البحث

عبارات مقترحة:

الرءوف

كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...

الوتر

كلمة (الوِتر) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، ومعناها الفرد،...

الخالق

كلمة (خالق) في اللغة هي اسمُ فاعلٍ من (الخَلْقِ)، وهو يَرجِع إلى...

معرفة الله تعالى والصلة به

العربية

المؤلف خالد بن علي الغامدي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات - أركان الإيمان
عناصر الخطبة
  1. أجل العلوم والمعارف .
  2. فضائل معرفة الله تعالى .
  3. أقسام معرفة الله تعالى .
  4. ثمرات معرفة الله تعالى ومحبته .
  5. المعينات على معرفة الله جل وعلا. .

اقتباس

ما أعظمَ الله! ولا إله إلا الله! ما أجَلَّ الله! له -سبحانه- الكمالُ والجلالُ والجمالُ المُطلَقُ في أسمائِهِ وصِفاتِهِ وأفعالِهِ، واحِدٌ أحدٌ، مُدبِّرٌ حكيمٌ، وربٌّ قديرٌ، لا شيءَ يعدِلُه، ولا شيءَ يُشبِهُه، وليس كمِثلِه شيءٌ، ولا يَؤُودُه شيءٌ، ولا يتعاظَمُه شيءٌ، وكلُّ شيءٍ عليه هيِّنٌ ويسيرٌ، لا تبلُغُه الأوهام، ولا تُدرِكُه الأبصارُ والأفهامُ، حيٌّ لا يمُوتُ، قيُّومٌ لا ينامُ، يُمسِكُ السماوات والأرضَ أن تَزُولَا، خلَقَ الخلقَ كلَّهم بلا حاجةٍ إليهم، ورزَقَهم كلَّهم بلا كُلفةٍ ولا مشقَّةٍ، ثم يُميتُهم ولا يُعجِزونَه، ثم يبعَثُهم ويُحاسِبُهم كلَّهم وهو أهوَنُ عليه.

الخطبة الأولى:

إن الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفُسِنا وسيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحْدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابِه، والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتَّقوا الله - عبادَ اللهِ -، واعلَموا أن المُتَّقين لا يخافُون من أحداثِ المُستقبَل، ولا هم يَحزَنُون على ما فاتَهم في الماضِي؛ لأنهم عرَفُوا اللهَ حقَّ معرِفَتِه، فاشتَغَلُوا برِضاه -سبحانه-، وبما ينفَعُهم في حاضِرِهم ولحظَتهم، (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [يونس: 62- 64].

أيها المُسلمون: إن لله تعالى جنَّتَين: جنَّة مُعدَّلة في الدنيا، هي وسيلةٌ وطريقٌ إلى الجنَّة الأُخرى جنَّةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ، وكثيرٌ من الناسِ خرَجُوا من الدنيا وهم لم يذوقُوا طعمَ جنَّة الدنيا المُعجَّلة، ولم يعرِفُوا لها رَسمًا ولا وَسمًا، مما كان سببًا لجفافِ الأرواحِ، وصدَأ القلوبِ، وتناكُرِ النفوسِ، واستِيلاءِ أمراضِ الشَّهوات والشُّبُهات على العقولِ والقلوبِ.

إن هذه الجنَّة المُعجَّلَة في الدنيا هي جنَّةُ المعرفةِ بالله والصِّلةِ به، تلك المعرِفةُ الحقَّةُ الحيَّةُ النَّابِضةُ، إنها جنَّةٌ - واللهِ - وأيُّ جنَّةٍ؟!

مَن ذاقَها، وتنعَّمَ بها، وارتشَفَ رحِيقَها لم يَبغِ عنها حِوَلًا، ولم يطلُب غيرَها بدَلًا، إنها أُنسُ المُؤمنين، وبَهجةُ المُوحِّدين، ولذَّةُ الصادِقين.

ومهما سعَى الناسُ في طلبِ اللذَّة والسعادةِ والطُّمأنينةِ فلن يجِدُوها على الحقيقةِ والدوامِ إلا في معرفةِ الله والأُنسِ به، واستِحضارِ قُربِه ومعيَّتِه -سبحانه-، التي تَفيضُ على العبدِ ألوانًا من الحُبُورِ والسُّرورِ والرِّضا، وفرحِ القلبِ، ونَشوةِ النَّفسِ، حتى إنه ليعبُدُ اللهَ كأنَّه يراه، فيكونُ الله تعالى سمعَه الذي يسمَعُ به، وبصَرَه الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشِي بها.

فأيُّ حياةٍ يعيشُها هذا العبدُ؟! وأيُّ سعادةٍ يتلذَّذُ بها مَن وصَلَ إلى هذه المرحَلَة من الإيمانِ والمعرِفةِ والإحسانِ؟!

أمة الإسلام: إن معرفةَ الله هي بابُ التوحيدِ الأعظَم، ومنشُورُ الوِلايةِ الأقوَم، ومَن رسَخَت في قلبِه هذه المعرِفةُ، وعرَفَ اللهَ بأسمائِه وصِفاتِه وربوبيَّته وأفعالِه، دخلَت قلبَه أنوارُ التوحيد ولا بُدَّ، فلا يعبُدُ إلا الله، ولا يسأَلُ إلا الله، ولا يصرِفُ ألوانَ العبوديَّة كلها إلا لله وحدَه.

ولن يصِلَ عبدٌ إلى تحقيقِ التوحيدِ الخالِصِ لله إلا بالمعرِفةِ الحقَّه به –سبحانه وتعالى-، وهذه هي طريقةُ القرآن في تقريرِ توحيدِ الألوهيَّة، أنه يستدِلُّ بمعرِفةِ الله وأسمائِهِ وصِفاتِهِ وربوبيَّته على توحيدِ الألوهيَّة والإلزامِ به، كما في قوله:

(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) [الأنعام: 102]، وكما في الآياتِ التي في سُورة النَّمل التي يُعدِّدُ الله فيها نِعَمَه وبديعَ مخلُوقاتِه، ثم يُقرِّرُ مُلزِمًا: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) [النمل: 60]؟!.

ويقولُ -سبحانه-: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [يونس: 3]، والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ جدًّا.

إن امتِلاءَ القلوبِ بمعرِفةِ الله وتوحيدِه وإجلالِه يُخرِجُ منها فسادَها وأمراضَها وكِبرَها وعلُوَّها، ويُزكِّي النُّفوسَ والأرواحَ، ويُؤسِّسُ فيها معانِيَ الإيمان، وحقائِقَ اليقين، والتوكُّل، والإخلاصِ، والصِّدقِ، فيُصبِحُ العبدُ ويُمسِي في نعيمٍ لا يُشبِهُه نعيمٌ، واثِقٌ بربِّه، غنيٌّ بمَولاه، عزيزٌ بسيِّده، راضٍ بأفعالِه، مُطمئنٌّ لأقدارِه، قد تحرَّرَ من عبوديَّة الخلقِ والدِّرهَم والدِّينار، وحُظوظِ الشَّرفِ والجاهِ، وصارَ عبدًا لله وحدَه الذي عرَفَه وعرَفَ أنه الذي بيدِه مفاتِيحُ كلُّ شيءٍ -سبحانه-، وهو الغنيُّ له مقالِيدُ السماوات والأرض.

أيها المسلمون: إن توحيدَ الربوبيَّة والأسماء والصِّفات الذي هو توحيدُ المعرِفةِ والإثباتِ هو أساسُ اليقين والإيمان، ومُحرِّكُ القلوبِ إلى علَّام الغيُوب، وإفرادِه بالعبادةِ والتوجُّه والقَصد، وهو الوَقودُ الحيُّ الفعَّالُ لحياةِ النفوسِ وثباتِها، وسعادةِ الأرواحِ، والعاصِمُ لها مِن وساوِسِ الشيطان وأفكارِ الرَّدَى والضلالِ.

ولذلك فإن الله -سبحانه- يُحبُّ مِن عبادِه أن يعرِفُوا، وينظُرُوا في بَدِيعِ صُنعِه وأفعالِه، ويتفكَّرُوا في مخلُوقاتِه، ومن هنا كان القرآنُ كلُّه في تعريفِ الخلقِ بربِّهم -سبحانه-، والحديثِ عنه وعن أسمائِهِ وصِفاتِه وأفعالِه وتشريعاتِه الحَكِيمة، ورَبطِ القلوبِ به -سبحانه-؛ لكَي تُشرِقَ عقولُهم وأرواحُهم بإفرادِ ربِّهم -سبحانه وتعالى- بالقَصدِ والطلَبِ، الذي هو توحيدُ العبادةِ والألوهيَّة، فهما مُتلازِمان - ولا بُدَّ -: توحيدُ المعرفةِ والإثباتِ، وتوحيدُ العبادةِ والطلَبِ، لا ينفَكَّانِ عن بعضِهما.

وهذا هو الطريقُ، هذا هو السَّبيلُ - عباد الله -، هذا هو المنهَجُ الصحيحُ في تربيةِ الناسِ ودعوَتهم، والأصلُ في المُبتدَا والمُنتهَى في كل خِطابٍ دعويٍّ.

ولقد أخطأَ كلَّ الخطأ مَن سلَكَ غيرَ هذا السَّبيلِ في التربيةِ والدعوةِ، وظنَّ أنه يُمكنُ إصلاحُ قلوبِ الناسِ وعقولِهم بفَلسَفاتٍ وأفكارٍ لا طائِلَ تحتَها إلا الحَيرةُ والقلَقُ، أو بلُعاعةٍ من الدنيا ومادِّياتِها، أو بنَعَراتٍ وعصبِيَّاتٍ جاهِليَّةٍ حِزبيَّة.

ألا ليتَ الدُّعاةَ والمُصلِحين وأربابَ الأقلام في وسائل الإعلامِ وغيرِها يستشعِرُون فَداحةَ الخَطبِ، وحَمَ الخسارةِ حينما ينشغِلُوا بأمورٍ جُزئيَّةٍ فرعيَّةٍ، ويغفلُون عن هذا الأصلِ العظيمِ الذي به حياةُ القلوبِ والعقول واستِقامتُها وفلاحُها، وهو السِّياجُ المَنيعُ لكلِّ المُجتمع ضدَّ أفكارِ التطرُّفِ والشُّبُهات وأمراضِ الهوَى والشَّهَوات.

وواللهِ الذي لا إلهَ غيرُه لن تصلُحَ أمَّتُنا إلا بالتوحيدِ الصحيحِ، وقُوَّة المعرِفةِ بالله تعالى والتعلُّقِ به، وما انتَكَسَ المُنتَكِسُون وتنكَّبُوا طريقَ الهُدى، وارتَدُّوا على أدبارِهم إلا بسَببِ ضَعفِ المعرِفةِ بالله، وهَشاشَةِ العلاقةِ به -سبحانه-، مما كان سبَبًا لتزلزُلِ القلوبِ، وتغيُّر المبادِئ، وانسِلاخِ اليَقين من القلوبِ لأولِ عارِضٍ، ولبارِقِ طمَعٍ، ولشَوبِ غرضٍ ومصلَحةٍ.

أمة الإسلام: إن تحقيقَ المعرِفةِ بالله، وقُوَّة التعلُّق به -سبحانه-، وامتِلاءَ القلوبِ بجلالِه وعظَمَتِه هو ينبُوعُ التوحيدِ الصحيحِ ومادَّتُه الكُبرَى.

وكيف لا والله - سبحانه وتعالى - هو أحقُّ مَن ذُكِر، وأعظمُ مَن دُعِي، وأكرَمُ مَن سُئِل، وأرحَمُ مَن رُجِي، وأرأَفُ مَن ملَكَ، نَعماؤُه تَترَى، وآلاؤُه لا تُحصَى، عنده خزائِنُ كلِّ شيءٍ، يُنفِقُ كيف يشاء، يدُه ملأَى لا تَغِيضُها نفقةٌ، سحَّاءُ الليلِ والنهار.

ولو اجتمَعَ الخلقُ كلُّهم في صَعيدٍ واحدٍ فسأَلُوه وسأَلُوه، حتى يعجَزُوا عن المسألةِ، ما نقَصَ مِن مُلكِه وخزائِنِه شيءٌ أبدًا، ذلك بأن الله ملِكٌ جَوادٌ ماجِدٌ كريمٌ غنِيٌّ، هو الأولُ والآخرُ، والظاهِرُ والباطِنُ، مُحيطٌ بخَلقِه، لا يخرُجُ أحدٌ عن سُلطانِ قَهرِه، يخفِضُ القِسطَ ويرفَعُه، حِجابُه النُّور لو كشَفَه لأحرَقَت سُبُحات وجهِه ما انتَهَى إليه بصَرُه، هو ملجَأُ المُضطرِّين، وملاذُ المُستجِيرين، وغِياثُ الملهُوفِين، وسِعَ كلَّ شيءٍ عِلمًا، وعنده مفاتِحُ الغيبِ لا يعلَمُها إلا هو، يعلَمُ ما كان، وما سيكُون، وما لم يكُن لو كان كيف يكون، لا يعزُبُ عن علمِه مِثقالُ ذرَّةٍ في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغَرُ من ذلك ولا أكبَرُ.

فلا إله إلا الله! ما أعظمَ الله! ولا إله إلا الله! ما أجَلَّ الله! له -سبحانه- الكمالُ والجلالُ والجمالُ المُطلَقُ في أسمائِهِ وصِفاتِهِ وأفعالِهِ، واحِدٌ أحدٌ، مُدبِّرٌ حكيمٌ، وربٌّ قديرٌ، لا شيءَ يعدِلُه، ولا شيءَ يُشبِهُه، وليس كمِثلِه شيءٌ، ولا يَؤُودُه شيءٌ، ولا يتعاظَمُه شيءٌ، وكلُّ شيءٍ عليه هيِّنٌ ويسيرٌ، لا تبلُغُه الأوهام، ولا تُدرِكُه الأبصارُ والأفهامُ، حيٌّ لا يمُوتُ، قيُّومٌ لا ينامُ، يُمسِكُ السماوات والأرضَ أن تَزُولَا، خلَقَ الخلقَ كلَّهم بلا حاجةٍ إليهم، ورزَقَهم كلَّهم بلا كُلفةٍ ولا مشقَّةٍ، ثم يُميتُهم ولا يُعجِزونَه، ثم يبعَثُهم ويُحاسِبُهم كلَّهم وهو أهوَنُ عليه.

هو الملِكُ -سبحانه- يُؤتِي مُلكَه مَن يشاءُ بفَضلِه، ويَنزِعُه ممَّن يشاءُ بعَدلِه، ذلَّت له الرِّقابُ، وسجَدَت لعَظَمتِه الجِباهُ، وانكسَرَت لقُوَّته الجَبابِرةُ والطُّغاةُ، يُمهِلُ الظالِمِين، ويمُدُّهم في طُغيانِهم يَعمَهُون، حتى إذا بغَوا وأسرَفُوا أخذَهم أخذَةَ أسَفٍ لا تُبقِي منهم ولا تَذَر، (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102].

كلَّ يومٍ هو شَأنٍ، ومراسِيمُ قضائِهِ وقدَرِه نافِذةٌ نازِلةٌ، لا رادَّ لقضائِهِ، ولا مُعقِّب لحُكمِه، ولا غالِبَ لأمرِه، قائِمٌ على كلِّ نفسٍ بما كسَبَت، وقائِمٌ على هذا الكَونِ بأَسرِه، يحفَظُه ويُدبِّرُه ويُصرِّفُه بعلمِه وقُدرتِه وحِكمتِه.

هو الجبَّارُ -سبحانه-، المنَّانُ اللَّطِيفُ الرَّحمنُ، جبَرَ قلوبَ أوليائِه، ومَنَّ على الذين استُضعِفُوا في الأرضِ ومكَّنَ لهم، والله لَطِيفٌ بعبادِه؛ فكَم مِن شدَّةٍ فرَّجَها الله؟! وكَم مِن نازِلةٍ كان لها الله؟! وكَم مِن كُرُباتٍ وأهوالٍ درَأَ شرَّها الله ذو العِزَّةِ والجبَرُوت والمَلَكُوت؟!

صغُرَ دُون جلالِه كلُّ كبيرٍ، وذَلَّ مع كِبريائِهِ كلُّ عزيزٍ، وتهاوَى أمامَ عظَمَتِه كلُّ عظيمٍ، يسمَعُ دَبِيبَ النَّملةِ السَّوداء على الصَّخرةِ الصَّمَّاء، ويرَى مَدَّ البَعُوضِ جَناحَها في ظُلمةِ الليلِ البَهِيمِ الأليَلِ، لا تُشغِلُه أصواتُ الدَّاعِين، ولا تُعجِزُه حاجاتُ السَّائِلِين على تفنُّنِ مطالِبِهم، واختِلافِ ألسِنَتهم، يعلَمُ ما يُسِرُّون وما يُعلِنُون في كل الأحوال، وحين يستَغشُون ثِيابَهم، إنه عليمٌ بذاتِ الصُّدُور.

هو الله القادِرُ القديرُ المُقتَدِر، الخافِضُ الرافِعُ، المُعطِي المانِع، لا ينفَعُ مع منعِه سعيٌ وبَذلُ مجهُودٍ، فكَم مِن مُجتَهِدٍ حرِيصٍ لكنَّه محرُومٌ؟! ولا يمنَعُ مع إعطائِهِ عَجزُ عاجِزٍ، ولا مَنعُ مانِعٍ، فكَم من عاجِزٍ ضعِيفٍ لكنَّه مرزُوقٌ وافِرُ المقسُوم.

هو الله الرحمنُ الرحيم، ذو الرَّحمة الشامِلة العامَّة لكلِّ مخلُوقاتِه، وذو الرَّحمة الخاصَّة لأوليائِهِ وأحبابِه، يفتَحُها عليهم ولا مُمسِكَ لها، فتَطِيبُ حياتُهم، وتحلُو معها مرارَةُ الأقدار، وتتنعَّمُ بها أرواحُهم التي مسَّها تعَبُ الحياةِ ووهَجُها.

ألا إنه هو الله الذي لا إله إلا هو المُستحِقُّ للثَّناءِ والحَمدِ والمَدحِ، لا نُحصِي ثَناءً عليه.

أيها المسلمون: لا شيءَ أحلَى من الحديثِ عن الله، ولا خِطابَ أشهَى من أن يكونَ في مِدحَةِ الله؛ فهو الذي يَشفِي النفوسَ ويُسعِدُها، ويُذهِبُ حُزنَها وخوفَها.

فيا لله! كَم ضاعَت منَّا الأعمارُ في بُنَيَّات الطريقِ؟! وكَم ذهَبَت منَّا الساعاتُ في لَهوٍ وقِيلٍ وقالٍ؟! ويا لله! ما أشدَّ غفلَتَنا عن ذِكرِ ربِّنا ومعرِفَتِه؟! وما أعظمَ حسرتَنا على نقصِ حظِّنا من الأُنسِ به والعيشِ معَه -سبحانه-؟!

وما سبَقَنا السابِقُون المُقرَّبُون الأبرارُ بكَثرةِ صِيامٍ ولا صلاةٍ ولا صدَقةٍ، ولكنَّه بشيءٍ وقَرَ في قلوبِهم، ورسَخَ في نفوسِهم، هو قُوَّةُ المعرِفةِ، قُوَّةُ معرِفتِهم بربِّهم -سبحانه-، وشِدَّةُ تعلُّقهم به، وحُبُّهم له، فذاقُوا أطيَبَ وأحلَى وأشهَى ما في هذه الدنيا، حتى إن القلبَ ليهتَزُّ فرَحًا بهذا النَّعيم، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21].

بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعَنا بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ ما تسمَعون، وأستغفِرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفِرُوه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله العليِّ الأعلَى، الذي خلَقَ فسوَّى، والذي قدَّرَ فهَدَى، أحمَدُه -سبحانه- وأشكرُه، وأُصلِّي وأُسلِّمُ على نبيِّ الهُدى والخليلِ المُصطفَى، أعرَف الخلقِ بربِّه، وأتقَاهم وأخشَاهم له، وعلى آلِه السَّادة الشُّرفَا، وأصحابِهِ الأولياءِ النُّجَبَا، والتابِعِين لهم بإحسانٍ إلى يوم القيامةِ الكُبرَى.

وبعد .. أيها المُسلمون: معرِفةُ الله نوعَان: معرِفةُ إقرارٍ واعتِرافٍ فحسب، وهذا اشتَركَ فيها الناسُ كلُّهم حتى المُشرِكُون، لكنَّها لم تنفَعهم في النجاةِ والفلاحِ؛ لأنها معرِفةٌ بارِدةٌ هامِدةٌ، لم تُثمِر لهم التوحيدَ، ولم تُحرِّك قلوبَهم إلى الله تعالى حُبًّا وإخلاصًا.

والنوعُ الثاني: هي معرِفةٌ خاصَّةٌ زائِدةٌ على مُجرَّد الإقرارِ بامتِلاءِ القلبِ بتعظيمِ الله وإجلالِه، الذي يستلزِمُ إفرادَ الله بالتوحيدِ والعبادةِ والمحبَّة والخشيَةِ والتوكُّل.

فيشعُرُ العبدُ بالقُربِ من فاطِرِه ومولاه، فلا يخشَ إلا الله، ولا يخافُ إلا ربَّه، ولا يرجُو إلا الله، ولا يتذلَّلُ إلا لمالِكِ أمرِه، وليس له همٌّ ولا شُغلٌ إلا في رِضا ربِّه -سبحانه-، فتصفُو له الحياةُ، ويَطِيبُ له العيشُ، ولا يأسَفُ على فائِتٍ، ولا يفرَحُ بآتٍ، ولا تُزعِجُه الأحداثُ، ولا تُقلِقُه الكُروبُ، ولا يستخِفَّنَّه الذين لا يُوقِنُون.

قال ابنُ رجبٍ - رحمه الله -: "أفضلُ العلمِ العلمُ بالله، وهو العلمُ بأسمائِهِ وصِفاتِه وأفعالِه التي تُوجِبُ لصاحِبِها معرِفةَ الله وخشيَتَه ومحبَّتَه، وهيبَتَه وإجلالَه، وعظَمَته، والتبتُّلَ إليه، والتوكُّلَ عليه، والرِّضا عنه، والانشِغالَ به دُون خلقِه".

عباد الله: إن أعظمَ ما يُعينُ العبدَ على تحقيقِ المعرِفةِ بالله، وقُوَّة التعلُّق به، ورُسُوخ الإيمانِ واليقينِ أمورٌ ثلاثةٌ، أجمَعَ العُلماءُ بالله على عظيمِ أثَرِها على القلوبِ لمَن حرصَ عليها وداوَمَ واستمَرَّ؛ حتى يُفتَحَ له البابُ، فيجتَبِيه ربُّه ويصطَفِيه.

أخلِق بذِي الصَّبرِ أن يحظَى بحاجَتِه

ومُدمِنِ القَرعِ للأبوابِ أن يلِجَا

أولُ هذه الأمور -يا عباد الله-: دوَامُ النَّظرِ والتدبُّرِ والتفكُّرِ في آياتِ الله المتلُوَّة المسمُوعة آياتِ القرآنِ العظيمِ، فهي من أجلِّ أسبابِ حُصولِ الإيمانِ واليَقينِ والمعرِفةِ، (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص: 29].

والمُفيدُ النَّافِعُ هو إحضارُ القلبِ حين تلاوةِ القُرآنِ على مُكثٍ وترتِيلٍ، وتدبُّرُ الآياتِ والتفكُّرُ في معانِيها، وحُسنُ الفَهمِ لمقاصدِها ودلالاتِها، فهذا أنفعُ ما يكونُ للقلوبِ والأرواحِ.

والأمرُ الثاني -يا عباد الله-: دوَامُ النَّظَرِ والتأمُّلِ والتفكُّرِ في آياتِ الله الكَونيَّةِ المُشاهَدَة في ملَكُوت السماواتِ والأرض، وبَدِيعِ خلقِ الله في الأنفُس والآفاقِ؛ فإن ذلك يُورِثُ للعبدِ اليقينَ، وقُوَّةَ الإيمان والمعرِفةِ بالربِّ -سبحانه-.

وقد سلَكَ هذا الطريقَ أنبياءُ الله ورُسُلُه، والصالِحُون مِن عبادِه، كما قصَّ علينا -سبحانه- طريقةَ إبراهيم - عليه وعلى نبيِّنا أفضلُ الصلاةِ والسلامِ - في نظَرِه وتأمُّلِه في آياتِ الله الكَونيَّة، واستِدلالِه بذلك على توحيدِ الله، واستِحقاقِه للعبادةِ، (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [الأنعام: 75].

ثم قال إبراهيمُ - عليه السلام - بعد ذلك: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 79].

والأمرُ الثالثُ -يا عباد الله-: دوَامُ ذِكرِ الله بالتَّسبِيحِ والتَّهلِيلِ والتَّكبِيرِ والتَّحمِيدِ والاستِغفارِ في كل الأوقاتِ؛ فإنه الحِصنُ الحَصِينُ الذي يحمِي العبدَ مِن الآفاتِ والشُّرُور، ويُثمِرُ في القلوبِ محبَّةَ الله، والإنابةَ إليه، والإخلاصَ له -سبحانه-، واستِحضارَ قُربِه ومعِيَّته، ويُثمِرُ للعبدِ أيضًا قُوَّةً في بدَنِه وقلبِه وعقلِه، ونشاطًا وحيويَّةً في جوارِحِه وعمَلِه، فإن ذِكرَ الله حياةُ القلوبِ والأرواحِ والأبدَانِ، والذي لا يذكُرُ اللهَ كالميِّتِ، وكالبَيتِ الخَرِبِ.

وقد كان النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- لا يفتُرُ لِسانُه عن ذِكرِ ربِّه، يذكُرُ اللهَ في كل أحيانِه. ولا يَزالُ العبدُ رَطبًا لِسانُه بذِكرِ ربِّه، فيمُدُّه اللهُ بعَونِه وتأيِيدِه ونَصرِه، والدِّفاعِ عنه؛ فإن الله مع عبدِه إذا ذكَرَه وتحرَّكَت به شَفَتَاه، (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) [هود: 52].

وقد جمَعَ الله - سبحانه وتعالى - هذه الأمورَ التي تحصُلُ به قوَّةُ المعرِفةِ به، ورسُوخُ اليَقِين في قولِه تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 190، 191].

عباد الله: صلُّوا على رسولِ الله؛ فقد أمَرَكُم الله بذلك؛ حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

وثبَتَ عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «مَن صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً، صلَّى الله عليه بها عشرَ صلوات، ورفعَ له بها عشرَ درجات، وكتَبَ له بها عشرَ حسنات، وحطَّ عنه بها عشرَ خطيئات».

فاللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وأنعِم على نبيِّنا وحبيبِنا وسيِّدنا وقُدوتِنا محمدٍ، وعلى آلهِ وأزواجه وذريَّاته وصحابَتِه، وخُصَّ منهم: أبا بكرٍ الصدِّيقَ، وعُمرَ الفاروقَ، وعُثمانَ ذا النُّورَين، وعليًّا أبا الحسَنَين، وسائِرِ التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين.

اللهم انصُر مَن نصَرَ الدِّين، اللهم انصُر مَن نصَرَ الدِّين، واخذُل مَن خذَلَ الدِّين بقوَّتِك يا قويُّ يا عزيزُ.

اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَهم في فلسطين، والشَّام، وفي العِراق، واليَمَن، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين.

اللهم وفِّق جميعَ وُلاةِ المُسلمين للعملِ بكتابِك وسُنَّة نبيِّك - صلى الله عليه وآله وسلم -، واجعَلهم رحمةً على رعاياهم وشُعوبِهم يا رب العالمين.

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضَاه، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضَاه، اللهم وفِّقه ونائبَيه لما فيه صلاحُ البلادِ والعبادِ، واجعَلهم مفاتيحَ للخيرِ مغالِيقَ للشرِّ برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.

اللهم انصُر إخواننا المجاهدين المُرابِطِين على الحدود، اللهم انصُر إخواننا المجاهدين المُرابِطِين على الحدود، اللهم كُن لهم عَونًا ونصيرًا، ومُؤيِّدًا وظَهيرًا بقوَّتك يا قويُّ يا عزيز.

اللهم اغفِر لنا وارحَمنا، اللهم اغفِر لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين.

اللهم اغفِر لنا وارحَمنا، وعافِنا واعفُ عنَّا، وارزُقنا واجبُرنا، وارفَعنا ولا تضَعنا، وأكرِمنا ولا تُهِنَّا، وكُن معنا ولا تكُن علينا، وانصُرنا ولا تنصُر علينا، اللهم انصُرنا على مَن ظلَمَنا، اللهم انصُرنا على مَن بغَى علينا، اللهم انصُرنا على مَن عادانا، اللهم لا تُشمِت بنا عدُوًّا ولا حاسِدًا برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.

وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمدٍ، وآلِهِ وصحبِه أجمعين.