البارئ
(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحياة الآخرة |
ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالخلق لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالرب فنعم الرزاق هو، ومن ظن بربه خيرًا أفاض عليه جزيل خيراته، وأسبل عليه جميل تفضلاته، فلازم الطلب فالمعطي كريم، والكاشف قدير، ولا تستعجل الإجابة إذا دعوت، ولا تستبطئها إذا تأخرت، ومن يكثر قرع الأبواب يوشك أن يفتح له، ومن حلَّت به نوائب الدهر وجأر إلى الله حماه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله وسع كل شيء برحمته، وعمَّ كل حي بنعمته، لا إله إلا هو خضعت الخلائق لعظمته، -سبحانه- يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، أحمده -سبحانه- وأشكره على سوابغ آلائه وجلائل منِّته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، خيرته من بريته، ومصطفاه لرسالته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وسار على نهجه وطريقته.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوا الله -رحمكم الله- واعتبروا بمن مضى من قبلكم، فقد عاجلهم ريب المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون، هم السابقون وأنتم اللاحقون، سبقوكم بمضي الآجال، وأنتم على آثارهم تشد بكم الرحال.
عباد الله: كثيرًا ما يتعرض الإنسان في حياته لمواقف كثيرة وأزمات صعبة يحتاج فيها إلى الثقة واليقين برب العالمين، والاعتماد على من بيده الأمور، مع الأخذ بالأسباب المباحة التي تعين الإنسان بعد توفيق الله -سبحانه- على أن يتخطى مراحل صعبة في حياته.
عندما يتعرض المؤمن لابتلاء في دينه أو جسده أو ماله أو ولده، ينبغي أن يكون توجهه وتوكله ورجاؤه خالصًا الله رب العالمين، مالك السموات والأرض وما بينهما، المتصرف في الخلائق بما يريد وكيف يريد، وإنّ رزق الله وفضله وكشفه للضر لا يسوقه إليك حرص حريص، ولا يرده عنك كراهية مبغض، فسبحانه من إله كريم، يعطي من يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بعدله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله.
سبحان الله الكريم، قد يعطي وهو يمنع، وقد يمنع وهو يعطي، وقد تأتي العطايا على ظهور البلايا، وقد تأتى البلايا على ظهور العطايا، (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216]، وإذا نزل بالإنسان بلاء، فليتوسل إلى الله -سبحانه-، ويدعوه ويرجوه، وربما ترتفع حرارة النداء والرجاء، فيستغيث العبد بربه ومولاه.
أيها المسلمون: الناس خلال رحلة الحياة يحتاجون إلى كنفٍ رحيم، ورعاية حانية، وبشاشة سمحة، وهم بحاجة إلى ودٍ يسعهم، وحلمٍ لا يضيق بجهلهم، ولا ينفر من ضعفهم، في حاجة إلى قلبٍ كبير يمنحهم ويعطيهم، ولا يتطلع إلى ما في أيديهم، يحمل همومهم ولا يثقلهم بهمومه. ولن يجدوا أحن ولا أرأف ولا أرحم من ربهم فهو أرحم بهم من أمهاتهم ولا غنى لهم عنه طرفة عين.
عباد الله: إن الدعاء صلة مهمة بالله -عز وجل- يطالبنا فيه بإظهار الضعف والخشوع لله تعالى. وعن أهمية الدعاء يبين الله لنا ذلك في الآية التالية: ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) [الفرقان: 77].
والدعاء وسيلة للتقرب إلى الله -سبحانه- وكل البشر يحتاجون إلى الدعاء، وحقيقته: هو إظهار الافتقار لله تعالى، والتبرؤ من الحَوْل والقوة، واستشعار الذلة البشرية، كما أن فيه معنى الثناء على الله، واعتراف العبد بجود وكرم مولاه.
وقد جعل الله تعالى الدعاء عبادة وقربى، قال الله تعالى: ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) [غافر: 60]، فأمر الله عباده بالتوجه إليه لينالوا عنده منزلة رفيعة وزلفى، أمر بالدعاء وجعله وسيلة الرجاء، فجميع الخلق يفزعون في حوائجهم إليه، ويعتمدون عند الحوادث والكوارث عليه.
وقد أورد القرآن المجيد أمثلة عديدة، حُكي بعضها على لسان الأنبياء والصالحين، وساق بعضها الآخر تعليماً للمؤمنين، وإرشاداً لهم إلى ما ينبغي أن يُدعى به خالق الكونين، وفي نفس المنوال نسج الأئمة والصالحون، ففاضت على ألسنتهم أدعية وابتهالات كثيرة تذخر بالتجارب الروحية، والمعاني والقيم الإنسانية، والمفاهيم الاجتماعية والدينية.
والقرآن الكريم يزخر بمناجاة الأنبياء ربهم، ودعائهم إياه، سواء كان ذلك مناجاة، أو استنصارا منه -سبحانه-، أو سؤالا وطلبا، ومن أولئك الأنبياء الذين سطر القرآن دعائهم وابتهالهم، يونس -عليه السلام- قال الله تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) [الأنبياء: 87، 88].
فلقد أُلقي يونس في بطن الحوت، وبالدعاء نبذ بالعراء من غير أذى، قال الله تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ) [الأنبياء: 83، 84].
ومثله زكريا -عليه السلام- فقد وجد في الدعاء بغيته وتحقيق مراده، قال الله تعالى: ( وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) [الأنبياء: 89، 90].
وهذا نوح -عليه السلام- لما طالت به الأيام، وتعددت الأساليب في دعوته -عليه السلام-؛ فقل المتبعون، وكثر المعاندون، وهموا به شرًّا، وتوعدوه رجمًا، فدعا -صلى الله عليه وسلم- على الكفار من قومه فأغرقهم الله بالماء كما قال -سبحانه-: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ) [القمر: 10 - 14]، أي: وبعد أن يئس نوح -عليه السلام- من إيمان قومه.. تضرع إلى ربه قائلاً: يا رب إن قومي قد غلبوني بقوتهم وتمردهم, فانتصر لي منهم، فأنت أقوى الأقوياء، وأعظم نصير للمظلومين والمغلوبين على أمرهم من أمثالي.
وقد كان الدعاء في نهاية دعوته، هو سلاحه الوحيد بعد تهديدهم إياه، وآخر وسيلة لجأ إليها، يوم رأى لا فائدة، وفعلا كانت نتيجة هذا الدعاء، الإجابة السريعة، كما يشعر بذلك التعبير بالفاء في قوله- تعالى- بعد ذلك: (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ). فبدعوة واحدة أغرق الله أهل الأرض جميعهم إلا من شاء الله له النجاة.
وكما دعا هود -صلى الله عليه وسلم- على كفار قومه فأهلكهم الله بالريح كما قال -سبحانه-: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) [الذاريات: 41، 42].
ودعا صالح -صلى الله عليه وسلم- على كفار قومه فأهلكهم الله بالصيحة كما قال -سبحانه-: (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ) [الذاريات: 43 - 45].
كما دعا إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- ربه حين ألقي في النار فجعلها -سبحانه- برداً وسلاماً عليه قال -سبحانه-: ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء: 69].
وبدعاء موسى -عليه السلام- أهلك الله فرعون، قال -سبحانه-: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) [يونس: 88]، وفي آية أخرى يقول الله عن إهلاكهم وإغراقهم في البحر،: (وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) [الذاريات: 38 - 40].
كما دعا محمد -صلى الله عليه وسلم- على الكفار في بدر فأهلكهم الله وأنجى المؤمنين كما قال -سبحانه-: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 9، 10].
عباد الله: على مثل هذا الطريق الذي سار عليه الأنبياء يسير المؤمن، ويشعره اللجوء إلى الله ودعاؤه إياه بالقوة، ولمثل هذا العمل يلجأ الموحد، فالدعاء لا يكون إلا للخالق المتفرد، الذي يُستمد منه المعونة، وتستجلب منه الرحمة، وتُستدفع به النقمة، إذ الدعاء له منزلة عالية، ومكانة سامية عند الرب -عز وجل-.
وقد تضمنت السنة النبوية الشريفة، أصولاً مهمة ممّا كان يدعو به نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم-، ويناجي به ربّه، ويعلمه لأصحابه وسائر المؤمنين مبتدئاً بأهله. فعن ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، فَعَلَيْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِالدُّعَاءِ" [أحمد(22044) وحسنه الألباني].
أيها المسلمون: ومتى كان العبد واثقًا من ربه، مضطرًّا في حاله، راجيًا عون ربه، فليبشر نصرًا، ولينتظر فرجًا، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يَقُولُ اللهُ -عز وجل-: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي"[البخاري(7405) ومسلم(2675)].
لقد أرشدنا -صلى الله عليه وسلم- لمكانة الدعاء وعظمته، فقال من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الدُّعَاءِ" [الترمذي (3370) وحسنه الألباني]. حتى عده من أفضل العبادات، فعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادَةِ الدُّعَاءُ" [الحاكم في المستدرك (1805) وصححه الألباني].
عباد الله: الدعاء هو العبادة، عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)[غافر: 60]" [البخاري في الأدب المفرد (714) وصححه الألباني]، وما هذه المرتبة السامية، والمنزلة العالية؛ في الدعاء؛ إلا لأنه يجتمع فيه من أنواع التعبد ما لا يجتمع في غيره، فتجتمع فيه عبادة القلب وعبادة اللسان وعبادة البدن: أما عن عبادة القلب فيستدعى فيه حضور القلب، وعباده الله بالتوجه والقصد، والرجاء والتوكل، والرغبة فيما عنده والرهبة من عذابه.
وأما عن عبادة اللسان فيستدعى من اللهج بالتمجيد والتحميد، والتقديس والمسألة، والتضرع والابتهال.
وأما عن عبادة البدن فيه فبرفع اليدين وبكاء العينين وبالانكسار والاستكانة بين يدي الله -عز وجل-، والتذلل له والتبرؤ من الحول والقوة إلا به، مستغيثاً به -سبحانه- دون سواه، ولهذا قال عز من قائل: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً) [الفرقان: 77].
أسأل الله أن يهدينا لصالح الأقوال والأعمال، وأن يرزقنا الإخلاص واليقين، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين، وخاتم المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق تقواه، واعملوا بطاعته ورضاه.
عباد الله: بالدعاء تسمو النفس، وتعلو الهمم، ويقطع الطمع عما في أيدي الخلق، هو سهام الليل يطلقه القانتون، وهو حبل ممدود بين السماء والأرض، فالجأ إلى الله في الطلب والتحصيل، وافزع إليه وحده في الدعاء واللجوء إليه والانكسار بين يديه، والأرزاق خزائن ومفاتيحها السؤال، وثق بأن خزائن الله ملأى ويديه سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة، فادع وربك الأكرم، وألق نفسك بين يديه، وسلم الأمر كله إليه، واعزم المسألة، وعظم الرغبة، فما رد سائله ولا خاب طالبه.
ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالخلق لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالرب فنعم الرزاق هو، ومن ظن بربه خيرًا أفاض عليه جزيل خيراته، وأسبل عليه جميل تفضلاته، فلازم الطلب فالمعطي كريم، والكاشف قدير، ولا تستعجل الإجابة إذا دعوت، ولا تستبطئها إذا تأخرت، ومن يكثر قرع الأبواب يوشك أن يفتح له، ومن حلَّت به نوائب الدهر وجأر إلى الله حماه.
إن الدعاء الخالص هو العبادة الحقيقية؛ لأنه دليل تقدير العبد للمعبود، وثقته فيه، والدعاة إلى الله تعالى أحوج الناس إلى هذا السبيل، وعليهم اللجوء إلى الله في السراء والضراء؛ ليديم لهم العطاء، ويتحقق لهم النصر، ويتمكنوا من نشر دين الله بصفائه بين الناس، وقد شرع الله للناس اتصالا عاجلا به، يلجئون إليه لتحقيق حاجاتهم، وهو الدعاء، والتوجه له تعالى على الدوام.
عباد الله: وللدعاء شروط عديدة لا بد من توفرها كي يكون الدعاء قويًّا مستجابًا ومقبولاً عند الله. منها:
أن الدعاء يلزم العبد إلى الاستجابة لله -عز وجل-؛ لأن الله -سبحانه- وتعالى اشترط لإجابة الدعاء طلب الاستجابة له -سبحانه- بفعل أوامره وترك نواهيه قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186]، فمن لم يستجب لربه بأن فرط في فعل الواجبات وارتكاب المحرمات فقد حرم نفسه من إجابة الدعاء؛ لأن الذنوب والمعاصي تحول من إجابة الدعاء قال بعض السلف: لا تستبطئ الإجابة وقد سددت طرقها بالمعاصي.
وقوة الدعاء تجعل العبد أن لا يسأل إلا الله ولا يستعيذ ولا يستغيث إلا به، فلا يجوز أن يدعو غير الله تعالى؛ لأن ذلك شرك به -سبحانه-، قال تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً) [الجن: 18]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" [الترمذي (2516) وصححه الألباني].
الدعاء يحمل العبد إلى اليقين بالإجابة مع حضور القلب، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب من قلب غافل لاهٍ" [رواه الترمذي (3497)، وحسنه الألباني].
وينبغي للداعي أن يكون حاضر القلب متفهماً لما يقول، مستشعراً عظمة من يدعوه، ولا يليق بالعبد الذليل أن يخاطب ربه ومولاه بكلام لا يعيه هذا الداعي، وبجمل اعتاد تكرارها دون فهم لمعناها.
ومنها: عدم الاستعجال: فقد يدعو الداعي، وتتأخر الإجابة لحكمة يعلمها الله تعالى فينتهز الشيطان الفرصة ويوسوس للمسلم أن يترك الدعاء.
فلا ينبغي لك -أخي المسلم- أن تترك الدعاء، وتيأس من الإجابة بل استمر في الدعاء حتى يجيب الله تعالى دعاءك قال -صلى الله عليه وسلم-: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي" [البخاري (6340)]، فيدَع الدعاء عندما لا يرى أثراً للاستجابة.
اعلم أن الدعاء عبادة وإكثارك من الدعاء يجعلك على خير عظيم سواء رأيت أثراً للإجابة أو لم تر أثراً.
ففوق أن يكون الدعاء مقبولاً مستجابا، فهو يحمي العبد عن الحرام ويوجهه لإطابة المطعم والمشرب والملبس, فلا تدخل في بطنك إلا حلالاً وها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يخبرك عن عاقبة أكل الحرام: "...وذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك" [مسلم(1015)]. قال وهب بن منبه - رحمه اللّه - :" من سره أن يستجيب الله دعوته فليطب طعمته".
وقوة الدعاء توجه العبد إلى الدعاء بالخير، فحتى يكون الدعاء مقبولاً ومرجواً عند الله تعالى لابد أن يكون في لجلب ما هو خير وكسب ما هو نافع. قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم" [مسلم (2735)].
عباد الله: ودعاء العبادة يصون العبد من الوقوع في أخطاء أثناء دعائه، كأن يشتمل الدعاء على شيء من الشرك في عبادة الله: كدعاء غير الله فهذا شرك أكبر. أو يحتوي على شيء من التوسلات البدعية، كالتوسل بذات أو بجاه النبي -صلى الله عليه وسلم-. أو أن يتمنى الموت: فبعض الناس إذا نزل به البلاء تمنى الموت, والصواب : أن يقول كم من حديث أنس -رضي الله عنه-: "اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي" [البخاري(5671) ومسلم(2680)].
كما يحميه من الدعاء بتعجيل العقوبة: كأن يقول الإنسان: "اللهم عجل عقوبتي في الدنيا؛ لأدخل الجنة يوم القيامة وأسلم من عذاب النار". أو أن تدعو بإثم: كأن يدعو على شخص أن يكون مدمناً للخمر. أو أن يميته الله كافراً.
إن الدعاء يعني الثقة بالاستجابة، واليقين بأن هناك من ينصت لما تقول كلمة كلمة، وأنك تفزع إلى من يقدر على تحقيق ما لا تقدر عليه، فأنت لا تدعو إلا في أمر عزت عليك أسبابه؛ فتقول: إن لي ربا أومن به، وهو يقدر على الأسباب لأنه خالق الأسباب، وقادر على أن يعطى بلا أسباب، والمؤمن الحق يستقبل الأحداث، لا بأسبابه، ولكن بقدرة من آمن به، وهو المسبب الأعلى -سبحانه-.
ومن أحب أن يستجيب الله دعاءه فليكثر من الدعاء في الرخاء، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "مَن سَرَّهُ أن يستجيب الله له عند الشدائد والكُرَب؛ فليكثر الدعاء في الرخاء" [رواه الترمذي (3382) وحسنه الألباني].
إن الدعاء مناجاة حميمة بين المخلوق والخالق، ووسيلة اتصال مباشرة بحضرة الله. إنه مكالمة سرِّية بين العبد الفقير المحتاج والربِّ الغني المعطاء، تنقلها أسلاك خفيَّة تصل ما بين قلب العبد والذَّات الإلهية، وما أكثر ما يحتاج العبد، وما أكثر ما يستجيب الله!.
وإن أبلغ الدعاء ما كان في خفية وتضرُّع، لأنه أَلْيَق بجلال الله وعظمته، إذ هو دليل على عمق الإيمان وعلى الثقة المطلقة بقرب الله وسعة رحمته. عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: "كنَّا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : أيُّها الناس ارْبَعُوا -أي ارفقوا وهوِّنوا- على أنفسكم، إنكم لستم تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم" [البخاري (7386) ومسلم (2704)]. قال أحد الصالحين: "إن الله إنما يُتَقرَّب إليه بطاعته فما كان من دعائكم الله، فليكن في سكينة ووقار، وحسنِ سَمْتٍ وزيٍّ وهدي وحسن دعة".
فإلى من قلبهُ مكلوم، وفؤادهُ حزين، أكلتهُ الهموم، ودق عظمهُ الفقر، فأصبح مشتت الأفكار، وإلى من ضل عن الطريق المستقيم، وتاه في متاهات الضالين، ونسي يوم الدين، وإلى العلماء والصالحين من آمن بالله ربّاً، وبالنبي محمد رسولاً، وبالإسلام ديناً، إلى من أغلقت دونه الأبواب، ومنعهُ الحجاب، هذا باب لم يغلق باب الكريم الوهاب، إلى كل عقيم، وإلى كل مريض، وإلى من ابتلي بمصائب الدنيا، أن يدعو الله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة:186]، تأمل يا أخي هذه الآية تجد غاية الرقة والشفافية والإيناس، آية تسكب في قلب المؤمن النداوة والود والأنس والرضا والثقة واليقين.
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك وارزقنا الاتعاظ بذلك وارزقنا الانتفاع بما أنزلت من وحيك وما قدرته من قضائك، واغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.
اللهم لا تدع لأحد منا في هذا المقام ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا هماً إلا فرجته، ولا غماً إلا أزلته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم ارزقنا جميعاً قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً ورضواناً.
اللهم أصلح أولادنا، اللهم أصلح أولادنا، اللهم رب لنا أولادنا، اللهم استر نساءنا وبناتنا، اللهم استر نساءنا وبناتنا، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم اجعل هذا البلد سخاءً رخاءً وجميع بلاد المؤمنين، اللهم اجعل هذا البلد سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن هذا البلد الفتن ما ظهر منها وما بطن وجميع بلاد المسلمين. اللهم ارفع عن هذا البلد الفتن ما ظهر منها وما بطن وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين!.