العربية
المؤلف | أحمد عماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
التوَكُّل حالٌ مرَكَّبة من مجموع أمور، لا يتحقق التوكل إلا بها: أولها: معرفة بالرب وصفاته؛ من قدرته وكفايته وقَيّوميته، وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته، وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل. الثاني: الأخْذ بالأسباب؛ فإنَّ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فمع خلق آخرَ من أخلاق الإسلام العظيمة الجليلة، مع خلق عظيم النفع، جليل القدر، كبير الأثر، يحتاج إليه العبد في سرّائه وضرّائه، وفي جميع أحواله. هو شعبة من شعب الإيمان، وعمل من أجل أعمال القلوب، دلت على فضله آيات عديدة، وأحاديث كثيرة، من التزم به حماه الله ووقاه، ورزقه وكفاه.
حديثنا اليوم عن التوكل على الله وصدق الاعتماد عليه سبحانه.
والتوكل على الله هو: صدق اعتماد القلب على الله -تعالى- في استجلاب المصالح ودفع المضار، من أمور الدنيا والآخرة.
التوكل أن يعتمد العبد على الله وحده في جميع أموره؛ فيما يرغب فيه من الحاجات، وفيما يحذَره ويخافه من الآفات، وفيما يفعله تقرباً إلى الله -تعالى- من الطاعات، وفيما يجتنبه من الزلات والسيئات.
فالمتوكّل على الله هو الّذي يعلم أنّ الله كافِلٌ رزقَه، مدبّرٌ أمرَه، فيركَن إليه وحده، ولا يتوكّل على أحد سواه.
المتوكل على الله إنسان مستسلم لربه، منقاد لحكمه، معترف أنه لا حول له ولا قوة له إلا بالله.
وقد ذكر ابن القَيِّم -رحمه الله- في كتابه: "مدارج السالكين": أن التوَكُّل حالٌ مرَكَّبة من مجموع أمور، لا يتحقق التوكل إلا بها:
أولها: معرفة بالرب وصفاته؛ من قدرته وكفايته وقَيّوميته، وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته، وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل.
الثاني: الأخْذ بالأسباب؛ فإنَّ الله -عزَّ وجلَّ- جَعَل لكلِّ شيء سببًا.
الثالث: رُسُوخ القلب في مقام التوحيد، وعلى قدر تجريد التوحيد وصحتِه تكون صحة التوكل. أن يعتقد العبد أن الله وحده هو القادر على تحقيق مطالبه وحاجاته، وأن كل ما يحصل له إنما هو بتدبير الله وإرادته. وفي هذا قال عز وجل: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [هود: 123].
الرابع: اعتماد القلب على الله واستناده إليه وسكونه إليه، فلا يتعَلَّق بالأسباب، ولكن يعتمد على مُدَبِّر الأمر، ومُسَبِّب الأسباب.
الخامس: حسن الظن بالله -عز وجل-، فعلى قدر حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه، فتعتقد أنَّ تدبير الله -عزَّ وجل- لك خير مِن تدبيرك لنفسك.
اليقين بأن الله -تعالى- سيحقق للعبد ما يتوكل عليه فيه إذا أخلص نيته، وعلق قلبه بخالقه ومولاه، وفي هذا قال الله -عز وجل-: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 3].
السادس: استسلام القلب لله، وانجذاب دواعيه كلها إليه.
السابع: التفويض؛ وهو روح التوكل ولبه وحقيقته، وهو إلقاء الأمور كلها إلى الله وإنزالها به، طلبا واختيارا، لا كرها واضطرارا، قال عز وجل على لسان نبيه شعيب: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: 88].
الثامن: الرضا؛ وهي ثمرة التوكل، فإن من توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله.
والتوكُّل على الله -يا عباد الله- من أفضل الأعمال القلبية بعد الإيمان واليقين، فلا يقوم الدِّين إلا على أساس التوَكُّل، ولا تستقيم الحياة إلا على أساسه، ولا يكون التوفيق والسداد إلا مع وجوده.
التوكل طاعة وعبادة؛ فإن التوكل على الله عبادة الصادقين، وسبيل المخلصين، أمر الله -تعالى- به أنبياءه المرسلين، وأولياءه المؤمنين، أمر الله به عباده وحثهم عليه، وندبهم إليه في مواضع كثيرة من كتابه، فقال سبحانه: (وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [المائدة: 23]، وقال الله -تعالى- في سبعة مواضع من القرآن الكريم: (وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 122].
وأَمَرَنَا المولَى -تبارك وتعالى- أن نَتَوَكَّل عليه في طاعته وعبادته، فعلَّمَنا سبحانه أن نقول في كل صلاة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5]، وعَلَّمَنا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نقول بعد كل صلاة: "ربِّ أعني على ذكرك، وشكرك، وحُسن عبادتك".
الوكيل من أسماء الله الحسنى؛ فالوكيلُ المفَوَّض في كل الأمور هو اللَّه -عزَّ وجلَّ-، ولهذا أَمَرَ عبادَه بالتوَكُّل عليه، وتفويض الأمور كلها إليه، ليأتي بالخير ويدْفع الشر؛ فقال سبحانه: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [الأحزاب: 3] أي كفى به وليًّا وناصرًا، ومعينا لمن توكل عليه وأناب إليه.
الله -تبارك وتعالى- هو الوكيل، الذي جميع المخلوقات تحت وكالته وتدبيره وتصريفه، قال عز وجل: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) [المزمل: 9].
وهو سبحانه الوكيل، الكفيل بأرزاق الخلائق كلها، القائم بكل ما يصلحهم، وله وحده الخلق والأمر، يدبر أمر الخلائق، ويقسم الأرزاق، ويصرف الأحوال، ويفعل ما يشاء، قال سبحانه: (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الأنعام: 102].
وقد نهى الله -تعالى- عباده من أن يتخذوا وكيلا من دونه، فقال سبحانه: (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا) [الإسراء: 2].
ونفى المولَى -تبارك وتعالى- هذا الوصف عن غيره، فقال لنبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ) [الشورى: 6].
لا تَرْكَننَّ لِمخلوقٍ وكُنْ أبَدا | مِمَّنْ تَوكَّلَ في الدنيا على الله |
ولا تَمِلْ لِسِوَاهُ مَا حَيِيتَ فَمَن | يَرْجُو سِوَى الله هَاوٍ حَبْلُهُ واهِ |
والتوكل -يا عباد الله- من أخلاق المرسلين؛ قال تعالى عن أنبيائه ورسله: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [إبراهيم: 11 - 12].
فالأنبياء أعظم نموذج في حُسن التوكل على الله، وصِدقِ الاعتماد عليه، قال تعالى عن هود -عليه السلام-: (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود: 53 - 56]، فلا أحد يستطيع أن يتصرف خارج إرادة الله ومشيئته.
وقال تعالى عن نوح -عليه السلام-: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ) [يونس: 71]، ومعنى الآية: أعدُّوا أمركم، وادعوا شركاءكم، ثم لا تجعلوا أمركم عليكم مستترًا بل ظاهرًا منكشفًا، ثم اقضوا عليَّ بالعقوبة والسوء الذي في إمكانكم، ولا تمهلوني ساعة من نهار.
وقال الله -تعالى- عن يعقوب -عليه السلام-: (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [يوسف: 66 - 67].
وقال تعالى عن موسى -عليه السلام-: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [يونس: 84 - 86].
الحبيب المصطفى سيد المتوكلين: ولقد كان نبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- سَيِّد المتوَكِّلين، قام بأعباء الدعوة إلى اللَّه -عز وجل- ولَم يلتفتْ إلى إعراض المعرضين وتولِّيهم، ولا إلى جمع المشركين ومكرهم، ولا إلى تفلُّت المنافقين وكيدهم، ولكنه أخذ بأسباب البلاغ والنصر والتمكين، واعتَمَد على ربِّه، ووثق بوعْده ونصره، فكان النصرُ المبين، وتحقق التمكين للمؤمنين.
ومِن تمام توكُّله على ربِّه سماه اللَّه -عز وجل-: المتوكل؛ ففي صحيح البخاري عن عطاء بن يسار قال: لقيتُ عبدَ الله بنَ عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قلت: أخبرني عن صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التوراة؟ قال: "أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) [الأحزاب: 45]، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا".
لما مر ركب برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وهم بحمراء الأسد، فأخبروهم بأن أبا سفيان جمع لهم، -وذلك بعد رجوعهم من غزوة أحد- قالوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) [آل عمران: 173]، فهل تأثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المؤمنين بقولهم ذلك؟ ما زادهم ذلك إلا ثباتا ويقينا وإيمانا بوعد الله ونصره: (فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران: 173 - 174].
روى البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أنه قال: (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173]، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَام- حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ قَالُوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173].
ولما كان صلى الله عليه وسلم في غار ثور صحبة أبي بكر -رضي الله عنه- في هجرتهما إلى المدينة، كان عليه الصلاة والسلام نعم المتوكل على الله والمعتمد عليه، والواثق بنصره وحفظه، قال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه-: "إنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَدَّثَهُ قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا" (متفق عليه).
وفي ذلك يقول ربنا -سبحانه-: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 40].
التوكل من سمات المؤمنين؛ قال تعالى في وصفهم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال: 2 - 4].
وقال تعالى عن مؤمن آل فرعون: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر: 44 - 46] أي "ألجأ إليه وأعتصم به، وألقي أموري كلها لديه، وأتوكل عليه في مصالحي ودفع الضرر الذي يصيبني منكم أو من غيركم".
وقال تعالى عن أم موسى -عليه السلام-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) [القصص: 7 - 8].
ولما فوَّضت أم موسى أمرها إلى الله حفظ الله ابنها ورده إليها سالما: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [القصص: 13].
تَوَكَّلْ عَلى مَوْلاَكَ وَارْضَ بِحُكْمِه | وَكُنْ مُخْلصًا لله في السِّرِّ والجَهْرِ |
قنُوعًا بِمَا أَعْطَاكَ مُسْتَغْنِيًّا به | لَهُ حَامدًا في حَالَيْ العُسْر وَاليُسْرِ |
التوكل ينشأ من علم العبد أن الأمور كلها بيد الله، وأن الخلائق كلها في قبضة الله، وتحت تصرفه وتدبيره، وأن العباد كلَّهم بإنسهم وجنهم، وقويهم وضعيفهم، وغنيهم وفقيرهم، مفتقرون إلى الله، وفي حاجة إلى الله، والله وحده هو الغني الحميد. فإن كنت ضعيفا فتوكل على الله فهو القوي، وإن كنت فقيرا فتوكل على الله فهو الغني، وإن كنت ذليلا فتوكل على الله فهو العزيز، وأيّاً ما كانت حالتك توكل على الله فهو نعم المولى ونعم النصير، وهو على كل شيء وكيل.
فما أفقر الإنسان وما أضعفه، لولا عناية الله به وتوفيقه وعونه ورحمته.
فالخالق هو الله، والرازق هو الله، والمدبر لكل الأمور هو الله. والله -سبحانه و-تعالى- حيٌّ قَيُّوم، لا يغفل عن التصريف والتدبير، وهو سبحانه وتعالى عزيزٌ لا يُغلب، قوي لا يقهر، فلا يَذِلُّ مَن استجار به، ولا يَضيع مَن لاذ بجنابه، حكيمٌ يضع كل شيء في نصابه، رحيمٌ هو أرحمُ بعبدِه المؤمن من رحمة الوالدة بولدها، وقد جاءتْ آيات التوكُّل مقْرُونة بهذه الصفات وأمثالها؛ قال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ) [الفرقان: 58]، وقال: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 49]، وقال: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) [الشعراء: 217]، وقال تعالى: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل: 9]، فمن اتخذ الله وكيلا استراح من هموم الحياة وتعبها، وفاز بالعزة والرحمة والتوفيق من الله -عز وجل-.
فتعلق بالله ليَهديك، والجأ إليه ليَحميك، واستجره ليُجيرك، وسله ليُعطيك، وتضرع إليه ليُجيبك، واستعن به ليُعينك، وارفع إليه حاجتك ليَكفيك؛ روى مسلم في صحيحه عن أبى ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما روى عن الله -تبارك وتعالى- أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا. يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكْسُكُم. يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي؛ لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي؛ لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوَفّيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه".
وقد يظن البعض: أن التوكل يقتضي ترك الأسباب، وعدم الأخذ بها، وهذا خطأ في فهم التوكل. فإن الأخذ بالأسباب مع تفويض أمر النتائج والنّجاح لله -تعالى- والثّقة بأنّه عزّ وجلّ لا يُضيع أجر من أحسن عملا، ذاك هو التّوكّل المأمور به شرعا.
أمّا القعود والتخلي عن الأسباب وعدم السّعي في تحصيلها فليس من التّوكّل في شيء، وإنّما هو عجز وكسل وبطالة واتّكال وتواكل، وقد حذّرنا من ذلك رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، ونهى عن الأسباب المؤدّية إلى العجز والكسل والتفريط والتقصير، مصداق ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: "كنت ردْف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار يقال له: عُفَيْرٌ، فقال: "يا معاذ تدري ما حقّ الله على العباد، وما حق العباد على الله؟" قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا" فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر به الناس؟ قال: "لا تبشرهم، فيَتّكلوا".
فمن تَرَك الأسباب فقد سلك طريق العجْز والكسل، وهذا ما حذر منه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" (رواه مسلم من حديث أبي هريرة).
فالتوكل حال النبي -صلى الله عليه وسلم-، والكسب سنته، فمن عمل على حاله فلا يتركن سنته، فمن طعن في الأسباب فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان، يقول ابن القيّم -رحمه الله-: "التّوكّل من أعظم الأسباب الّتي يَحْصُل بها المطلوب، ويَندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم معه التّوكّل، ولكن من تمام التّوكّل: عدم الرّكون إلى الأسباب، وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بها، فالأسباب محلّ حكمة الله وأمره ونهيه، والتّوكّل متعلّق بربوبيّته وقضائه وقدره، فلا تقوم عبوديّة الأسباب إلّا على ساق التّوكّل، ولا يقوم ساق التّوكّل إلّا على قدم العبوديّة".
وها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا أن نأخذ بالأسباب في كل مجالات الحياة؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله أعقلُها وأتوكل؟ أو أطلِقها وأتوكل؟ قال: "اعقِلها وتوكلْ" (رواه الترمذي وحسنه الألباني).
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله -تعالى-: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) [البقرة: 197].
وروى ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن معاوية بن قرة: أن عمر بن الخطاب لقي ناسا من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: بل أنتم المتكلون"، إنما "المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض، ويتوكل على الله"، وهو الذي قال رضي الله عنه: "لا يقعدن أحدكم في المسجد يقول: الله يرزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة".
وهذا ما أرشدنا إليه ربنا -سبحانه وتعالى- في القرآن الكريم، حيث قال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة: 10].
بل إن من تأمل القرآن يجد أن الله -تعالى- يعلمنا أن نتخذ الأسباب وإن كانت في نفسها ضعيفة، قد لا يتصور أن تكون لها نتيجة؛ فهذا أيوب -عليه السلام- لما اشتد به المرض دعا الله -تعالى- فقال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء: 83]، وقال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) [ص: 41] فاستجاب الله دعاءه، لكن أمره باتخاذ الأسباب حتى وهو في حالة ضعف ومرض، وهو القادر سبحانه على أن يَشفيه ولو بدون اتخاذه لأيّ سبب: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يــس:82]، لكنه لا يريد من عباده أن يتربوا على الخمول والكسل والتواكل وترك العمل، فقال تعالى: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) [ص: 42]، وهل ضربة الصحيح للأرض منبعة للماء؟ لا، فكيف بمن هو مريض كأيوب -عليه السلام-؟ ولكن الله يريد أن يعلمنا أنه لابد من اتخاذ السبب ولو كان ضعيفاً، فالأمر أمره، والكون كونه، ولكن لابد من فعل الأسباب، مع حسن اعتماد القلب على الله -عز وجل-.
وهذه مريم -عليها السلام-، لما كانت في حالة مخاض عند ولادتها لعيسى -عليه السلام-، وهي في حالة وهَن وضعف، واحتاجت إلى طعام، جاءها الأمر باتخاذ السبب: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) [مريم: 25].
فهكذا يعلمنا القرآن أن التوكل الحقيقي يقتضي منا أن نأخذ بالأسباب، أن نبذر الحَبّ في الأرض، وأن نتعاهد الزرع بالري، وأن نبحث عن وسائل العلاج، ونسلك سبل النجاح، ونبتعد عن أسباب الهلاك والفشل والخسران، وقلوبنا متعلقة بالله، لا بما نبذله من أسباب؛ لأن الأسباب وحدها لا تؤثر في الفعل، لا تضر ولا تنفع، ولا ترزق ولا تمنع، إلا بأمر مسبب الأسباب سبحانه، وإذنه وإرادته.
ابذل السبب ولو كان يسيراً، ولكن إياك أن تعلق قلبك بالأسباب، ولكن علقه برب العالمين، واعلم أنّ الله هو مسبب الأسباب، ولو شاء أن يحول بين السبب وأثره لفعل سبحانه، ولذا لما أُلقي إبراهيم في النار لم يحترق، لأن الله لم يأذن للنار بذلك، وإسماعيل -عليه السلام- لما أمرَّ أبوه السكين على عنقه وهي سبب في إزهاق الروح لم تزهق روحه؛ لأن الله لم يأذن في ذلك.
فالفلاح يحرث الأرض ويزرعها، لكنها تنبت بإذن من؟ وبإرادة من؟ تنبت بإذن الله وبإرادة الله، وتثمر بإذن الله وبإرادة الله، ولولا إرادته ما أنبتت ولا أثمرت، وهذا ما أرشد إليه سبحانه وتعالى فقال: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) [الواقعة: 63 - 67].
والجائع يبحث عن الطعام، والظمآن يبحث عن الشراب، والمريض يبحث عن الشفاء، وكل ذي حاجة يبحث عن حاجته، وهذه مجرد أسباب، لكن الذي بيده ذلك كله هو الله، قال تعالى على لسان إبراهيم -عليه السلام-: (إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء: 77 - 82].
الخطبة الثانية:
لقد وردت في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة نصوصٌ كثيرة تحضّ على التّوكّل على الله وتأمر به في مواطن كثيرة من أمور الدنيا والدين، ومن ذلك:
1- التوكل على الله والاستعانة به في عبادته وطاعته: فإن العبد مخلوق ليكون عبدا لله، ليعمل بما يرضي الله، ويبتعد عما لا يرضيه، وهو في ذلك بين شهوة تغريه، وشيطان يغويه، ودنيا تلهيه، فيحتاج إلى عون الله وحفظه وهدايته وتوفيقه، ولذلك علمنا ربنا -سبحانه- أن نطلب منه العون على طاعته وعبادته، فقال سبحانه: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5]، وأمر الله -تعالى- بالعبادة مقرونة بالتوكل، فقال سبحانه: (وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [هود: 123].
2- التوكل على الله -تعالى- في كل ما يريد الإنسان تحقيقه من أمور الدنيا: ولقد كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يُعَلِّم أصحابَه الاستخارة، كما يُعَلِّمهم السورة من القرآن؛ لما في صلاة الاستخارة ودعائِها من تدريب على التوَكُّل على الله، وتفويض الأمر إليه، فالمستَخير يُعلن عن عجْزه عن اختيار ما ينفعه، فيلجأ إلى ربِّه يطلب منه سبحانه بما لديه من علْم تام وقدرة بالغة أن يختار له ما ينفعه وما يُصلِحه، ثم يثق في اختيار الله -عزَّ وجلَّ- له، ويرضى بما قدّره الله -عزَّ وجلَّ- له.
ففي صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال عاجل أمري وآجله- فاقدُره لي ويَسّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال في عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدُرْ لي الخير حيث كان، ثم أرضني" قال: "ويسمي حاجته".
3- عند مواجهة الأعداء أو مسالمتهم: إذا أعرضت عن أعدائك وخصومك فكنْ على الله متوكلا، قال -تعالى-: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [النساء: 81].
وإذا طلبت الصّلح والإصلاح بين قوم فكنْ على الله متوكلا، قال -تعالى-: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [الأنفال: 61].
وإذا أعرض عنك الخلق ففوض أمرك إلى الله، قال -تعالى-: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وهو رب العرش العظيم) [التوبة: 129].
4- عند نزول المصائب وحُلول الكُرَب: إذا حلت بك مصيبة، أو نزل بك همّ وكَرب وبلاء، فكنْ على الله متوكلا، ففي الصحيحين عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ".
وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت" (أخرجه الإمام أحمد وابن حبان والنسائي وأبو داود، وحسنه الألباني في صحيح الجامع).
5- عند الخروج من المنزل: إذا خرجت من بيتك فكن على الله متوكلا؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: يقال حينئذ: هديت، وكفيت، ووقيت، فتتنحى له الشياطين، فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟" (أخرجه الترمذي وأبو داود واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح الترمذي وصحيح أبي داود).
6- عند النوم: إذا أويت إلى فراشك فكن على الله متوكلا؛ ففي الصحيحين عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك، فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به" قال: فرددتها على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما بلغت: اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، قلت: ورسولك، قال: "لا، ونبيك الذي أرسلت".
وفي رواية أخرى للبخاري عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا فلان إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإنك إن مت في ليلتك مت على الفطرة، وإن أصبحتَ أصبْتَ أجرا".
7- عند الحاجة إلى الرزق: إذا سعيت في طلب الرزق فكن على الله متوكلا، فهو الرزاق الذي تكفل بالرزق لكل مخلوق من مخلوقاته: (وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [العنكبوت: 6]، فإياك أن تسأل رزقك من غيره، فغيره يُرزَق ولا يَرزُق، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [العنكبوت: 17].
أخرج الإمام أحمد وابن حبان والترمذي والنسائي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله، لرزقتم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصا وتروح بطانا"، فالطير تتوكل على الله؛ لكنها لا تقعد في أعشاشها، بل إنها تغدو وتروح؛ تذهب في الصباح الباكر للبحث عن الرزق، وتعود في المساء محملةً بالطعام لأولادها في أعشاشها؟ كَدٌّ وسعي وذهاب في طلب الرزق، لكن بدون ملل، وبدون قلق، وبدون هم ولا حزن.
تَوكل على الرحمن في كُلِ حَاجَة | أرَدْتَ فإنَّ الله يَقْضِي ويَقْدِرُ |
مَتَى ما يُردْ ذُو العَرْشِ أمْرًا لِعَبْدِه | يُصِبْهُ وما لِلْعَبْدِ ما يتَخَيَّرُ |
وقد يُهْلَكُ الإِنسانُ مِن حَيثُ أمْنِه | ويَنْجُو بإذْنِ اللهِ من حَيثُ يَحْذَرُ |
وللتوكل على الله وحسن الاعتماد عليه فوائدُ عظيمة، ونتائج جليلة، وهذه بعضها:
1- النصر والتأييد: فإذا أردت أن ينصرك الله على نفسك وعلى أعدائك فكن على الله متوكلا، فهو سبحانه نعم المولى ونعم النصير، قال تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 160]، فأمر الله بالتوكل عليه بعد ذكره للنصر، ليُدَلّل على أنّ من أسبابه الاعتمادُ عليه والتوكل عليه.
2- الكفاية والحماية والرعاية: فالله -سبحانه وتعالى- يكفي مَن تَوَكَّل عليه من كلِّ هَمٍّ وسُوء، قال تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 3] أي كافيه عز وجل في جميع أموره، يكفيه في جلب ما ينفعه، ويكفيه في دفع ما يؤلمه. فلا يحزنْ من توكل على الله، ولا يقلقْ من اعتمد على الله، فسيأتيه الفرَج، وسيأتيه النصر، وسيأتيه التوفيق من عند الله، فهو القائل سبحانه: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) [الزمر: 36]؟ الجواب: بلى، هو سبحانه كاف عبده، حافظ من التجأ إليه، معين من استعان به، ناصر من استنصره.
3- الراحة والطمأنينة: في التوكل على الله راحة نفسية، وطمأنينة قلبيه. فالمؤمن المتوكل على الله إذا أصابه خير علم أنه فضل من الله، فحمده وشكره فكان خيراً له، وإن أصابته شدة أيقن أن الله هو الذي أصابه بها اختباراً له وابتلاءً، فصبر واسترجع فكان خيراً له، وهذا ما أرشدنا إليه نبينا -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه مسلم في صحيحه عن صهيب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له".
فالمتوكل على الله لا ييأس ولا يضجر ولا يقلق، بل هو في راحة وطمأنينة؛ لأنه يعلم أنه لا يجري عليه إلا ما قضاه الله وقدّره، فربنا -سبحانه وتعالى- يقول: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة:51].
4- الحفظ من الشيطان الرجيم: العدو اللدود لكل إنسان، الذي أقسم بأغلظ الأيمان أن يضل هذا الإنسان ويغويه: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف: 16 - 17].
فإذا أردت أن يحميك الله من الشيطان وأن يحفظك من كيده وشره ووساوسه فكنْ على الله متوكلا، وبه مستعيذا؛ فقد قال سبحانه: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت: 36].
وأخبر ربنا -سبحانه- أنه لا سبيل للشيطان ولا سلطان له على من آمن بالله وتوكل عليه، فقال عز وجل: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) [النحل: 99].
5- الفوز بمحبة الله -عز وجل-: فمن أراد أن ينال محبّة الله فليكن متوكلا على الله، معتمدا عليه في كل أمر يريد فعله، فقد قال تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].
6- الفوز بالجنة: فمن أراد الجنة فليتوكلْ على الله وليستعنْ بالله، ليوفقه للعمل بطاعته، والبعد عن معصيته، فذاك هو الطريق إلى مرضاته وجناته، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يتوكلون) [العنكبوت: 58 - 59]، وقال تعالى: (وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الشورى: 36].
فاتقوا الله -تعالى- الذي خلقكم ورزقكم ورباكم، والذي أطعمكم وكفاكم وآواكم، والذي أنقذكم من الردى وهداكم، وتوكلوا حق التوكل عليه في إصلاح دينكم ودنياكم.
فاللهم ارزقنا التوكل عليك، وحسن الاعتماد عليك، اللهم ارزقنا الثقة فيك، وحسن الظن بك، واليقين فيما عندك، يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
اللهم اجعلنا ممن توكل عليك فكفيته، واستعان بك فأعنته، واستهداك فهديته، ودعاك فأجبته، وسألك فمنحته وأعطيته، يا رب العالمين.