القادر
كلمة (القادر) في اللغة اسم فاعل من القدرة، أو من التقدير، واسم...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - أهل السنة والجماعة |
فإن من معاني صفة الكرم الإلهي أنه هو الذي قدَر فعفا -سبحانه وتعالى-، وإذا وعد وفَّى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء، ولا يبالي كم أعطى ولمن أعطى، وإن رُفعت حاجة إلى غيره لا يرضى بل يُحب أن تُرفع الحاجات له -سبحانه- دون غيره، ولا يضيع من لاذ به والتجأ، ويغنيه عن الوسائط والشفعاء، وهو الكثير الخير الجواد المعطي الذي لا ينفذ عطاؤه، وهو الكريم المطلق في كرمه -جل وعلا-.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
من صفات الله تعالى الكرم فالله الكريم، نقف عند هذه الصفة اليوم.
معاشر المسلمين: إن لله صفات عليا وهو -سبحانه- يحبها، ويحب أن يتصف البشر بما كان منها لائقًا بهم؛ فهو كريم يحب الكرماء، وهو عفو يحب العافين عن الناس، وهو قوي يحب الأقوياء، فهو -سبحانه- يحب كل صفات الكمال، ولذلك نراه -جل وعلا- يحب صفة الجمال كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "إن الله جميل يحب الجمال".
ويحب صفة الرفق كما صح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله"، وكان يدعو -صلى الله عليه وسلم- "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
فهو -سبحانه- يحب كل صفات الكمال، وغالبًا ما يكون اسمه متضمنًا لصفة فاسمه الرحمن الرحيم يتضمن صفة الرحمة، واسمه القوي يتضمن القوة، واسمه المهيمن يتضمن الهيمنة، واسمه الكريم يتضمن صفة الكرم.. وهكذا.
أيها الإخوة: أمر مهم، إن من شروط الإيمان السليم بصفات الله -تعالى- أن نؤمن بما أثبته الله -جل وعلا- لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الأسماء والصفات على الوجه الذي يليق بجلاله وعظمته، لا نعطِّل أية صفة وصف بها نفسه، أو ننفيها عنه، وقد أثبتها هو صريحة في كتابه أو على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ولا نشبه صفاته بصفات المخلوق ولو اشتركت معها في اللفظ.
فالمنهج القويم المستقيم في هذا لا نأخذه من فلسفات البشر حتى لو كان قصدهم من وراءه نفي الصفة أو تأويلها حتى لو كان قصدهم من ذلك تنزيهه -سبحانه وتعالى-، بل نأخذ المنهج هو -جل جلاله- إذ أنزله -سبحانه- في محكم كتابه لما أثبت الصفة بعد أن نفى الشبه والكيف في قوله -تعالى- في سورة الشورى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) هذا نفي للشبه والكيف، وبعدها أثبت لنفسه اسمين متضمنين صفتين عظيمتين صفة السمع وصفة البصر (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى: 9].
وهكذا تضمن الاسمين صفتين كريمتين في ذاته العلية، وهما أنه يسمع ويرى فالمنهج أنه أثبتهما لذلك بعد أن نفى مشابهتهما لصفات المخلوقين فقال (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) هذا نفي كلي للمشابهة بأي من مخلوقاته ثم أثبت صفتين السمع والبصر.
مع أن المخلوق يشترك معه -سبحانه- في تلكم الصفتين لفظًا ومعنًى، ولكن لا كيفًا، وعلى هذا المنهج أؤمن بصفاته تبارك وتعالى.
ولذلك لما سئل الإمام مالك -رحمه الله- فقال له سائل: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه:5] كيف استوى؟ أثبت الاستواء كما جاء دون نفي ولا تأويل، فقال -رحمه الله-: "الاستواء معلوم-أي معلوم المعنى-، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، ثم قال للسائل: "وما أراك إلا رجل سوء" وأمر بإخراجه من مجلسه.
فقول الإمام: "الاستواء معلوم" أي: معلوم المعنى في لغة العرب التي نزل بها القرآن بلسان عربي مبين، فاستوى هنا عديت على (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) فهي إذا هنا بمعنى علا وارتفع، وهكذا الأمر في سائر نصوص الصفات؛ فإن معانيها معروفة في لغة العرب وليست الأولى.
قال: "والكيف مجهول" أي: مع إثباتهم لمعنى الاستواء واعتقادهم بأن الله مستوٍ على عرشه مرتفع عليه إلا إنهم يكلون علم كيفية ذلك الاستواء إلى الله -عز وجل- لأنه مما استأثر الله بعلمه.
قال: "والإيمان به واجب" أي: الإيمان باستواء الله على عرشه على الحقيقة واجب لوروده صريحا في النصوص الشرعية.
قال: "والسؤال عنه بدعة" أي: السؤال عن كيفية الاستواء بدعة لأن السائل قال "كيف استوى؟" ومعرفة الكيف محال في ذات الله تعالى.
وحقيقة ما يريده الله منا بعد علمنا بهاتين الصفتين والاسمين السميع البصير وما تضمن من الصفات هما من صفاته هو الإحساس بمعيته.
نستيقن أنه بصيرٌ بنا ويرانا فلا نأتي من الأعمال إلا ما يرضيه، ونستيقن بأنه يسمعنا فلا نتكلم بما يسخطه.
ولذلك قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة:7].
وهكذا الحال في سائر الأسماء والصفات أن نعي مدى أثرها على حياتنا على مشاعرنا على سلوكنا..
أيها الإخوة: نأتي الآن إلى صفة الكرم، صفة الكرم تشمل أمرين الأول: الكمال في الذات، وهذا معنى من معاني الكرم، فالكريم في اللغة هو كريم الخلق وكريم الأصل يقال رجل كريم إذا كان من أسرة كريمة معروفة بالدين والأخلاق الحسنة والسيرة الطيبة.
ولذلك صح عند الحاكم من حديث عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم"، أي: لما عرفوا بالتقوى فهم كرماء، والكريم النفيس، ولذلك وصف القرآن بالكرم (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ).
ووصف رزق الله بالكريم أي النفيس الخالي من النقص، ويطلق الكرم على كل شيء صفاته محمودة، ووصفت ملكة سبأ كتاب نبي الله سليمان بالكرم (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ) [النمل:29].
وإضافة الصفة إلى الله -تعالى- تعني أن الله -تعالى- متصف بكل أوصاف الكمال، هذا معنى.
والمعنى الثاني من معاني الكرم التفضل والجود، وهذا أيضًا داخل في معنى الكرم، ويسمى فضلاً كما قال الزجاج، والله -تعالى- "سبب كل خير ومسهله فهو أكرم الأكرمين".
كما أن الله -جل جلاله- وله المثل الأعلى في غناه المطلق واسع الكرم لا يسلب عباده العاصين بمجرد عصيانهم نعمه، بل يمهلهم دون إهمال، لا بل قد يزيد في الإنعام عليهم، فإذا ما ظلوا في غيهم سادرين وأصروا واستكبروا أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
تأمل في قوله -تعالى- (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ) [الانفطار: 6- 8].
جاءت صفة الكرم في سورة الانفطار عند ذكر النعمة (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) [الانفطار: 6- 7]، كيف يغتر بكريم؟ قال المفسرون معناه "أن حقًّا على الإنسان ألا يغتر بتكرم الله عليه حيث خلَقه وسواه وعدله وركبه، وبعد كل هذا الكرم من خالقه الكريم يغتر بتفضله عليه بإمهاله إياه وحلمه عليه ويستمر بمعصيته".
تغتر أن يكرمك الله بهذا، فإن هذا الاغترار منكر خارج عن حد الحكمة، ولهذا روي عن عمر -رضي الله عنه- بعد هذا الاستفسار الإنكاري (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) قال: "غرَّه حمقه وجهله".
وقال الحسن: "غره والله شيطانه الخبيث" أي: حين زيَّن له المعاصي، وقال له: افعل ما شئت، فربك الكريم الذي تفضل عليك أولاً من الخلق والتسوية، وهو متفضل عليك آخرًا حتى ورَّطه.
ولذلك يقول المؤمنون للمنافقين حين يضرب بينهم بسور له باب (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [الحديد:14]، أي: الشيطان غركم بكرم الله -تعالى- وبلطفه وبعفوه (وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) الغرور هو الشيطان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أما بعد.. فإن من معاني صفة الكرم الإلهي أنه هو الذي قدَر فعفا -سبحانه وتعالى-، وإذا وعد وفَّى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء، ولا يبالي كم أعطى ولمن أعطى، وإن رُفعت حاجة إلى غيره لا يرضى بل يُحب أن تُرفع الحاجات له -سبحانه- دون غيره ولا يضيع من لاذ به والتجأ، ويغنيه عن الوسائط والشفعاء، وهو الكثير الخير الجواد المعطي الذي لا ينفذ عطاؤه، وهو الكريم المطلق في كرمه -جل وعلا-.
نسأل الله -تعالى- أن يفيض علينا من واسع كرمه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين.