القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
فأيُّ فضيلةٍ لمن يُنفق على أهله, ويُطعمهم ويكسوهم! ولكن هذا الفضل لا يتم إلا بالنية والاحتساب.. أمَّا مَن أنفق على أهل عادةً, دون أنْ يحتسب ذلك وينوي التعبد لله بإطعام أهله وإغنائهم: فقد حُرم من هذا الفضل العظيم. وكم نُنفق على أهلنا في اليوم الواحد؟ لو حسبنا ذلك لعلمنا أننا محرومون أشد الحرمان حينما لم نَحْتسب ذلك عند الله تعالى.. فجاهِدْ نفسك من هذا اليوم على البذل والإنفاق, وخذ شيئًا من أموالك التي جمعتها, وأعطها لأهلك وأولادك, وأعطها للجمعيات الخيرية, فحينها سيحالفُك التوفيقُ والأنسُ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله عظيمِ الفضل والكرم, مُدرِّ الخير والنِّعَم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكريمُ الجواد المنان, ذو العطاء والجود والإنعام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, سيِّدُ الكرماء, وأنبل الشرفاء, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون, واعلموا أنَّ من عظمة دين الإسلام, أنه رتَّب الأجر الجزيل في أعمال يقوم بها المسلم فطرةً وشهوة, ومن الأمثلة على ذلك: إطعامُه لأهلِه ونفقتُه عليهم بلا إسراف ولا تبذير.
فقد ثبت في الصحيحين عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قَالَ: «إِذَا أَنْفَقَ المُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ، وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً».
وثبت في صحيح مسلم عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قَالَ: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ, وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ».
فأيّ فضيلةٍ لمن يُنفق على أهله, ويُطعمهم ويكسوهم! ولكن هذا الفضل لا يتم إلا بالنية والاحتساب, لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا", وفي الحديث الآخر: "تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ"؛ فقد أكَّد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أهميَّةِ النية, وأنه لا يُؤْجر إلا إذا نوى بها وجه الله تعالى.
أمَّا مَن أنفق على أهل عادةً, دون أنْ يحتسب ذلك وينوي التعبد لله بإطعام أهله وإغنائهم: فقد حُرم من هذا الفضل العظيم.
وكم نُنفق على أهلنا في اليوم الواحد؟ لو حسبنا ذلك لعلمنا أننا محرومون أشد الحرمان حينما لم نَحْتسب ذلك عند الله تعالى.
معاشر المسلمين: إنّ النفقة على الأهل والأولاد أمرٌ فُطر عليه البشر, حتى البهائم كلّها تنفق على أولادها وتعطف عليهم.
إلا أنَّ هناك نوع من البشر خرج عن هذه الفطرة, وأصبح صنفًا شاذًّا لا يُشابه أيّ مخلوق في هذا الأمر, وهم المقتِّرون على أهليهم وأولادهم, الذين حرموهم حقوقهم, وبخلوا عليهم بما أنعم الله عليهم من الأموال والخيرات.
قال أحدُ المسؤولين في أحد البنوك: دخل عليَّ رجلٌ رثّ الثياب, كريه المنظر, فظننته يطلب صدقةً تغنيه, ومالاً يكفيه, لكنه طلب مني كشفًا لحسابه, فإذا به أكثر من عشرين مِليونَ ريال, ومع هذا فقد قتَّر على نفسه وأهله وأبنائه.
ألا يُفكر البخيل على أهلِه بأنه سيَفنى ولن تبقى أموالُه, ولن تذهب معه إلى قبره.
قال يحيى بن معاذ -رحمه الله-: "مصيبتان لم يَسمع الأوّلون والآخرون بمثلهما في ماله عند موته، قيل: ما هما؟ قال: يُؤْخَذُ منه كلُّه, ويُسْأَل عنه كله".
وسيبقى له بعد موته ذكرُه السيئ, وسمعتُه الرديئة, وأفعالُه المخزية, فلقد هدم سمعته بيده, وسوَّد وجهه ببخله.
وما أمسك البخيلُ أمواله عن الإنفاق إلا لما وقرَ في قلبه من الشك والريب, في أن الله سيُخلف له ما أنفق, قال تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39].
إنَّ البخيلَ ما هو إلا عبدٌ ذليلٌ لأموالِه. قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ, إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ, وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ, تَعِسَ وَانْتَكَسَ, وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ". (رواه البخاري).
إنّ الملائكة تدعو كل يوم على هؤلاء البخلاء: قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ, إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ, فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا, وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا".
وقارنوا بين الغني المنفق الباذل, وبين الغني المقتر البخيلِ, أو الذي سخّر أمواله في طلب الشهرة والأعمال التافهة, كم هما مختلفان في السعادة وطيبِ العيش, وكم هما مختلفان في البركة والنفع.
ألم يعلم البخيلُ بأن الإنفاق فيه الزيادة والنماء؟ قال رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ".
ألم يعلم بأنَّ البُخْلَ مِن أعظم أسباب دخول النار, وسخطِ العزيز الجبار؟ قال الله –تعالى- عن الكفار: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) [المدثر: 42- 44].
ولهذا عدّ العلماء البخل من الكبائر.
وقد ثبت أنَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لبني سلمة: من سيدكم ؟ - قالوا: الجدُّ بن قيسٍ على أنا نُبَخِّلُهُ, فقال: "وأي داء أدوأ من البخل، بل سيدكم عمرو بن الجموح".
وكان رَسُول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُو في كل صلاةٍ ويقول: أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَالْكَسَلِ.
ولو لم يكن من آثار ومفاسد البخل والشح, إلا أنّ البخيل فقد لذة الإنفاق والكرم لكفى؛ فإنَّ المنفقَ يجد عند إنفاقه وبذله سعادةً لا توازيها سعادة, ولذةً لا تُعادلُها لذة.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وَمِنْ أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدْرِ: الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ, وَنَفْعُهُمْ بِمَا يُمْكِنُهُ مِنْ الْمَالِ وَالْجَاهِ, فَإِنّ الْكَرِيمَ الْمُحْسِنَ أَشْرَحُ النّاسِ صَدْرًا, وَأَطْيَبُهُمْ نَفْسًا, وَأَنْعَمُهُمْ قَلْبًا, وَالْبَخِيلُ الّذِي لَيْسَ فِيهِ إحْسَانٌ, أَضْيَقُ النّاسِ صَدْرًا, وَأَنْكَدُهُمْ عَيْشًا, وَأَعْظَمُهُمْ همّا وَغَمّا.
وَقَدْ ضَرَبَ رَسُولُ اللّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الصّحِيحِ, مَثَلًا لِلْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدّقِ, كَمَثَلِ رَجُلَيُنِ عَلَيْهِمَا جُنّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ, أي دِرعان, كُلّمَا هَمّ الْمُتَصَدّقُ بِصَدَقَةِ, اتّسَعَتْ عَلَيْهِ وَانْبَسَطَتْ, وَكُلّمَا هَمّ الْبَخِيلُ بِالصّدَقَةِ, لَزِمَتْ كُلّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا, وَلَمْ تَتّسِعْ عَلَيْهِ, فَهَذَا مَثَلُ انْشِرَاحِ صَدْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَصَدّقِ, وَانْفِسَاحِ قَلْبِهِ, وَمَثَلُ ضِيقِ صَدْرِ الْبَخِيلِ وَانْحِصَارِ قَلْبِهِ". ا.هـ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول هذا القول, وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي ما أنزل داءً إلا أنزل له دواء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون: إنَّ هذا الداء لا بدّ له من دواءٍ يُداويه, وإلا جرّ على صاحبه الذنوب والكراهية في قلوب الناس, وداءُ البخل وعلاجُه في الأمور التالية:
أولاً: الدعاء, فلْيُكثرْ من الدعاء, ولْيُناجِ ربَّ الأرض والسماء, أن يُخلِّصه من هذا البلاء.
ثانيًا: مجاهدةُ النفس على البذل والعطاء, فإن الله إذا علم منه الصدق, ورآه يُجاهد نفسه ابتغاءَ مرضاته, فلن يخيبه أبدًا, قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].
فجاهِدْ نفسك من هذا اليوم على البذل والإنفاق, وخذ شيئًا من أموالك التي جمعتها, وأعطها لأهلك وأولادك, وأعطها للجمعيات الخيرية, فحينها سيحالفُك التوفيقُ والأنسُ والسداد.
ثالثًا: تذكير النفس بأن ما أنفقه وبذله لله, فإن الله سيخلفه له, وسيُعوضه خيرًا منه.
رابعًا: احتساب الأجر والثواب, وانتظارُ الجزاء من الكريم الوهاب, فلا يكن همُّه وقصد, أنْ يحمي سمعته من كلام الناس عنه, بل ليكُن قصده مرضاةَ الله تعالى, وأداءَ حقوقه عليه, فبغير هذه النيةِ قد لا يُعان ولا يُوفَّق.