًا إذا كان من أصحاب العواطف الجياشة، ماذا يصاب؟!
هذا -عليه الصلاة والسلام- الذي هو كله رحمة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 117].
فهو رحمة مهداة، ونعمة مسداة للعالمين، مع هذا يصاب بهذا المصاب فيقول: "إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ".
فالذي لا يرضى بقضاء الله وقدره ويجهل عواقب الأمور يصاب بهذا الغم والحزن، ويصل به الحال درجة الاكتئاب.
السبب الثالث: كثرة تعاطي الأدوية الكيميائية التي ربما تكون أحيانًا صوابًا وقد تكون أحيانًا خطأً، هذه الأدوية تسبب إفرازات على الدماغ؛ ما يجعل المتعاطي لهذه الأدوية مصابًا بداء الاكتئاب.
السبب الرابع: تعاطي المخدرات والمسكرات التي إن تمادى الإنسان في تعاطيها ظن أن لا حياة ولا عيش ولا سعادة إلا في تعاطيها، فيدمن عليها، فلا يستطيع تركها بعد ذلك بحال من الأحوال، وحينئذٍ يصاب إذا انقطعت عنه أو مُنع من تعاطيها يصاب بهذا الداء، الاكتئاب والهم والغم، بل قد يصل به الحال إلى الانتحار عياذًا بالله، وهل هذه المخدرات إلا طريق للانتحار؟! هل يقول عاقل: إن تعاطي المخدرات بأشكالها وألوانها ليس سبيلاً للانتحار، إن الأطباء يقولون: تعاطي بعض هذه الأشياء يسبب الموت المحقق إن عاجلاً وإن آجلاً، فهل يقول عاقل: إن هذا ليس بانتحار!!
السبب الخامس: عامل الوراثة: أحيانًا يصاب بعض الناس بالاكتئاب نتيجة الوراثة، قد يكون أبوه أو جد من أجداده مصابًا بهذا الداء، فيسري إليه ولو إلى ثالث أو رابع أو خامس ولد، فيصاب بهذا الداء فيقال: إن هذا عامل وراثي سار معه وانتقل معه من ظهر إلى ظهر، ومن نطفة إلى نطفة، حتى برز وظهر هذا المرض في هذا الإنسان.
إنه مرض فتاك كما قلنا؛ ثمانمائة ألف بحسب إحصائية ليست حديثة، وليس قليلاً أن ينتحر هذا الجمع ممن يصاب بالهم والحزن والاكتئاب.
نسأل الله تعالى أن يرفع عنا وعنكم كل سوء ومكروه، وأن يجنبنا الهموم والغموم؛ إنه على كل شيء قدير.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
فإننا ذكرنا فيما سبق بعض أسباب داء الهم والخزن والاكتئاب، وإذا عرف السبب عرف من خلاله الداء.
والأدوية لهذا المرض الفتاك الذي -كما قلنا- تظهر أعراضه سريعًا على وجه الإنسان؛ يقول ابن القيم: أربعة تهدم الجسم: الهم والحزن والجوع والسهر؛ هذه أدواء تظهر أعراضها سريعًا على الجسم؛ ومن العلاجات:
السير على طريق الله والامتثال لأمر الله -عز وجل-؛ فربنا -سبحانه وتعالى- جعل الهداية والأمان والاطمئنان لكل من سلك هذا الطريق: (فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) [طه: 123]. من اتبع هدى الله لا يضل ولا يشقى.
إذًا اتباع طريق الله سبب أو علاج من علاجات الاكتئاب وذهاب الغم والحزن: (فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 125].
كم تجد من السرور حين تصلي!! وكم تجد من الفرحة وخفة الروح حين تذكر الله وحين تتوكل عليه فيجمع أمورك!! كم تجد من طرب وسعادة وفرح في النفس حين تقرأ كلام الله -عز وجل-!! إنه دين الله تعالى، إذًا اتباع هدى الله علاج يذهب الهم والحزن والاكتئاب.
العلاج الثاني: ذكر الله؛ وهو أن تكون دائمًا ذاكرًا لله تعالى؛ يقول الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) [الرعد: 28، 29].
فالقلب المضطرب الذي لا يجد الطمأنينة؛ الهمُّ إليه أقرب، والحزن إليه أقرب، والاكتئاب يدور من حوله من جميع الجهات، فذكر الله -عزّ وجل- مُذهب وطارد للهم والحزن والاكتئاب، فإذا ألمّ أو نزل بك أمر فقل: يا الله، وإذا نزل بك كرب فنادِ: يا الله؛ يذهب عنك الحزن، وينطرد عنك الهم، ويبتعد عنك الاكتئاب بإذن الله -جل وعلا-.
هو الله سبحانه الذي خلق هذه النفس ويعرف سبحانه ما يناسبها وما يلائمها وما يعالجها: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 114].
ثالثًا: الإكثار من النوافل بعد الفرائض، فإذا أكثرت من النوافل كنت أقرب إلى الله -جل وعلا-، إن الله قال: "من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته".
أي أنك تسير على منهاج الله وبتوفيق من الله -عز وجل-، فلا يضيق صدرك ولا ينتابك هم ولا حزن -بإذن الله سبحانه وتعالى-، فانظر في نفسك هل أنت ممن يصلي شيئًا من صلاة الضحى!! وهل أنت ممن يتقرب إلى الله في جوف الليل!! هل أنت ممن يحافظ على النوافل قبل الفرائض وبعدها؟!
هل أنت ممن يصوم شيئًا من النوافل مثل الاثنين والخميس والأيام البيض!! إذا كنت من هذا الصنف فأنت من الحزن أبعد، وإن أصابك شيء من الحزن فإنه سحابة صيف عن قريب تتقشع عنك -بإذن الله تعالى-.
الرابع: الدعاء والالتجاء إلى الله، والانكسار والتذلل بين يديه، وإظهار الضعف والحاجة إليه سبحانه؛ فإن هذا من أنفع وأنجع الأدوية لذهاب الحزن؛ يقول -عليه الصلاة والسلام-: "ما أصاب عبدًا هم أو حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، عدل فيّ قضاؤك، ماضٍ في حكمك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، وجلاء همي، وذهاب خزني؛ إلا أذهب الله تعالى عنه همه وحزنه".
إنه دعاء قليل، معانيه جليلة عظيمة، يشعر الإنسان حينما يبدأ بقوله: "اللهم إني عبدك"، أي إنني فقير متذلل إليك، أبي عبدك وأمي أمتك، ناصيتي بيدك فأنت تهديها وأنت تضلها وأنت تتصرف فيها... إلى آخر الدعاء. والله ما من إنسان يدعو بهذا الدعاء وهو موقن بالإجابة ويتدبر بمعانيها إلا وقد أذهب الله عنه همه وغمه.
خامسًا: الرضا بقضاء الله تعالى وقدره يزيدك إيمانًا، فأيقن أن هذا خير لك، "فما يصيب المؤمن هم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا رفعه الله بها درجة".
و"عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن".
المؤمن هو الذي يتقلب بين الخيرين، أما الكافر فليس له إلا الهم وليس له إلا الغم، هكذا قضى الله تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران: 140].
هكذا يمسسهم قرح مثله، ولكن قرح المؤمن يرفع الدرجات، وقرح هؤلاء ما يستقبلهم من العذاب والنكال أدهى وأمر.
سادسها: الرفقة الصالحة الطيبة الذين يأمرونك بالخير وينهونك عن الشر ويثبتونك على دين الله تعالى.
يا أيها المحزون، يا أيها المكتئب، يا أيها المغموم: إن أردت الدواء أو أردت العلاج فأول خطوة في العلاج أن تغير صحبتك وتغير أصدقاءك، خاصة إذا كنت تعلم أنهم هم السبب في شقائك وهم السبب في تدمير حياتك، هؤلاء القوم مثلهم مثل قول شاعرهم:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقًا فمشيت
وسأبقى سائرًا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري
حياة كلها حيرة وكلها شقاء، أما رفقاء الخير ورفقاء الإيمان فشعارهم يقول: ذلك الإنسان الذي تكلم بالكلام الطيب والذي كلامه إيمان بالله -جل وعلا- يعرف أنه إنما جاء من أجل طاعة الله ومن أجل عبادة الله -سبحانه تعالى-، أما صاحبنا الذي دخل عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- ووجده في المسجد مهمومًا منكسًا رأسه، قد تقولون: قد شحب وجهه ونحل جسمه، قال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: "ما الذي جاء بك إلى هنا في غير وقت الصلاة؟!"، قال: هموم حلّت بي وديون ركبتني، فقال -عليه الصلاة والسلام- وهذا الرجل هو أبو أمامة الأنصاري: "يا أبا أمامة: "ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن يذهب الله همك ويقضي دينك؟!"، قال: "قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال. فإن أنت قلت ذلك ذهب غمك وقضى الله دينك". قال أبو أمامة -رضي الله عنه-: فقلتهن فأذهب الله همي وقضى ديني.
كلمات يسيرات إذا قالها الإنسان حين يمسي وحين يصبح يعيش عيشة طيبة، إنها عيشة تربطك بالله -سبحانه وتعالى-، وتجعلك مفتقرًا إليه، هو قاضي الحوائج، وقاضي الديون، وهو مفرج الكربات الذي يشرح الصدور وينير العقول.
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يذهب همومنا وغمومنا وأحزاننا وأحزانكم، وأن يحيينا حياة طيبة، إنه سميع الدعاء.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.