الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
العربية
المؤلف | أحمد عماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
في التثبت والتبين وقاية للأسر من التفرق والتشتت وقطيعة الرحم؛ فكم من أسر تشتت شملها بسبب وشايات وشائعات وأكاذيب، فرقت بين المرء وزوجه، فانهدم بنيان الأسرة ووقع الطلاق، ووقع الهجر والقطيعة بين الأقارب بسبب وشايات وأباطيل تنقل بين الأقارب والأحباب، ولا علاج لمثل هذه الأزمات إلا...
الخطبة الأولى:
مع خلق عظيم من أخلاق الإسلام العظيمة؛ أمر به رب العالمين، وسنّه سيد المرسلين، فيه حفظ للأرواح، وصيانة للدّماء، وحماية لحقوق الأفراد والجماعات، وقطع لدابر الفتنة والصراعات، به يعرف الحق من الباطل فيما يروج من أخبار وإشاعات، حديثنا اليوم عن خلق التثبت والتبيّن.
فما أحوجنا إلى هذا الخلق الكريم؛ في زمن تُرمى فيه التهم جزافا، وتنقل فيه الإشاعات دون تثبت ولا تبين.
التبين علم يحصل بعد التباس وغموض، يقال: تَبيّنَ في الأمر والرأي، أي تثبّت وتأنّى فيه، ولم يَعجَل.
والتثبت هو التحري والتأكد من صحة الخبر قبل قبوله أو نشره.
فالمراد بالتبيّن والتثبّت: التأني والتريّث والبحث عن صحة الخبر، وعدم العجلة في نقله أو بناء الحكم عليه قبل تيقن صحته.
التثبت من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش.
التثبت فضيلة، والنقل من الناس بدون تثبّت رذيلة.
التثبت دليل على رجاحة العقل وسلامة التّفكير، أما العجلة فدليل على نقص في العقل وخلل في التفكير؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِي اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ: "التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ" (أخرجه البيهقي وحسنه الألباني).
"التأني من اللّه" أي التثبت في الأمور مما يحبه الله ويأمر به، لما فيه من وقاية للعبد من الزلل والخطأ "والعجلة من الشيطان" أي من إغوائه ووساوسه، قال ابن القيم -رحمه الله-: "إنما كانت العجلة من الشيطان لأنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب وضع الشيء في غير محله، وتجلب الشرور وتمنع الخيور، وهي متولدة بين خلقين مذمومين: التفريط والاستعجال قبل الوقت".
وقد ذم الإسلام العجلة ونهى عنها، كما ذم الكسل والتباطؤ ونهى عنه، ومدح الأناة والتثبت في الأمور، وأمَر بذلك، فقال الله -تعالى-: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) [الحجرات: 6] في قراءة الجمهور: (فَتَبَيَّنُوا) من التبين، وهو التأمل والتعرّف والتفحّص، وفي قراءة حمزة والكسائي: (فتَثبَّتوا)، من التثبّت، وهو الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر.
قال العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى-: "من الغلط الفاحش الخَطِر؛ قبول قول الناس بعضِهم في بعض، ثم يبني عليه السامع حُبًّا وبغضًا ومدحًا وذمًا، فكم حصل بهذا الغلط أمور صار عاقبتها الندامة؟ وكم أشاع الناس عن الناس أمورًا لا حقائق لها بالكلية، أو لها بعض الحقيقة فنمِّيَت بالكذب والزور، وخصوصًا مَن عُرفوا بعدم المبالاة بالنقل، أو عرف منهم الهوى، فالواجب على العاقل التثبت والتحرز وعدم التسرّع، وبهذا يُعرف دين العبد ورزانته وعقله".
فلابد من التثبت والتبين فيما يروج من أخبار وإشاعات، فالعاقل لا يعتمد على نُقول الناس وأقوالهم، فإن تناقل القول بين الناس ليس دليلًا على صحته.
والتثبت والتبين من أخلاق الأنبياء والمرسلين؛ فهذا محمد -صلى الله عليه وسلمَ- قدوة في التثبت والتبين؛ روى مسلم في صحيحه عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: "جاء ماعز بن مالك إلى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- فقال: يا رسول الله، طهرني؟ فقال: "ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه" قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه" قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلمَ- مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "فيمَ أطهرك؟" فقال: مِن الزنى، فسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "أبه جنون؟" فأخبر أنه ليس بمجنون. فقال: "أشرب خمرا؟" فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "أزنيت؟" فقال: نعم، فأمَرَ به فرُجم"، فهذا درس لنا في وجوب التثبت والتبين قبل اتخاذ أيّ قرار قد يعود على المرء بالندامة نتيجة تهوره وعجلته.
وسليمان -عليه السلام- وتثبته من خبر الهدهد: قال تعالى في قصة سليمان مع الهدهد: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [النمل: 20- 27].
سنبحث في الأمر لعلك تكون قد كذبت، أو أخطأت، أو وهمت، لعل في الأمر التباسا وغموضا: (قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [النمل: 27]، ويا ليت الناس اتخذوا هذا شعارا لهم، كلما جاءنا رجل يقول: فلان قال، وفلان فعل، وفلان متهم، وفلانة وقع لها كذا وكذا، لو أجبنا كل واحد يسعى بين الناس بالقيل والقال بهذه الكلمة: (سَنَنْظُرُ ) سنبحث، سنتأكد (أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) لو اتخذنا هذا شعارا لنا في الحياة، لقطعنا الطريق على أصحاب النميمة والوشايات الكاذبة الذين يسعون بين الناس بالفساد والإفساد، ولانتهت أكثر الخصومات والنزاعات بين الناس؛ لأن معظم النزاعات والخصومات التي تقع بين الناس مبنية على إشاعات تتناقلها الألسن دون تثبت ولا تبين، فتَنتُج عنها الكراهية والقطيعة والخصومات.
التثبت والتبين من أخلاق الصالحين المتقين: فالعبد الصالح حريص على ما يَصلحُ به دينُه وعرضُه وتصلحُ به حياته، ينأى بنفسه عن كل ما يؤذيه أو يؤذي غيره، لا تغريه الكلمات البراقة الخداعة، ولا ينخدع بالوشايات والإشاعات، أخرج الإمام أحمد عَنْ أَبِى ظَبْيَانَ الْجَنْبيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- أُتِيَ بِامْرَأَةٍ قَدْ زَنَتْ، فَأَمَرَ بِرَجْمِهَا، فَذَهَبُوا بِهَا لِيَرْجُمُوهَا، فَلَقِيَهُمْ عَلِيٌّ فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ قَالُوا: زَنَتْ فَأَمَرَ عُمَرُ بِرَجْمِهَا. فَانْتَزَعَهَا عَلِيٌّ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَرَدَّهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: مَا رَدَّكُمْ؟ قَالُوا: رَدَّنَا عَلِيٌّ. قَالَ: مَا فَعَلَ هَذَا عَلِيٌّ إِلاَّ لِشَيْءٍ قَدْ عَلِمَهُ. فَأَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ فَجَاءَ وَهُوَ شِبْهُ الْمُغْضَبِ، فَقَالَ: مَا لَكَ رَدَدْتَ هَؤُلاَءِ؟ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلمَ- يَقُولُ: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبَرَ، وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَعْقِلَ؟" قَالَ: بَلَى، قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنَّ هَذِهِ مُبْتَلاَةُ بَنِي فُلاَنٍ، فَلَعَلَّهُ أَتَاهَا وَهُوَ بِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: "لاَ أَدْرِي، قَالَ: وَأَنَا لاَ أَدْرِي، فَلَمْ يَرْجُمْهَا".
ولما دخل رجل على عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- وذكر له عن رجل شيئا، قال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات: 6]، وإن كنت صادقا فأنت من أهل هذه الآية: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم: 11]، وإن شئت عفونا عنك؟ فقال: "العفوَ يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدا"
قال أبو إسحاق القيرواني: "قال بعض الحكماء: إياك والعجلة، فإنّ العرب كانت تكنّيها أمّ الندامة؛ لأنّ صاحبها يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويعزم قبل أن يفكّر، ويقطع قبل أن يقدّر، ويحمد قبل أن يجرّب، ويذمّ قبل أن يخبر، ولن يصحب هذه الصفة أحد إلّا صحب الندامة، واعتزل السلامة".
قد يدرك المتأني بعض حاجته | وقد يكون مع المستعجل الزلل |
وربما فات قوما بعض أمرهم | من التأني وكان الحزم لو عجلوا |
تزداد أهمية التثبت، وتعظم الحاجة إليه في زمن وقوع الفتن، واضطراب الأحوال، واختلاط الحق بالباطل، والصدق بالكذب، لما يستَدعيه زمن الفتن والشرور من كثرة الكذب والافتراء.
فالفتن إنما تظهر بالإشاعات والأباطيل، وتنتشر بالقال والقيل، مع خفة عقلٍ في نَقَلَتِها، ورِقَّةِ دين، تمنعهم من امتثال أمر الله -تعالى- بالتثبت وترك العجلة.
ولتجدنَّ أشدَّ الناس حِدَّة في الطبع، وإعجابًا بالنفس، وتعصبًا للرأي؛ هم أولئك الذين لا يتثبتون ولا يتبيَّنون، فيغلب عليهم الشطط والكِبْر، وعدمُ مراعاة الناس، والجميع عندهم جَهلة لا يعلمون، وهم العارفون العالمون.
فحمل المسلمين على العدل وحسن الظن بهم هو الأصل الذي لا ينبغي العدول عنه إلاَّ بمثله من اليقين، أما بمجرد أقوالٍ تقال وتذاع لا يُدرى من أي رأس خرجت، ولا على أي أرض درجت؛ فجريمة يُسأل صاحبها عنها، مفضية إلى الندامة في الدنيا قبل الآخرة.
ولو فرض صحة الخبر يقينًا، فإنه يبقى بعد ذلك النظر في مصلحة نشره من عدمها، فإنه ليس كل ما يُعلم يقال، وإن من الأخبار ما لا يُلقى إلاَّ إلى الخاصة الذين يُصلحون في الأرض ولا يفسدون.
وليُعلمْ أن هتكَ الأستار، ليس من الإصلاح في شيء؛ فإن الله -تعالى- أمر بالستر والنصح، وأَمْرُه سبحانه هو الصلاح والإصلاح بعينه، وما خالفه فليس من الإصلاح في شيء.
في التثبت والتبين صيانة لكرامة المرء، ووقاية له من التهم الزائفة، والإشاعات الكاذبة.
وفيه حماية للمرء من الزلل والخطأ، ومن إزهاق النفوس وإراقة الدماء.
فلقد أمر اللَّه -سبحانه وتعالى- بالتثبت والتبين حتى في مقام جهاد الأعداء وردّ كيدهم، إذ لا يجوز في ديننا أن يعتدى على نفس بشرية بريئة، حتى ولو كانت لغير مسلم، فما بالك إذا كان صاحبها مسلما؟ قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء: 94].
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "مرّ رجل من بني سُليم على نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- ومعه غنم له، فسلم عليهم، قالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوّذ منكم. فقاموا فقتلوه وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-. فأنزل الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)[النساء: 94] إلى قوله: (كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا) [النساء: 94]" (أخرجه الإمام أحمد وابن حبان والترمذي والحاكم وصححه ووفقه الذهبي، وصححه الألباني).
وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد بن حارثة -رضي الله عنهما- قال: "بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- إلى الحُرَقَةِ من جُهينة، قال: فصبّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، قال: فكفّ عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلمَ-، قال: فقال لي: "يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله" قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوّذا، قال: "أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله" قال: فما زال يكررها علي، حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
وفي رواية لمسلم: قال: قلت يا رسول الله؛ إنما قالها خوفا من السلاح. قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟" فمازال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ.
وفي رواية أخرى لمسلم: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "أقتلته؟" قال: نعم، قال: "فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟" قال: يا رسول الله استغفِرْ لي، قال: "وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟" قال: فجعل لا يزيده على أن يقول: "كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟".
والله الذي لا إله غيره؛ لو تأملنا هذا الحديث جيدا، وفهمناه حق فهمه ما كفّر مسلم مسلما، وما قتل مسلم مسلما. إذ كيف تكفّره وهو يقول: لا إله إلا الله؟ وكيف تقتله وهو يقول لا إله إلا الله؟ وكيف تستبيح عرضه وماله وهو يقول لا إله إلا الله؟ "كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟". والعبد إنما يطمع أن يدخل الجنة وينجو من النار بقوله: "لا إله إلا الله"؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة"، وأنت تأتي يوم القيامة، ولا إله إلا الله تقف في وجهك تخاصمك بين يدي الله -عز وجل-؛ لأنك تكفر من يقول لا إله إلا الله، وتقاتل من يقول لا إله إلا الله، وتبغض من يقول لا إله إلا الله، وتعادي من يقول لا إله إلا الله.
فأين مِن هذا مَن يتعجّل فيحكم على كل من خالفه بالكفر والنفاق؟ لكنه الهوى والطيش والجهل.
وأخرج الحاكم والبيهقي عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَا: قَالَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ لِأَيْمَنَ بْنِ خُرَيْمٍ الأسدي: "أَلَا تَخْرُجُ فَتُقَاتِلَ مَعَنَا؟ -وكان مروان يقاتل الضحاك بن قيس- فَقَالَ: "إِنَّ أَبِي وَعَمِّي شَهِدَا بَدْرًا، وَإِنَّهُمَا عَهِدَا إِلِيَّ أَنْ لَا أُقَاتِلَ أَحَدًا يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ. فَإِنْ أَنْتَ جِئْتَنِي بِبَرَاءَةٍ مِنَ النَّارِ قَاتَلْتُ مَعَكَ" قَالَ: فَاخْرُجْ عَنَّا، قَالَ: فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ:
وَلَسْتُ بِقَاتِلٍ رَجُلًا يُصَلِّي | عَلَى سُلْطَانِ آخَرَ مِنْ قُرَيْشِ |
لَهُ سُلْطَانُهُ وَعَلَيَّ إِثْمِي | مَعَاذَ اللهِ مِنْ جَهْلٍ وِطَيْشِ |
أَأَقْتُلُ مُسْلِمًا فِي غَيْرِ جُرْمٍ | فَلَيْسَ بِنَافِعِي مَا عِشْتُ عَيْشِي |
في التثبت والتبين وقاية للأسر من التفرق والتشتت وقطيعة الرحم؛ فكم من أسر تشتت شملها بسبب وشايات وشائعات وأكاذيب، فرقت بين المرء وزوجه، فانهدم بنيان الأسرة ووقع الطلاق، ووقع الهجر والقطيعة بين الأقارب بسبب وشايات وأباطيل تنقل بين الأقارب والأحباب، ولا علاج لمثل هذه الأزمات إلا بالتبين والتثبت والإعراض عن النمامين والكذابين؟!
وفي التثبت والتبين وقاية للمجتمع من التمزق والتنازع والفرقة؛ فلا شك أن الشائعات والأكاذيب والتهم تمثل مصدر قلق في البناء الاجتماعي، والانتماء الحضاري لكل الشعوب والأمم، ولبثها ونشرها بين أفراد المجتمع آثار سلبية على تماسك المجتمع المسلم وتلاحم أبنائه وسلامة لحمته والحفاظ على وحدته.
ونقل الأخبار دون تثبت ولا تبين، وبث الإشاعات والأكاذيب بين الناس سلوك منحرف خبيث، مناف للأخلاق النبيلة، والسجايا الكريمة، والمثل العليا التي جاء بها الإسلام وحثت عليها شريعتنا الغراء من الاجتماع والمحبة والمودة والإخاء، والتعاون والتراحم والتعاطف والصفاء التي قال عنها نبينا -صلى الله عليه وسلمَ-: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (أخرجه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير)، وهل الشائعة إلا نسف لتلك القيم ومعول هدم لهذه المثل؟
كما حرم الإسلام الغيبة والنميمة، والوقيعة في الأعراض، والكذب والبهتان.. وهل الشائعة إلا كذلك؟
وأمر الإسلام بحفظ اللسان، وحرم القذف والإفك، وتوعّد محبي رواج الشائعات بالعذاب الأليم، فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [النور: 19].
كل هذا وذاك حِفظا لكرامة الإنسان، وصيانة لوحدة المجتمع، وسدا لذريعة التفرق والتنازع، وقد قال ربنا -سبحانه-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103]، فواجب علينا أن نحافظ على هذه الأخوة الإسلامية، وواجب على كل فرد في المجتمع أن يحافظ على تماسك مجتمعه ووحدته.
الخطبة الثانية:
عباد الله: احذروا الإشاعات فإنها خطر عظيم، وشر كبير على الأفراد والأسر والأمم.
إن ترويج الشائعات ونشرها جريمة ضد أمن المجتمع وسلامته، وأصحابُها مجرمون في حق دينهم ومجتمعهم، مثيرون للاضطراب والفوضى في أمّتهم، فكم تجنّوا على أبرياء، وأشعلوا نار الفتنة بين الأصفياء؟ وكم نالوا من علماء وعظماء؟ وكم تسببوا في جرائم وأزمات، وفككوا من أواصر وعلاقات، وحطموا من أمجاد وحضارات؟ كم دمرت الشائعات من مجتمعات، وهدمت من أسر، وفرقت بين أحبة؟ كم أهدرت من أموال، وضيعت من أوقات؟ كم أحزنت من قلوب، وأولعت من أفئدة، وأورثت من حسرة؟ كم من صداقة أفسدتها، وعداوات أجّجتها، وحروب أشعلتها، ومحبة كدّرتها، وبيوت هدمتها، ومجتمعات فرقتها؟
وهذه أمثلة من مخاطر الإشاعات ونتائجها السيئة:
1- لما هاجر الصحابة من مكة إلى الحبشة وكانوا فيها في أمان، أُشيع أن كفار قريش في مكة قد أسلموا، فرجع بعض الصحابة من الحبشة، وتكبدوا عناء الطريق، حتى وصلوا إلى مكة ووجدوا الخبر مكذوبا، فمنهم من رجع إلى الحبشة، ومنهم من بقي يقاسي ألوانا من الأذية والتعذيب، وكل ذلك بسبب الإِشاعة.
2- في غزوة أحد؛ لما قتل مصعب بن عمير، وأُشيع بين الناس أن الذي قتل هو رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، فقيل في ساحة المعركة: قُتل رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، فانكفأ جيش الإِسلام، وتحطمت معنوياته بسبب الإِشاعة، فبعضهم هرب إلى المدينة، وبعضهم ترك القتال، وبعضهم قال موتوا على ما مات عليه.
3- ولعل من أشهر هذه الإشاعات وأخبثها: حادثة الإفك المبين، ذلكم الإفك والكذب الذي أشاعه المنافقون بين الناس، والذي اتهمت فيه عائشة -رضي الله عنها- بالفاحشة، وهي الطاهرة العفيفة، الصّدّيقة بنت الصّدّيق، التي تربت في بيت الطهر والعفة والنقاء والحياء.
تلكم الحادثة التي فُتِن فيها بعض المسلمين، وتحدثوا فيها دون تثبت ولا تبين، وما زالت هذه الإشاعة الكاذبة تعمل عملها إلى الآن، ما زال الشيعة الخبثاء يصدّقونها ويروجون لها، ويتهمون أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بالفاحشة، رغم أن الله قد بَرّأها من فوق سبع سماوات.
تلكم الحادثة التي شغلت المسلمين بالمدينة شهراً كاملاً، وبَيْتُ النبوة في حزن وألم، والمجتمع الإسلامي في هم وغم، ولولا عناية الله لعصفت تلك الشائعة الكاذبة بالأخضر واليابس، حتى تدَخّلَ الوحي ليضع حداً لتلك المأساة الفظيعة، وليرسم المنهج للمسلمين عبر العصور لما ينبغي فعله مع مثل هذه الشائعات والافتراءات، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور: 11].
المنهج الشرعي في التعامل مع الشائعات:
1- أن يقدّم المسلم حسنَ الظن بأخيه المسلم، وأن يُنزّل أخاه المسلم بمنزلته، قال تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) [النور: 12]، وقال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات: 12].
أخرج الإمام مالك وعنه البخاري ومسلم عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسّسوا، ولا تحسّسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عبادَ الله إخوانا".
2- طلب الدليل قبل تصديق التهم والإشاعات، قال تعالى: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [النور: 13]، فلا ينبغي للمسلم أن يكون أذناً لكل ناعق، بل عليه التحقق والتبين وطلب البراهين الواقعية، والأدلة الموضوعية، والشواهد العملية، وبذلك يسد الطريق أمام الأدعياء الذين يعملون خلف الستور، ويلوكون بألسنتهم كل قول وزور، ضد كل مُصلِح ومحتسب وغَيور.
3- أن لا نحدّث بكل ما سمعنا، قال تعالى: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور: 16]، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "كفى بالمرء كذبا، أن يُحدّث بكل ما سمع"، وفي رواية ابن حبان والحاكم وأبي داود: "كفى بالمرء إثماً، أن يُحدّث بكل ما سمع"، وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- قال: "بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع".
وسداً للباب أمام الوشاة المغرضين، ونقَلة الشائعات المتربصين، ومنعاً لرواج الشائعات، والبلاغات المجهولة المغرضة، والأخبار الملفقة المكذوبة على أناس برآء، حذر نبينا -صلى الله عليه وسلمَ- من نقل الأخبار بين الناس على سبيل الفساد والإفساد فيما بينهم، واعتبر ذلك شرا وجرما، فقد روى الإمام أحمد في مسنده والبخاري في الأدب المفرد عن أسماء بنت يزيد -رضي الله عنها- قالت: قال النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "ألا أخبركم بخياركم؟" قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "الذين إذا رُؤوا ذُكِرَ الله -تعالى-"، ثم قال: "ألا أخبركم بشراركم؟" قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "المشّاءون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العَنَتَ".
4- أن يُرَدّ الأمر إلى أولي الأمر والعلم، قال سبحانه: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء: 83]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ) [النساء: 83] إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة".
فما اشتبه على المرء من هذه الأخبار، عليه أن يرده إلى من يحسن القول فيه والفهم فيه من العلماء والحكماء، من ذوي الآراء الصائبة والحصافة العقلية؛ لأنهم أكثر تجربة، وأنور قلوباً، وأخلص معتقداً، وأكثر علماً: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43].
5- النظر في العاقبة: وهلْ بَعْدَ تصديق الإشاعة ونشرها دون تثبت ولا تبين إلا الخسارة والندامة، قال تعالى محذرا من سوء عاقبتها، ومعاتبا لمروّجيها ومصدّقيها: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [النور: 15 - 20]، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6].
فهلا فكرتَ -يا عبد الله- في نتائج الإشاعة قبل أن تذيعها؟ هلا تدبّرتَ وتأمّلتَ في عواقبها قبل نشرها؟
فليعلم الإنسان أنه مسؤول أمام الله -عز وجل- ومحاسب بين يديه عن كل قول وكل كلام، قال سبحانه: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]، وقال عز وجل: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 36].
وليعلم أنّ كل خسارة لحقت بمسلم، وكل هم أو غم أصاب إخوانه المسلمين، وكل أموال أهدرت بسبب إشاعته التي نشرها أو ساعد في نشرها، فله نصيب من الإثم فيها.
فاللبيب لا يتكلم إلا بعد التثبت والتبين، ومن حدَّث بكل ما سمع فقد أزرى رأيَه، وأفسد صدقَه، وقد قال بعض الحكماء: "من غلب لسانَه أمَّره قومُه"، ولا يُسارع في الحديث إلا من هانت عليه نفسه، ومن اشتغل بما لا يعلم اتهِم فيما يعلم.
قال قتادة بن دعامة -رحمه الله-: "قد رأينا -والله- أقوامًا يُسرعون إلى الفتن، وينزعون فيها، وأمسك أقوام عن ذلك هيبةً لله، ومخافة منه، فلما انكشفت، إذا الذين أمسكوا أطيب نفسًا، وأثلج صدورًا، وأخف ظهورًا من الذين أسرعوا إليها، وينزعون فيها، وصارت أعمال أولئك حزازاتٍ على قلوبهم كلما ذكروها، وَايمُ اللهِ! لو أن الناس يعرفون من الفتنة إذا أقبلت كما يعرفون منها إذا أدبرت، لعقل فيها جيل من الناس كثير".
فعلى كل فرد في المجتمع، كلٌ في مجاله، أن يتثبت ويتبين في جميع أموره، وأن يبذل كل ما في وسعه وطاقته من أجل القضاء على هذه الظاهرة المدمّرة والمهدّدة لأمن الأمة واستقرار المجتمع، كما أن على البيت والمسجد والأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام دوراً كبيراً في الحفاظ على سلامة المجتمع من شرور الشائعات وأخطارها، بدءاً بالوعي وتقوية الوازع الإيماني، وتبيين الحقائق ونشرها، وعدم التساهل في نقل الكلام وبث الأنباء، لا سيما في أوقات الفتن والأزمات.
فاللهم اجعلنا من أهل الخير والمعروف والصلاح، ولا تجعلنا من أهل الإفك والكذب والافتراء.
وصلى الله وسلم على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.