القهار
كلمة (القهّار) في اللغة صيغة مبالغة من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | أحمد عماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
داء خطير؛ يُسبب الهلاك والخسران للمجتمعات، ويفسدُ أحوالها، وينشر الظلم فيها، وما انتشر هذا الداء في مجتمع إلا وغابت منه الفضيلة، وحلت فيه الرذيلة والكراهية والأحقاد، وما وقع في أمة إلا وحلَّ فيها الغش محل النصيحة، والخيانة محلَّ الأمانة، والظلم محل العدل، والخوف محل...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
ثم أما بعد:
إخوتي الكرام: حديثنا اليوم عن داءٍ فتَّاك، ومرض عضال، خطرُه على الأفراد عظيم، وفساده للمجتمع كبير، ما وقع فيه امرؤ إلا ومُحِقت منه البركة في صحته ووقته ورزقه وعياله وعمره، وما تدنَّس به أحد إلا وحُجبت دعوته، وذهبت مروءته، وفسدت أخلاقه، ونُزع حياؤه، وساء منْبَته، وخسرَ في دنياه وفي أخراه؛ إنه أكل أموال الناس بالباطل؛ داء خطير، يُسبب الهلاك والخسران للمجتمعات، ويفسدُ أحوالها، وينشر الظلم فيها، وما انتشر هذا الداء في مجتمع إلا وغابت منه الفضيلة، وحلت فيه الرذيلة والكراهية والأحقاد، وما وقع في أمة إلا وحلَّ فيها الغش محل النصيحة، والخيانة محلَّ الأمانة، والظلم محل العدل، والخوف محل الأمن.
وأكلُ أموال الناس بالباطل؛ هو ما يأخذه الإنسان ويستولي عليه من أموال الناس من غير وجه حق، إما سرقة وغصبا، أو ظلما وعدوانا، أو غشا واحتيالا، وكلّ ذلك مما حرّمه الإسلام، وحذر من مخاطِره، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [النساء: 29].
وعن أبي هريرة -رَضي الله عنه- أن رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- قال: "كل المسلم على المسلم حرام؛ دمُه وماله وعِرْضُه" (رواه مسلم)، وعن أبي بكرة -رَضي الله عنه- أن رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- قال في خطبته يوم النحر بمنى في حَجة الوداع: "إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، حرام عليكم، كحُرْمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت" قلنا: نعم، قال: "اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب" (متفق عليه).
إخوتي الكرام: لأكل أموال الناس بالباطل صورٌ كثيرة، ومظاهرُ عديدة، جاء الإسلام بتحريمها، وحماية الناس منها، لما يترتب عليه من مخاطرَ جسيمة، وعواقبَ وخيمة في الدنيا والآخرة، ومن ذلك: الغصْبُ والسرقة: وهذا داء يعاني منه مجتمعنا اليوم، تغتصَبُ أموال الناس وتُسْرَق تحت تهديد الخناجر والسيوف، وترتكبُ فيه أبشع الجرائم من قتل وجَرْح وتشويه، ولذلك شدد فيه الإسلام ووضع له حدا من الحدود، فقال الله -تعالى-: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة فاقطعُوا أيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة: 38].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلى الله عليه وسلم-: "لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبلَ فتقطع يده".
ومن ذلك: غصْبُ الأرض والاستيلاءُ عليها: فعندما ينعدم الخوف من الله، تصير القوة والحيلة وبالا على صاحبها، يستخدمها في الظلم والعدوان، ويوظفها في الاستيلاء على أموال الآخرين وهضم حقوقهم، وقد توعد النبي -صَلى الله عليه وسلم- من غصبَ أراضا وانتزعها من صاحبه بأشد الوعيد؛ فعن عبد الله بن عمر قال: قال النبي -صَلى الله عليه وسلم-: "من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خُسِفَ به يوم القيامة إلى سبع أرضين" (رواه البخاري في صحيحه).
وفي صحيح مسلم عن علي بن أبى طالب -رَضي الله عنه- عن النبي -صَلى الله عليه وسلم- قال: "لعن الله من غير منار الأرض" (أي غير حدودها، فانتزع قطعة من أرض جاره وأضافها إلى نصيبه).
الرشوة: وهي كلّ ما يدفعه المرء لمن تولَّى عملاً من أعمال المسلمين ليتوصَّل به إلى ما لا يَحل له. ولها صور كثيرة؛ من أعظمها ما يُعطى لإبطال حق، أو إحقاق باطل، أو لظلم أحدٍ من الناس. ومن صُورها: دفع المال في مقابل قضاء مصلحةٍ يجب على المسؤول عنها قضاؤها بدون هذا المقابل. ومن صورها أيضاً: من رشى ليُعْطى ما ليس له، أو ليدفع حقاً قد لزمه، أو رشى ليُفضَّل أو يقدَّم على غيره من المستحقين.
وقد حرّم الإسلام الرشوة أخذا وعطاء، وحذر منها، فقال الله -تعالى-: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 188]، وعن عبد الله بن عمرو قال: "لعن رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي" (رواه أحمد والترمذي وأبو داود)، وفي رواية لأحمد وابن ماجة عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صَلى الله عليه وسلم-: "لعنة الله على الراشي والمرتشي".
فالرشوة كسب خبيث، وأكلٌ لأموال الناس بالباطل، وإعانة على الظلم والعدوان، وهدْرٌ لكرامة الإنسان، وهي دعوة قبيحة لنشر الرذائل والفساد، وإطلاق العنان لرغبات النفوس، وانتشار الاختلاس والتزوير، واستغلال السلطة والتحايل على النظام، فتتعطل حينئذ مصالح المجتمع، ويسود فيه الشر والظلم، وينتشر فيه البُؤس والفقر والشقاء.
لذا حرّم الإسلام الرشوة حتى ولو ألبسها صاحبها ثوب الهدية؛ ففي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي -رَضي الله عنه- قال: "استعمل رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- رجلا من الأسْدِ يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدِمَ قال: هذا لكم، وهذا لي أهدي لي، قال: فقام رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعدَ في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيُهدَى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيْعَرُ"، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، ثم قال: "اللهم هل بلغت" مرتين.
وعن بُرَيْدة بنِ الحُصَيْب -رَضي الله عنه- عن النبي -صَلى الله عليه وسلم- قال: "مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فرَزَقنَاهُ رِزْقا، فمَا أخَذ بَعْدَ ذلِكَ فهُوَ غُلولٌ" (أخرجه أبو داود وصححه الألبانيُّ في صحيح الجامع).
الغش في البيع والشراء: فمن التجار من يكذب على الناس، ويتحايل عليهم، ويحلف في بيعه بالحلف الكاذب ليُغريَ غيرَه بسلعته، وهذا ظلم وأكل لأموال الناس بالباطل، وقد قال نبينا -صَلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة؛ المنان الذي لا يعطي شيئا إلا مَنّه، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزارَه" (أخرجه مسلم عن أبي ذر).
ومن ذلك: التطفيفُ في الكيل والميزان: وهذا أمر يتهاون فيه كثير من الناس، فإذا كانوا بائعين أخسَرُوا ونقصوا في الكيل والوزن، وإذا كانوا مشترين استوفوْا وزادوا في الكيل والوزن، والله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 1 - 6].
ومن ذلك: كتمُ عيوب السلعة وإخفاؤها عند بيعها: فكثير من الباعة اليوم ممن لا يخافون الله لا يبينون عيوب السلعة التي يبيعونها، بل يجتهدون في إخفائها بشتى أنواع الحيَل، وهذا من الحرام الذي حذر منه النبي -صَلى الله عليه وسلم- في أحاديث كثيرة؛ فعن عقبة بن عامر -رَضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- يقول: "المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باعَ من أخيه بيْعا فيه عيْبٌ إلا بيّنه له" (رواه ابن ماجة والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- أن رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- مرّ على صُبْرَة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا، فقال: "ما هذا يا صاحبَ الطعام؟" قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشّ فليس مني".
أكل مال اليتيم: فمن كان عنده مال ليتيم فأكله أو جحده فهو آكل لأموال الناس بالباطل، وقد توعد الله -تعالى- عليه بأشد الوعيد، فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النساء: 10].
فواجب على من تولى رعاية يتيم عنده مال أن يدفع إليه ماله كاملا عندما يأنس منه الرشد وحُسْن التصرف، فقد قال تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا) [النساء: 6]، ويقول جل وعلا: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا) [النساء: 2].
أكل مال الأجير والمستخدَم: وذلك بعدم إعطاء العُمّال والأجَرَاء والموظفين حقوقهم بعد استيفائهم لأعمالهم، سواء كان ذلك بجَحْدِ حق الأجير وإنكاره من طرف المسؤول أو صاحب العمل، أو ببخسه في حقه فلا يعطيه إياه كاملا، أو يزيد عليه أعمالا إضافية من غير مقابل، أو يماطل فيه فلا يدفعه إليه إلا بعد جهد وعناء، فويل لهؤلاء الظلمة من عذاب يوم أليم، ومن خصومة ربّ العالمين؛ فعن أبي هريرة -رَضي الله عنه- عن النبي -صَلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله -تعالى-: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره" (رواه البخاري).
عدم الوفاء بالدين: فمن الناس مَن يأخذ الديْن وفي نيته أن لاّ يرُدّه، أو يُماطل في رَدّه لصاحبه، وحقوق العباد عند الله عظيمة، فلا مناص من أدائها وردّها إلى أصحابها قبل أن يأتي يوم لا يتقاضى فيه بالدينار ولا بالدرهم، ولكن بالحسنات والسيئات، والله -سبحانه وتعالى- يقول: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء: 58].
وكثير من الناس يتساهلون في الاستدانة من غير حاجة ولا ضرورة، وإنما رغبة في التوسع، ومجاراة الآخرين.
والتساهل في الاستدانة يقود إلى المماطلة في التسديد، أو يؤدي إلى إضاعة أموال الآخرين وإتلافها، وقد قال النبي -صَلى الله عليه وسلم- محذرا من عاقبة هذا العمل: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله" (رواه البخاري من حديث أبي هريرة -رَضي الله عنه-).
سؤال الناس من غير حاجة: كمن يطوف على التجار مُدّعيا أنه مستحق للزكاة وهو يكذب في ذلك، أو من يسأل الناس في المساجد والطرقات وهو غير صادق، فهذا أكل لأموال الناس بالباطل.
فليتذكرْ هؤلاء قول النبي -صَلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر -رَضي الله عنه- قال: قال النبي -صَلى الله عليه وسلم-: "ما يزال الرجل يسأل الناس، حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مُزْعَة لحم"، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلى الله عليه وسلم-: "من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا، فليستقلّ أو ليستكثر".
فنسأل الله -تعالى- أن يجعلنا ممن يطيع أمره ويجتنب نهيه ويقف عند حدوده، وأن يجنبنا أسباب مقته وغضبه وعقابه، آمين.
إخوتي الكرام: ما السبيل إلى وقاية النفس من أكل أموال الناس بالباطل؟
أولا: تربية النفس على الخوف من الله، والحياء من الله؛ فإنّ من يخاف الله ويستحيي من الله ويستحضر مراقبة الله لا يعتدي على عباده، ولا يمدّ يديه إلى أموالهم؛ لأنه يعلم أنّ ذلك مما يُغضِبُ الله -تعالى- عليه، ويعلم أن عقاب الله شديد، وأن عذاب الله أليم، ويعلم أنه إن نجا من العقاب في الدنيا فلن ينجو من الحساب والعقاب يوم القيامة.
ثانيا: تحَرّي الحلالِ والاستغناءُ به عن الحرام؛ فإن الإسلام حضّ المؤمنين وأمرهم بالأكل من الطيبات والمباحات، واجتناب المحرمات والخبائث والمكروهات، وتركِ الأشياء المشتبهات؛ ففي الحلال ما يغني عن الحرام، وقد دعا ربنا -سبحانه- عبادَه إلى التمتع بما أحله لهم من الطيبات، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172].
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس؛ إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون: 51]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة: 172]"، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك".
وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الحلال بَيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعِرْضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حِمى، ألا وإن حمى الله محارمُه، ألا وإن في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
ثالثا: الخوف من الخزي والعار والخسران والعذاب يوم القيامة؛ فلا بد للعباد من يوم يقفون فيه بين يدي الله للجزاء والحساب، حينها يتعلق المظلوم بظالمه، ويُطالب أصحاب المظالم بمظالمهم، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- أن رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، مِن قبل أن يُؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخِذَ من سيئات أخيه فطرحَتْ عليه".
وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة -رَضي الله عنه- أن رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- قال: "أتدرون ما المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع؟ فقال: "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أخِذ من خطاياهم فطرحَتْ عليه، ثم طرح في النار".
فاتقوا الله -عباد الله-؛ واستغنُوا بالحلال عن الحرام، وتوبوا إلى الله من المظالم والآثام، وأحسنوا كما أحسن الله إليكم، ويَسّرُوا على عباده كما يَسّرَ الله عليكم: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 10 - 12]، (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31].
نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا من المفلحين، وأن يسلك بنا طريق الصالحين، وأن يحفظنا ويحفظ بلادنا من ظلم الظالمين، وعدوان المعتدين.
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم حبب إلينا الحلال من الطيبات، وكرّهْ إلينا الحرام من الخبائث والمنكرات.
اللهم لا تجعل لنا نصيبا في الحرام، وحُلْ بيننا وبينه حتى نلقاك يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمع شملهم، ووحد صفوفهم، وفرج همومهم، ونفس كروبهم، وانصرهم على أعدائهم يا قوي يا عزيز.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180 - 182].