السيد
كلمة (السيد) في اللغة صيغة مبالغة من السيادة أو السُّؤْدَد،...
العربية
المؤلف | صالح بن محمد آل طالب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة |
وأصبحت المسألة الشرعية التي لو عرضت على أبي بكر؛ لجمع لها أهل بدر، ولو سئل عنها أئمة العلم لتدافعوها، أصبحت كثير من المسائل العلمية فريسة لصحفي، أو عنواناً جاذباً لحوار فضائي، أو فكرة لرسام هزلي، وأصبح عرض كثير من أهل العلم وطلبته كلأً مباحاً، ومرتعاً خصباً للهمز واللمز، واستمرأت هذا الأمر صحف ووسائل إعلام حتى أصبح لا ينكر، وصار يتصدى للعلماء وفتاواهم من لا حظ له في العلم، بل ولا حتى في الديانة ..
الحمد لله. الحمد لله الذي تقدس وتنزه وتعالى، حسنت أسماؤه وكملت صفاته؛ فبلغت الغاية حسنا وكمالا، أنزل على خلقه الشرائع وبعث فيهم الرسل ووالى؛ فمن أعرض عما جاء عن الله فبسئت حاله حالا، ومن اهتدى واقتفى فياحسن الجنة مستقراً له ومآلا؛ فهل الدين إلا اتباع؟ وما جُعِل الأمر إلا ليُطَاع ولا النهي إلا للامتناع، والشرع كل الشرع مطاق ومستطاع.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عظم ربنا خلقاً وأمراً وجلالاً، أبان لنا الدين حراماً وحلالاً، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أمته أتباعاً وصحابة وآلا.
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
واعلموا -رحمكم الله- أن الدنيا دول قد دالت على عاد وثمود وأهل القرون الأول، وأن المال عارية والنفس عائدة إلى خالقها؛ إما راضية مرضية أو ساخطة شقية، ولنا بمن قبلنا أسوة ولمن بعدنا عبرة؛ فطوبى لمن عمر آخرته وقصد رضا ربه.
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
عباد الله.. أيها المسلمون: كلنا سائرون إلى الله -تعالى- مسافرون إلى الدار الآخرة، وهناك تنشر الصحف وتوضع الموازين: (فَأَمَّا مَن طَغَى *وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 37-41].
ولقد جاءت شريعة الله في هذه الدنيا لإخراج الناس من داعية أهوائهم حتى يكونوا لله عبادا، وهذه هي حقيقة العبودية لله، أن نستسلم له في شرعه وقدره، وأن نتحقق من مراد الله؛ لنأخذ به لا لنتحيَّل عليه أو نتهرب منه؛ إذ مقصد وجودنا هو تحقيق هذه العبودية لله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].
وعبادة الله -تعالى- تتمثل في توحيده وطاعته، وامتثال حكمه في أمره ونهيه؛ وهل الطاعة إلا في الحلال والحرام؟
أيها المسلمون: الحاكم بالحلال والحرام هو الله -تعالى-، ونعرف حكم الله من كتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بفهم الصحابة -رضي الله عنهم- لا بالهوى والتشفي، وإن الله -تعالى- اصطفى من هذه الأمة من حمل الشريعة خالصة نقية كما جاء بها المصطفى المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، وجعل اتباعهم سنة وهدى، وترسُّم آثارهم سلامة ورشدا، وأول أولئك وأولاهم هم صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فهم الذين شهدوا التنزيل وعلموا التأويل، وهم أعلم بمراد الله ومراد رسوله.
يليهم علماء راسخون وأعلام بالسنة قائمون، أذابوا عمر الشباب وشطراً من سن الكهولة في حِلَق العلم والتعلم؛ ثنيا للركب في النهار، ومجافاة للنوم في الليل، يقطعونه بحثاً واطلاعاً، وحفظاً وتفقهاً، يصاحب ذلك خشية تجلل الأفئدة وتقوى تعمر القلوب، ناهيك عن رحلاتهم لفجاج الأرض؛ تحصيلاً للعلم واستقصاء في الطلب، ثم بعد ذلك كله لا يتصدى أحدهم للفتيا في مسألة من دين الله إلا بعد أن يشهد مائة من أهل العلم أنه بذلك أهل.
وبهؤلاء حُفِظَت الشريعة واستقامت الملة، واجتازوا بها قروناً من الكيد والعداء، كما يجتاز المركب لجج البحر وعواصفه، حتى وصلت إلينا الشريعة بعد خمسة عشر قرناً بيضاء نقية.
عباد الله: وفي هذه السنوات المتأخرة؛ ظهرت بادرة تنبىء بالشر، وتفتح باب السوء بكثرة المتسولين على حمى الشريعة بالخوض والتخوض في دين الله بلا ورع وازع، ولا خوف من الله رادع، تطير بذلك وسائل إعلام، وشبكات اتصال، تروج الشاذ من الأقوال، وتفتي بالرخص حتى أحدثت عند الناس الاضطراب، وأودت بهم في مسالك الانحراف.
ومن يفسد على الناس دينهم أولى بالعقوبة والمنع ممن يفسد دنياهم، ولو كان كل قول معتبراً ما استقام للناس دين ولا عقيدة؛ فإن لإبليس قولاً ولفرعون مقالاً، ولكل إنسان رأي وفهم إذا لم يضبط بالشرع فلا حد لضلاله.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إن الناس لا يفصل بينهم إلا كتاب منزل، أو وحي من السماء، ولو رُدُّوا لأهوائهم فلكل واحد عقل".
وكم من معجب برأيه لا يدري أنه إمام في ضلالة عليه وزره ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وقد قال الله -تعالى- في فرعون وملئه: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّار) [القصص: 41].
عباد الله: وفي خضم هذا التخوض، وكثرة من يبدي في الشريعة حكماً وفي الدين رأيا؛ فإنا نقول كما قال الأولون: "إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم".
وإذا وقفت غداً أمام الله فلن تُعذر باتباعك لمن تبرأ الذمة باتباعه، ولا يوثق بعلمه ولا دينه، ولا فقهه وورعه، لم تأخذ عنه إلا ما وافق هواك، وطرحت قول العالم الرباني الذي يخاف الله ويخشاه، ويعلم كيف يتقيه ويعبده، وكيف يصل إلى مرضاته وجنته.
إن الدين لله منه نزل وإلى جلاله يعود، والله الذي له الخلق والأمر يقضي ما يشاء ويحكم ما يريد، والحق في المسائل المختلف فيها واحد والحكم عند الله ثابت مهما اختلفت أقوال المفتين، وليست تبرأ الذمة بمجرد أن تجعل بينك وبين النار مفتياً، ولكن الواجب على المكلف أن يتحرى وأن يعرف مَنْ يسأل؛ ليخرج من التبعة، ويصيب حكم الله -عز وجل-، ويحقق مراده -سبحانه-.
والبلية كل البلية في القصد إلى الأخذ بأخف الأقوال في مسائل الخلاف، وسؤال من ليس أهلاً للفتيا، والله يقول: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل:43]؛ فبسؤال غيرهم لا تبرأ الذمة، ولا يخرج المكلف من التبعة.
إن حدود الله لا تستباح بزلة عالم ولا فتوى متعالم، ومن تتبع الرخص؛ فسق بإجماع العلماء، وتحلل من ربقة التكليف، ومن أخذ برخصة كل عالم اجتمع فيه الشر كله، والبر ما سكنت إليه النفس واطمئن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر؛ وإن أفتاك الناس وأفتوك.
أيها المسلمون: إن اللافت للنظر في المشهد العلمي اليوم، ورغم وجود بقية من أهل العلم تترسم خطى الأسلاف، وتعي ثقل التركة، إلا أن حمى علم الشريعة غدا مستباحاً في كثير من الأحيان حتى دهمه الدهماء، واغتاله الغوغاء، وتسارع للخوض فيه أنصاف المتعلمين وأرباعهم، واجترأ عليه من لم تمس يده مختصراً فقهياً أو شرحاً حديثياً، ومن لم يسمع في حياته عن الأحكام التكليفية والوضعية، ودلالات الألفاظ على الأحكام، ومقاصد الشريعة وموارد الأحكام ومصادرها، حتى إنك لترى أحدهم يعتمد على حديث منسوخ، ويستدل بأثر ضعيف، ويتكئ على شبهة أجاب عنها العلماء.
وأصبحت المسألة الشرعية التي لو عرضت على أبي بكر؛ لجمع لها أهل بدر، ولو سئل عنها أئمة العلم لتدافعوها، أصبحت كثير من المسائل العلمية فريسة لصحفي، أو عنواناً جاذباً لحوار فضائي، أو فكرة لرسام هزلي، وأصبح عرض كثير من أهل العلم وطلبته كلأً مباحاً، ومرتعاً خصباً للهمز واللمز، واستمرأت هذا الأمر صحف ووسائل إعلام حتى أصبح لا ينكر، وصار يتصدى للعلماء وفتاواهم من لا حظ له في العلم، بل ولا حتى في الديانة.
ومع قناعتنا بأنه لا كهنوتية في الإسلام، ولا معصوم إلا سيد الأنام؛ فإننا نعتقد في الوقت نفسه أن هذه سابقة خطيرة لا نعلم أن لها مثيلاً في عصور الإسلام السالفة.
إن مسائل العلوم الشرعية يجب أن تبحث حسب في أصولها وبين أهلها الفاقهين بها، إن المتطفل على مسألة شرعية ليس لها أهل كالمقحم نفسه في مسألة طبية بجهل، بل إن علم الشريعة أشد خطراً وأعظم أثراً من علم الطب؛ إذ تصلح بهذا الأبدان وذاك تصلح به الأديان، وإذا تعين منع من لا يحسن التطبب من مداواة المرضى؛ فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟!
قال الإمام ابن حزم -رحمه الله-: "ولا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها؛ فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون".
إننا في الوقت الذي نحتاج فيه إلى خالص ديننا ويموت فيه كبار علمائنا، ويتفلت بعض أبناء المسلمين من أصول الدين فضلاً عن فروعه، إلا أننا نرى علماء الشريعة في أكثر ديار الإسلام قد تناوب على الحط من أقدارهم الأقزامُ، وأصبح التنافس في التنقص منهم مهنة انتقام.
أيها المسلمون في كل بلاد الإسلام: إن الوقوف إلى علماء الشريعة في هذا الوقت -وفي هذا الوقت بالذات- لو لم يكن الإسلام يستدعيه؛ لكانت السياسة توجبه وتقتضيه، ومصلحة الدنيا قبل الآخرة تومئ إليه وتستدعيه.
نعم؛ أخطاء العلماء واردة، وزلاتهم متصورة، وشذوذاتهم مردودة، وأخطاء العامة في فهم كلامهم أكثر وروداً، وقصور فهم غير المختصين أكثر شيوعاً، إلا أنه على كل الأحوال تبقى للعالم حرمته وللعلم حرمه؛ فالعلماء هم نجوم الأرض يهتدى بهم في ظلمات الجهل إن ظهروا اهتدى وإن غابوا تحيروا، خير من وطئ الثرى وأحسن المكلفين عاقبة إن قاموا بأمر الله ومن أسوئهم إن فرطوا وخالفوا.
إن العالم يجتهد فيخطئ ويصيب ويوفق وقد لا يحالفه التوفيق ولكن صواب العلماء أكثر من خطئهم وتوفيقهم أضعاف زللهم، وهم في ذلك بين الأجر والأجرين، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه.
أما غير العالم فهو آثم وإن اجتهد مخطئ، ولو أصاب؛ لأنه ليس من أهل الفتوى؛ فما له وللتكلم فيما لا يدريه والدخول فيما لا يعنيه؟ وحق مثل هذا أن يلزم السكوت.
ويا أيها الناس: لا تشمتوا فيكم عدواً ولا حاسداً، ولا تتقحموا أمراً لا يزيدكم الخوض فيه إلا فرقة، ولا يزيد أفهامكم إلا بلبلة، ولا نفوسكم إلا تنافرا، كفوا فقد كُفِيتم وانتهوا عن الاختلاف فقد نُهِيتم، وترسموا خطى من عز عليه دينه، وغلت عنده ذمته، فلم يسلمها إلا لمن يعتقد أنه يقوده إلى رضا الله وجنته.
إن فتاوى العلماء لا تموت بموتهم، ارضوا لأنفسكم ما رضي به القوم لأنفسهم؛ فإنهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا، ولقد تكلموا فما دونهم مقصر وما فوقهم محسِّر، وإنهم مع ذلك لعلى صراط مستقيم.
واحذروا من حذركم منهم نبيكم -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "سيكون في آخر أمتي أناساً يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم؛ فإياكم وإياهم" أخرجه مسلم.
قال الإمام النووي -رحمه الله-: "ولا يُتَعلَّم إلا ممن كمُلت أهليته، وظهرت ديانته، وتحققت معرفته واشتُهِرت صيانته".
وفي الأثر: "دينك دينك إنما هو لحمك ودمك؛ فانظر عمن تأخذ، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا" قال النخعي -رحمه الله-: "كان الرجل إذا أراد أن يأخذ عن الرجل نظر في صلاته وفي حاله وفي سمته ثم يأخذ عنه".
ويا أهل العلم: استقيموا فقد سُبِقتم سبقا بعيدا فإن أخذتم يميناً وشمالاً؛ لقد ضللتم ضلالاً بعيداً، ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون.
أين الورع؟ (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران: 77]، (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 78]، (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة:79]
واخشوا يوماً قال الله فيه: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ* وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزمر:61]
وليس كل ما يُعلَم يقال، ولا كل حق يذاع؛ روى الإمام مسلم بسنده عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "ما أنت بمحدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم؛ إلا كان لبعضهم فتنة".
فهذا أثر من معين حكمة، أحد مبلغي الشريعة الكبار، وفقهائها العظام، وأحد أساطين علوم الإسلام، فيه درس لكل عالم، وحكمة لكل داع؛ خصوصاً عندما يضعف الدين في كثير من النفوس، وتأبى بعض العقول على التسليم للنصوص.
إن العالم لا يعين الناس على الافتنان؛ فكم ممن هو على شفا جرف هار، والأمة اليوم في حاجة إلى التثبيت لا التشتيت، وإلى الاجتماع لا الفرقة.
وقبل ذلك وبعده؛ فإن قلوبنا ملأى بالرضا عما جاء عن الله، والتسليم بما صح عن رسول الله، لا نطأطئ بذلك رأساً، ولا نتمحل له عذراً؛ فكم طوت الأيام من ساخط، وما زال الدين منتشراً وظاهراً.
والبلاء مكتوب على الخلق، والسعيد من ثبت، والله الموعد، و (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر:39].
اللهم ألن قلوبنا لوحيك، وذلل جوارحنا لشرعك، وأفِض على نفوسنا من برد اليقين ما يجعل حياتنا مطمئنة، وعن عواج الشكوك مستكنة، واجعل مثوانا ومنقلبنا إلى الجنة.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر.
أقول قولي هذا واستغفر الله -تعالى- لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي الصالحين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها المسلمون: وفي معرض قضايا الأمة الكبرى؛ فإنه لا يمكن لأحد أن يغفل عن مشهد الحصار في فلسطين، والاحتلال المستمر والتحدي السافر للمبادئ والقوانين، ويأبى القتلة إلا أن يستمروا في القتل، ويوماً بعد يوم يؤكدون على أرض الواقع ما وصفهم به القرآن، وأنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا.
فها هي سفائن الحرية المتجهة إلى غزة تقاد للأسر، وحاملوا أمل الحياة لأهل غزة تسلب حياتهم.. ترى الأدوية في المراكب متناثرة، وألعاب الأطفال مبعثرة، كأنما هو حرام على أهل غزة أن يتداووا، وجريمة أن يلعب أطفال غزة كما يلعب الصغار، ولسنا بصدد الوصف، فقد رأى العالم كله ما جرى وأبصر.
إن على العرب والمسلمين أن يعوا أن الحصار المفروض على غزة ليس حصاراً على أهل غزة فحسب، وإنما هو حصار على كرامة الأمة وإرادتها، هو تحد لكل حر في العالم هو اختبار لدعاة الحقوق وحماتها، هو فضح لكل الهيئات والمؤسسات الدولية المعنية بالإنسان وكرامته، وهو صفعة لكل دولة حامية لذلك الكيان أو راعية لتلك الشراذم، أو حتى مبررة لجرائمهم ومعتذرة لاعتداءاتهم، "ومن أمن العقوبة أساء الأدب".
إن فك الحصار عن أهل غزة فرض كفائي على الأمة، وأمانة في عنق كل حر شريف في هذا العالم، يجب ألا تدخر الأمة وسعاً في ذلك، وأن تستنفذ كل قواها السياسية والاقتصادية لرفع الظلم، وفك الحصار وإنهاء الاحتلال.
إن الرضا بهذه الحال؛ مؤذن بعقوبة معجلة من الله، وإنه لمؤشر على ضعف الإيمان؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أحمد: "واللهِ لا يؤمنُ مَنْ باتَ شبعان وجارُه إلى جنبِه جائعٌ وهُو يعلَم".
إن قهر الشعوب واضطهاد الأمم وتوالي المظالم؛ من أقصر الأحوال عمراً، وأسرعها رجوعاً على الظالم، وقد خلت من قبلُ المثلات، ولنا في التاريخ عبر وآيات.
إن استمرار هذه الحال مذكية للعداء بين الشعوب، مميتة لكل دعوة للسلم والتقريب، مفسدة لكل نشاط يبشر بحسن النوايا بين الأمم.
لا يمكن الهناء بمنتجات الحضارة أو التنعم برفاهيتها وطبول الحرب تدق، ودماء الأبرياء تسفك، وأرضهم تسلب وتنتهك، وشعوب الأرض تشعر بالتمييز والعنصرية، والقادرون من دول العالم يعينون الظالم على ظلمه، ويدينون الذبيح وهو يتشحط في دمه.
ومع هذا فلا بد من وقفة هنا نسجل فيها الشكر والتقدير لكل أحرار العالم وشرفاء الشعوب من كل عرق ممن انعتق من أسر الإعلام الصهيوني، والتضليل العالمي؛ ليعلن رفضه للظلم، وشجبه للاعتداء، ومطالبته بفك الحصار عن أهلنا في غزة.
إن ذلك مما يبشر بالخير، ولعلها بداية لصحوة الشعوب المغيبة عن الظلم الذي طال ليله، وطال ويله واشتدت ظلمته، وعند اشتداد الظلام؛ ينبثق الصباح.
وعلى الإخوة في فلسطين أن يستزيدوا من وسيلة نصرهم وكسب ثقة العالم في اجتماع كلمتهم، واتحاد صفهم بعد الصدق مع الله ربهم، وترسم منهاج النصر الحق، وحِّدُوا الصف، وأجمعُوا الأمر، واتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم.
هذا، وصلوا وسلموا على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله.
اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وارض اللهم عن الأئمة المهديين والخلفاء المرضيين -أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي- وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنتهم يارب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لهداك اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيء له البطانة الصالحة يارب العالمين.
اللهم وفق ولي عهده لما تحب وترضى، اللهم أتم عليه الصحة والعافية، اللهم وفق النائب الثاني لما فيه الخير للبلاد والعباد، واسلك بهم جميعا سبيل الرشاد، اللهم كن لهم موفقا مسددا لكل خير وصلاح.
اللهم ادفع عن الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقن دماءهم وآمنهم في ديارهم وأرغد عيشهم وأصلح أحوالهم واكبت عدوهم.
اللهم انصر المستضعفين من المسلمين، اللهم انصرهم في فلسطين، اللهم انصر المرابطين في أكناف بيت المقدس، اللهم ارفع الحصار عن المحاصرين والضر عن المتضررين، واجمع المسلمين على الحق يارب العالمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم عليك بأعداء الدين في كل مكان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بالصهاينة المحتلين اللهم أنزل بهم بأسك ورجسك إله الحق.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذب النار، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسر أمورنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
ربنا اغفر لنا ووالدينا ووالديهم وذرياتهم إنك سميع الدعاء، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.