الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - التوحيد |
وإنما لكل امرئ ما نوى"؛ فكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة إذا كان هذا العمل يفتقر إلى النية.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصاً له الدين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً-.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى والزموا الإخلاص لوجهه في أعمالكم وأقوالكم؛ فقد روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"؛ فكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة إذا كان هذا العمل يفتقر إلى النية.
والنية عند العلماء يراد بها معنيان: أحدهما تمييز العبادات عن العادات؛ كتمييز الغسل عن الجنابة عن غسل التبرد والتنظف، وتمييز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر عن صلاة العصر مثلاً. وتمييز صيام رمضان عن صيام غيره.
والمعنى الثاني للنّية: تمييز المقصود بالعمل هل هو الله وحده، أو لله ولغيره؟ وهذا هو محل الاهتمام ومناط السعادة والشقاوة والثواب والعقاب؛ فقد يعمل الاثنان عملاً واحداً في الصورة ويكون تعبها متساوياً، لكن أحدهما يثاب والآخر لا ثواب أو يعاقب؛ نظراً لاختلاف المقاصد؛ قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء 18: 19] ولهذا قال بعض العلماء: إنما تفاضلوا بالإرادات ولم يتفاضلوا بالصوم والصلاة.
والهجرة من بلاد الكفر إلى بلد الإسلام من أفضل الأعمال لكنها لا تكون كذلك إلا بالنية لا بمجرد الانتقال من بلد إلى بلد من غير قصد أو لمقصود دنيوي؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن هذه الهجرة تختلف باختلاف المقاصد والنيات بها؛ فمن هاجر إلى دار الإسلام حباً لله ورسوله ورغبة في تعلم دين الإسلام وإظهاره حيث كان يعجز عن ذلك في دار الشر - فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله حقاً وقد وعده الله بالثواب العظيم، ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام؛ لطلب دنيا أو للتزوج بامرأة - فهذا ليس بمهاجر إلى الله ورسوله، وإنما هو تاجر أو خاطب.
وقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن اختلاف مقاصد الناس في القتال من الرياء وإظهار الشجاعة والعصبية وغير ذلك؛ أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". وروى النسائي من حديث أبي أمامة قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر؛ ما له؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا شيء"، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا يقبل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه".
ولا شك أن الاستشهاد في سبيل الله، وتعلم العلم النافع وتعليمه وإنفاق المال في سبيل الله من أفضل الأعمال وأشقها على النفوس، لكن إذا ساءت نية القائم بعمل من هذه الأعمال صار من أهل النار؛ فقد روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمها، فقال: ما عملت فيها؟ قال: قاتلت حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت القرآن فيك، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: فما علمت فيها؟ فقال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار".
ولما بلغ معاوية -رضي الله عنه- هذا الحديث بكى حتى غشي عليه فلما أفاق قال: صدق الله ورسوله قال الله عز وجل: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) [هود:15]
قال الإمام ابن رجب رحمه الله ما ملخصه: واعلم أن العمل لغير الله أقسام: فتارة يكون رياء محضاً بحيث لا يراد به سوى مراءاة المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم قال الله عز وجل: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ) [النساء:142] وكذلك وصف الله تعالى الكفار بالرياء المحض في قوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ) [الأنفال:47] وهكذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة والحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة والتي يتعدى نفعها؛ فإن الإخلاص فيها عزيز. وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة، وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه أيضاً وحبوطه، وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأت عليه نيّة الرياء وكان خاطراً ودفعة فإنه لا يضره بغير خلاف، فإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك ويجازي على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف.
فاتقوا الله -عباد الله-، وأخلصوا أعمالكم لله وحده، وابتعدوا عن الرياء والمقاصد الدنيئة؛ فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
عباد الله: إن إخفاء العمل وإسراره بين العبد وبين ربه أدعى إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء؛ وقد جاء في الحديث أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وقال تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) [البقرة:271]
فالمؤمن إذا تبرع لمشروع خيري فإنه لا ينبغي له أن يوافق على الإعلان عنه في الصحف وغيرها إلا إذا كان القصد من ذلك حث الآخرين على التبرع أو كان هذا الإعلان بغير علمه، وبعض الناس إذا عمر مسجداً كتب على بابه: عمر هذا المسجد على نفقة المحسن فلان، وهذا لا ينبغي.
فاتقوا الله -عباد الله-، وأخلصوا لله أعمالكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف :117]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.