العالم
كلمة (عالم) في اللغة اسم فاعل من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
لا عافية ولا راحة ولا سعادة إلا بسلامة القلب من وساوس الضغينة والغل ونيران العداوة والحقد، ومن أمسك في قلبه عداوة وتربص الفرصة للنقمة، وأضمر الشر لمن أساء إليه؛ تكدر عيشه واضطربت نفسه ووهن جسده وأُكِلَ عِرْضُه، والعافية إنما هي في التغاضي والتغافل, وقد قيل: "في إغضائك راحة أعضائك"، وقيل: "الأديب العاقل هو الفطن المتغافل...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العليم القدير, خلق الخلق ودبّرهم بعلمه وقدرته، وقضى فيهم بأمره، وسلّط بعضهم على بعض بحكمته، وأمد للظالم يستدرجه، نحمده على قضائه، ونشكره على عافيته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ اصطفاه الله تعالى واجتباه، وللهدى هداه، ومن الخير أعطاه (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) [الضُّحى:6-8]، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتوبوا إليه قبل أن يدهمكم العذاب، وتذكروا جميل ما وصاكم الله به من الإيمان به وبرسوله والاستقامة على شرعه، واعلموا أن من التزم ذلك كتب الله له أجرًا ورفعه قدرًا، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت: 30- 32]، أسأل الله أن يكتب لنا الإيمان في قلوبنا، وأن يدخلنا بفضله في رحمته، آمين.
عباد الله: إن سلامة صدرِ المرء من الغش وخُلوّ نفسِه من نزعةِ الانتصار للنَّفس والتشَفِّي لحظوظِها لهي سِمَة المؤمن الصالح الهيّن اللَّيِّن الذي لا غلَّ فيه ولا حسَد، يؤثر حقَّ الآخرين على حقِّه، ويعلم أنَّ الحياةَ دارُ ممرٍّ وليسَت دار مَقرٍّ؛ إذ ما حاجةُ الدنيا في مفهومه إن لم تكُن موصِلَةً إلى الآخرة؛ بل ما قيمةُ عيشِ المرء على هذه البسيطة وهو يَكنِزُ في قلبه حبَّ الذات والغِلظة والفَظاظَة، ويُفرِزُ بين الحين والآخر ما يؤكِّد من خلالِه قَسوَةَ قلبِه وضيق عَطَنه؟!.
ولقد كان من أهم المبادئ التي دعت إليها الرسالات السماوية عامة، ورسالة الإسلام خاصة، هي الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، فهذا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- قال كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "إنما بُعثت لأتممَ صالح الأخلاق" [أبو داود (404) وصححه الألباني]، فحسن خلق المؤمن دليل كمال إيمانه، وهو طريق السائرين إلى دار الفالحين, ومن هذه الأخلاق خُلق العفو والصفح والتسامح ومغفرة الزلات.
عباد الله: لا شك أن الناس يتفاوتون في مكارم الأخلاق، ومقامات الإحسان، وجميل السجايا والخصال، وإن العفو عن المسيء في أمر المعاش وعن المقصر في أدب الصحبة وحقوق المخالطة والإغضاء عن زلته, والتجافي عن هفوته, والتغافل عن عثرته, واحتمال سقطته؛ من أجَلِّ الصفات وأنبل الخصال, يقول -جل في علاه-: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران 133 – 134]، وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى: 37].
أيها الإخوة: إن أوثق عرى الروابط الاجتماعية وأدعاها للتماسك والألفة مبناها على العفو والصفح، وهذه الصفة لا ينالها إلا أصحاب الحظوظ العظيمة والقلوب السليمة التي يعمرها الإيمان بالله, وأولئك هم المحسنون. قال -سبحانه-: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 34 - 35].
أخي الكريم: لقد جُربت اللذات كلها فما وجد ألذ من العفو والصفح والمسامحة للآخرين، وقد أمر الله بالعفو عن الناس، فقال تعالى: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) [البقرة: 109]، وفضّل العفو ورفع منزلة العافين، فقال: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [البقرة: 237]، وجعل -سبحانه- العفو عن الناس من خصال المحسنين، فقال -جل وعلا-: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) [آل عمران: 134]، وجعل -سبحانه- أجر من يعفو عن الناس عليه -سبحانه- وتعالى، فقال: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى: 40].
أيها الإخوة: إن الله -عز وجل- رغَّب العفو والصفح وجعلهما من مكارم الأخلاق، وأعطى على ذلك أجرًا عظيمًا، فالعفو أقرب للتقوى، والصفح أكرم في العقبى، نعم فالترك أحسن في الذكرى، والمنُّ أفضل في الآخرة والأولى, وهو أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة, ومعناه أن تستحق حقاً فتسقطه وتؤدي عنه قال الله في وصف المتقين وأعمالهم: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134]، وقال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَة سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى: 40]، فقد دلت الآيات على أنه يجوز المقابلة بالمثل، ولكن العفو أفضل، كما بينت عظيم أجر العافين عن الناس.
وقد مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- صفة الحلم والصفح وحسن التعامل مع الناس، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأشج عبد القيس: "إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُّحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ" [مسلم (18)].
أيها الإخوة: من معاني العفو ترك معاقبة مَن يستحق العقاب مع القدرة عليه، كما أن من معاني الصفح: الإعراض عن ذنب المذنب وعدم مؤاخذته به، والعفو والصفح هما من أخلاق الإسلام العظيمة التي دعا وحثّ عليها، يقول الله تعالى مخاطباً نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [ الأعراف: 199 ]، فالخير كل الخير في ألا نقابل إساءة الناس لنا بإساءتنا لهم، وألا نعامل بالمثل مَن هجرنا وقطع رحمه ومودته عنّا بل الأولى أن نصلهم، ونرفق بهم، ونراعي أحوالهم ونعفو ونصفح عن زلاتهم وأخطائهم، فإنّ أفضل الأخلاق أن تصل مَن قطعك، وتعفو عمّن ظلمك، وتعطي مَن حرمك.
عباد الله: ما أكثَرَ الذين يبحَثون عن مصادرِ العزِّة وسبُلها, والتنقيب عنها يمنةً ويَسرةً, والتطلُّع إلى الاصطباغِ بها أو بشيءٍ منها مهما بلَغ الجَهدُ في تحصيلها، مع كثرَتِها وتنوُّع ضُروبها، غيرَ أنَّ ثمَّةَ مصدرًا عظيمًا من مصادرِ العزَّة يغفل عنه جلُّ النّاس مع سهولَتِه وقلَّة المؤونةِ في تحصيله, دون إجلابٍ عليه بخيلٍ ولا رَجلٍ؛ إنما مفتاحُه شيءٌ من قوَّةِ الإرادة وزمِّ النفسِ عن استِتمامِ حظوظها واستيفاءِ كلِّ حقوقِها، يتمثَّل هذا المفتاحُ في تصفِيَة القلب من شواغلِ حظوظ الذّات وحبِّ الأخذ دون الإعطاءِ.
هذه العزّةُ برمَّتها يمكِن تحصيلُها في ولوجِ المرء بابَ العفو والصَّفح والتسامح والمغفرة، فطِيبُ النفس وحسنُ الظنّ بالآخرين, وقَبول الاعتذار وإقالةُ العثرة, وكَظم الغيظ والعفوُ عن الناس, كلُّ ذلك يعَدّ من أهمِّ ما حضَّ عليه الإسلام في تعامُل المسلمين مع بعضِهم البعض.
ومَن كانت هذه صفَته فهو خليقٌ بأن يكونَ من أهل العزَّة والرفعة؛ لأنَّ النبيَّ قال: "ما نقَصَت صدقةٌ من مالٍ، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلاَّ عِزًّا، وما تواضَعَ أحدٌ للهِ إلا رفعَه" [مسلم(2588)]، وفي لفظٍ لأحمد: "ما مِن عبدٍ ظُلِمَ بمظلمةٍ فيُغضِي عنها لله إلاَّ أعزَّه الله تعالى بها ونصَره" [مسند أحمد (9622) وصححه الألباني في الصحيحة (2231)]. فهذِه هي العِزَّة يا باغيَ العزة، وهذه هي الرِّفعة يا من تنشُدُها.
أيها الإخوة: إنَّ العفو عن الآخرين ليس بالأمرِ الهيِّن؛ إذ له في النّفسِ ثِقلٌ لا يتِمّ التغلُّب عليه إلاّ بمصارعةِ حبِّ الانتصار والانتقامِ للنفس، ولا يكون ذلك إلا للأقوياءِ الذين استعصَوا على حظوظ النّفس ورغباتها وإن كانت حقًّا لهم يجوزُ لهم إمضاؤُه, لقوله تعالى: (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ) [الشورى:41]، غيرَ أنَّ التنازل عن الحقّ وملكةَ النفس عن إنفاذِه لهو دليلٌ على تجاوزِ المألوفِ وخَرق العادات.
ومِن هنا يأتي التميُّز عن عموم الناس، وهذا هو الشَّديد الممدوحُ الذي يملِك نفسه عند الغضب كما في الصحيحَين وغيرهما عن النبي، وفي حديث سهل بن معاذ بن عن أبيه أن النبيِّ -عليه الصلاة والسلام- قال: "من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفِذَه؛ دعاه الله على رؤوسِ الخلائق حتى يخيِّرَهُ من أيِّ الحور شاء" [أبو داود (4779) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (6518)].
عباد الله: إن طِيب النفس وسلامة الصدر، وحسن الظن بالآخرين، وقبول الاعتذار، وإقالة العثرة، وكظم الغيط والعفوِ عن الناس, تلك النفوس وعدها الله بمغفرته وجنته, وأولى الناس بالعفوِ والصفح والتماس الأعذار مَن هم قريبون منا كالأهل والأصدقاء والخدم. وكان العفو دائماً ولازال خُلقاً من خُلُقِ الكرام, فالله الله في العفو والصفح، فلنتصف بهذا الخلق ولنكثر من هذا الدعاء: "اللهم إنك عفوٌ كريمٌ تحب العفوَ فاعفُ عنَا" [الترمذي (3513) وصححه الألباني].
ولا بد لمن ولاّه الله أمر جماعة أو أمة من قائد أو أمير أو زعيم أن يتحلى بهذا الخلق؛ لكي تستقيم له الأمور وتنقاد له الرعية بالسمع والطاعة، وقد كان أولى الخلق بهذا محمد -عليه الصلاة والسلام- قال الله - تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [آل عمران: 159]، قال العلامة السعدي في تفسير الآية المذكورة: "فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدنيا تجذب الناس إلى دين الله وترغبهم فيه مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص. والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفّر الناس عن الدين وتبغّضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول فكيف بغيره.
أليس من أوجب الواجبات وأهم المهمات الاقتداء بأخلاقه الكريمة ومعاملة الناس بما كان يعاملهم به من اللين وحسن الخلق والتألف امتثالاً لأمر الله وجذباً لعباد الله إلى دين الإسلام. ثم أمره تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه، ويستغفر لهم في التقصير في حق الله فيجمع بين العفو والإحسان". اهـ.
كما حث الله -سبحانه- صاحب نبيه الكريم أبا بكر الصدّيق -رضي الله عنه- لنيل هذا الخُلق الكبير ودعاهم إليه؛ كونه أكمل للخلص وأرفع للكمّل من عباده، قال تعالى: (وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22]، وذلك في قصة الإفك عندما وقع مسطح في عرض أمنا عائشة وخاض مع الخائضين، وكان أبو بكر يعطيه نفقة مستمرة، فلما قال ذلك حلف ألا ينفق عليه.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما" أَنْزَلَ اللَّهُ: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "بَلَى وَاللَّهِ، إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا" [البخاري (11/523) ومسلم (2770)].
والترغيب في العفو لم يكن مقتصِرًا على العفو في الظاهرِ دون الباطن، بل عمَّ الظاهر والباطنَ معًا، فأطلق على الظاهر لفظَ العفو، وأطلق على الباطنِ لفظ الصَّفح، والعفوُ والصفح بينهما تقارُبٌ في الجملة، إلاَّ أنَّ الصفحَ أبلغ من العفو؛ لأنَّ الصفح تجاوزٌ عن الخطأ بالكلية مع محو أثره من النفس، أمّا العفو فإنّه يقتضي إسقاطَ اللوم الظاهر دونَ الباطن فهو عدم المؤاخذة مع إمكان بقاء أثر ذلك في النفس.
عباد الله: لا شك أن الاحتكاك بالناس يتولّد منه بعض المصادمات؛ نتيجة لاختلافهم آرائهم وتباينهم في طباعهم، أو نتيجة لسوء الفهم، ممّا يؤدي إلى بروز المشاكل، وظهور التخاصم بين الإخوان والأصدقاء. وإنّ خلق العفو والصفح يقتضي من صاحبه المبادرة إلى التنازل عن حقه في أي موقف جدلي ليحلّ مشكلة هو طرف فيها، أو ليطوي صفحة طال الحديث فيها، أو ليتألف قلباً يدعوه، أو ليستطيب نفس أخيه، ولا يكون العفو إلاّ مع من ظلم أو إساءة، وحينها يكون العفو والصفح بلسم لوأد ذلك الخلاف، والدواء لعلاج ذلك الخصام هو بالتخلق بخلق العفو والسماحة، فهو كالماء يطفئ نار الخلاف والنزاع.
ومن ألزم ما يعين المرء على العفو والصفح سلامة صدره من الغل وخلوه من نزعة الانتصار للنفس، فهذه سمة المؤمن الصالح الهيّن الليّن الذي لا يحمل غلاً ولا حسداً، ولذلك استحق صاحب هذه الصفة دخول الجنة.
أيها الإخوة: والعفو سمة العظماء، ومن أخصّ صفات الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-، فهم يلاقون من قومهم صنوف الأذى والبلاء، فكان لا بدّ أن يقابلوا إساءة المسيء بعفو وصفح لتأنس بهم النفوس، وتطمئن لهم القلوب.
فهذا نبي الله يوسف -عليه السلام- يعطي مثلاً رائعاً في قصته مع إخوته، بعد أن فعلوا به ما فعلوا، فقد ألقوه في البئر ليتخلصوا منه، فعانى من جراء ذلك ما عانى من ذل العبودية والسجن، ومع ذلك قابلهم بعفو منه وصفح, يقول تعالى: (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف: 91، 92].
وسيّد العافين عن الناس نبيّنا -صلى الله عليه وسلم-، الذي تخلّق بهذا الخلق امتثالاً لأمر الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [آل عمران: 159].
ومن قصص العفو التي عزّ وجودها، وندر حدوثها, عفوه -صلى الله عليه وسلم- عن زعيم المنافقين عبدالله بن أُبيّ بن سلول، الذي كان عدواً لدوداً للمسلمين، يتربص بهم الدوائر، لا يجد فرصة للطعن فيهم والنيل من نبيّهم إلاّ انتهزها، وهو الذي أشاع مقالة السوء على أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، وجعل المرجفين يتهامسون بالإفك حولها، حتى نزلت سورة النور لتبرئ الصدّيقة بنت الصدّيق.
فحينما مات هذا المنافق جاء ولده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطلب منه الصفح عن أبيه، وأن يكفّنه في قميص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمنحه إيّاه، ثم طلب منه أن يصلى عليه ويستغفر له، فلم يردّ رسول الله طلبه، فصلى عليه واستغفر له الله, حتى نزل قوله تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) [التوبة: 84].
أيها الإخوة الكرام: لقد غُمر المذنبون الذين كانوا ينتظرون القصاص، ويستحقونه بأنبل عفو، وأجمل صفح، حتى قال أبو سفيان الذي ناصب رسول الله العداء أعواماً طويلة، قال: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما أرحمك وما أحلمك وما أحكمك وما أوصلك وما أكرمك"، وهذا ما رووه عنه صحابته, فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما - أنه قال في صفة رسول الله - -صلى الله عليه وسلم- -:"ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا صخَّابٍ في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح" [البخاري(2125)].
صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله؛ ما أجمل عفوك عند المقدرة، وما أعظم نفسك التي سمت كل هذا السمو فارتفعت فوق الحقد وفوق الانتقام، لقد ترفعت عن كل عاطفة دنيا، وبلغت من النبل فوق ما يبلغ الإنسان، لقد مكَّنك الله من عدوك فقدرت وعفوت، فضربت بذلك للعالم كله ولأجياله مثلاً أعلى في العفو والصفح، فلم تجعل من يوم فتح مكة يوم تشفٍ ولا انتقام بل جعلته يوم برٍّ ورحمة وسلام.
لقد وصفه أقرب الناس إليه وأكثر الناس عيشًا واحتكاكًا به كخدمه ومواليه، تقول زوجته عائشة -رضي الله عنها-: "ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمة إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيءٌ قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله -عز وجل-" [مسلم (2328)].
لا يبلغ المجد أقوامٌ وإن كَرُمُوا | حتى يذلوا وإن عزُّوا لأقوام |
ويُشْتَمُوا فترى الألوان مُسْفِرَةً | لا صفح ذُلٍّ ولكن صفح أحلام |
وهذا الإمام ابن القيم -رحمه الله- يتحدث عن حسن خلق شيخ الإسلام ابن تيمية ومنزلة العفو عنده وإحسانه إلى من أساء إليه, قال: "وما رأيت أحداً أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية؛ كان بعض أصحابه يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه, وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم.
وجئته يوماً مبشِّراً بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى، فنهرني، وتنكّر لي، واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزّاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا الكلام، فسرّوا به ودعوا له، وعظموا هذا الحال منه، فرحمه الله تعالى".
نسأل الله أن يرزقنا حسن الخلق، وأن يجنبنا أراذلها، وأن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
أيها المسلمون: لا عافية ولا راحة ولا سعادة إلا بسلامة القلب من وساوس الضغينة والغل ونيران العداوة والحقد، ومن أمسك في قلبه عداوة وتربص الفرصة للنقمة، وأضمر الشر لمن أساء إليه؛ تكدر عيشه واضطربت نفسه ووهن جسده وأُكِلَ عِرْضُه، والعافية إنما هي في التغاضي والتغافل, وقد قيل: "في إغضائك راحة أعضائك"، وقيل: "الأديب العاقل هو الفطن المتغافل"، وقيل للإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل؟! فقال: العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل".
أيها الإخوة: إن العفو شِعار الصالحين الأنقِيَاء ذوِي الحِلم والأناة والنّفس الرضيّة؛ لأنَّ التنازلَ عن الحقِّ نوعُ إيثارٍ للآجلِ على العاجل, وبسطٍ لخُلُقٍ نقيٍّ تقيٍّ ينفُذ بقوّةٍ إلى شِغاف قلوب الآخرين، فلا يملِكون أمامه إلا إبداءَ نظرةِ إجلالٍ وإكبار لمن هذه صفتُه وهذا ديدَنُه، قال الله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22].
وكان العفو ديدن السلف الصالح، فهذا الفضيل بن عياض يقول: "إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلاً، فقل: يا أخي، اعفُ عنه، فإن العفو أقرب للتقوى؛ فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني الله -عز وجل- قل: فإن كنت تحسن تنتصر مثلاً بمثل، وإلا فارجع إلى باب العفو، فإنه باب أوسع، فإنه من عفا وأصلح، فأجره على الله، وصاحب العفو: ينام الليل على فراشه، وصاحب الانتصار: يقلب الأمور".
لا شك أن الله تعالى يعامل العبد بمثل ما يعامل به العبد الناس، فاعفُ يعفُ الله عنك، وأحسن يحسن الله إليك، واغفر يغفر الله لك، وارحم يرحمك الله، فالجزاء من جنس العمل.
وهذا الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- يسامح من آذوه في المحنة، قال الإمام الذهبي -رحمه الله- في مناقب الإمام أحمد: "وعن عبد الله بن أحمد قال: وسمعت أبي يقول: لقد جعلت الميتَ في حلٍّ من ضربه إياي.. ثم قال: وما على رجل أن لا يُعذب الله بسببه أحدًا". [سير أعلام النبلاء 11/257].
عباد الله: إذا أيقن الإنسان أن العفو سُلّم يرقى به إلى عز الدنيا والآخرة، وأن الانتقام دركات يهوي بها إلى ذل ومقت يلاحقانه حتى الممات آثر العفو على الانتقام، وإذا علم أبناء المجتمع الواحد أنه بالعفو تتسع دائرة الصداقات والمودات فيصبح المجتمع كالبنيان المرصوص، وبالانتقام تفشو العداوات والأحقاد حتى تصل بالمجتمع إلى أحط الدركات صار العفو ديدنهم.
عباد الله: وهناك لطيفة ينبغي أن ينتبه إليها العبد الموفق، أشار إليها ابن القيم -رحمه الله-: فقال: "إلا إن من آذاك حقه أن تعتذر إليه لا أن تعاقبه وتنتقم منه، لأنه ما آذاك وتسلط عليك إلا بسبب ذنب أحدثته: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [سورة الشورى: 30]، فقدر الله أن تكون عقوبتك على يديه، فأنت السبب في معصيته فيك".
أليس من الواجب على من يزعم العروبة فضلاً عن الإسلام أن يمتثلوا قول الشاعر العربي فيتحلون بنصيب من كلامه حيث قال:
وإن الذي بيني وبين بني أبي | وبين بني عمي لمختلف جدا |
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم | وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا |
ولا أحمل الحقد القديم عليهم | وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا |
يكفي أن الذي يتحلى بالعفو ويتصف به يحبه الله, فالله تعالى يحب من عباده أن يتصفوا بصفاته، فالله -سبحانه- رفيق يحب الرفق، رحيم يحب الرحماء، عفو يحب العفو والعافين عن الناس, يقول الحسن البصري: "إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم من كان أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا"، يقول الله تعالى: (وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشورى:40]. ولكن من الذي ينال هذا الأجر العظيم بعفوه عن الناس؟، يقول تعالى: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ) [فصلت:35].
إخوة الإسلام: العفو ليس بالأمر الهين ولكنه يسير على من يسره الله عليه, فلا يتوصل إلى العفو إلاّ بمصارعةِ حبِّ الانتصار والانتقامِ للنفس، ولا يكون ذلك إلا للأقوياءِ الذين استعصَوا على حظوظ النّفس ورغباتها وإن كانت حقًّا لهم يجوزُ لهم إمضاؤُه لقوله تعالى: (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ) [الشورى:41]، غيرَ أنَّ التنازل عن الحقّ وملكةَ النفس عن إنفاذِه لهو دليلٌ على تجاوزِ المألوفِ وخَرق العادات، ومِن هنا يأتي التميُّز عن العُموم.
والتحلي بهذه المكارم، والتمسّك بهذه الفضائل لأمر يجدر بنا الحرص عليه، والسعي إلى تطبيقه في حياتنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، ملحّين على الله تعالى بالدعاء أن يرزقنا العفو والصفح، وأن يجعلنا من الذين لانت قلوبهم، ورقت طباعهم، وتسامحت نفوسهم مع إخوانهم.
أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنها سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك.