المتين
كلمة (المتين) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل على وزن (فعيل) وهو...
العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
إنّ هذه المأساةَ سيأتي يومها لا محالة, ولقد قصّ الله علينا هذه القصص, وحذرنا وخوفنا, فلا عذر لنا في الإصرار على معصيته, والتكاسلِ عن طاعتِه.
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُبْتَدِئِ بِحَمْدِ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْمَدَهُ حَامِدٌ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الرَّبُّ الصَّمَدُ الْوَاحِدُ، ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَالْمَوَاهِبِ الْعِظَامِ.
وأشهد أنّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله, أَرْسَلَهُ بِكِتَابِهِ الْمُبِينِ، الْفَارِقِ بَيْنَ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ، الَّذِي أَعْجَزَتِ الْفُصَحَاءَ مُعَارَضَتُهُ، وَأَعْيَتِ الْأَلِبَّاءَ مُنَاقَضَتُهُ، وَأَخْرَسَتِ الْبُلَغَاءَ مُشَاكَلَتُهُ، فَلَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا. صلى الله عليه وعلى أصحابه وأتباعِه إلى يوم الدين.
أما بعد: إخوة الإيمان، رجلٌ فقير مسكين, طلب من غنيٍّ رفيعِ القدر والمنصب ما يسدّ جوعه, ويتعيّش به, فردّه واحتقره وطرده.
ودارت الأيام, وأصبح الفقير غنيًّا, والغنيُّ فقيرًا ذليلاً حقيرًا, فطلب من الرجل الذي كان قد سأله شربة ماء, فامتنع من إعطائه, مع شدة حاجة السائل, وغنى المسؤول! فهذا من العجائب!.
وأعجب من هذا: المكان الذي وقع فيه السؤال والجواب, فالسائل سأل شربة الماء وهو في حفرة من حفر النار, والمسؤول على قصره وبين خدمه وأزواجه في الجنان! إنه مشهد واحدٌ من مشاهد يوم القيامة!.
إنّ هذا الرجل هو واحدٌ من ملايين البشر, الذين اغتروا في دنياهم, وأُعجبوا في مناصبهم, فتكبروا على خالقهم فلم يعبدوه, وتكاسلوا عن الطاعات, وانشغلوا بالتوافه والْمُلْهيات.
وتكبروا على الخلق باحتقارهم، ومنعهم حقوقهم, وظلمِهم لمن تحت أيديهم من الخدم وغيرهم؛ فلاقوا جزاءهم يوم القيامة, وأُدخلوا نارًا وقودها الناس والحجارة, وإِنَّ أَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا: رَجُلٌ يُجْعَلُ لَهُ نَعْلَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ, ويكفي في هولِها قولُه -تعالى-: (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) [الحج:19-22].
فلا يحتمل أهلُ النار هذا العذاب الأليم, فيسألون الله أن يُعيدهم إلى الدنيا ليعملوا صالحًا, ويَعِدُونه بألا يُخالفوا أمره, وألا يفعلوا معصية أبدًا, فيُنادون وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها: (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [فاطر:37]؛ فَيُجَيبهم اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- بِقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر:37].
أمَا عمَّرناكم حتى تجاوزتم الأربعين والخمسين والستين عامًا؟ ورأيتم الشيب قد صبغ شعوركم, فما زادكم طول العمر إلا سفهًا وضلالاً, فلم تكُفُّوا أعينكم عن مشاهدة الحرام, ولم تكُفُّوا آذانكم عن سماع المجون والغيبة والنميمة.
فحينما سمع أهل النار هذا الردّ الصريح, دعوه ووعدوه بعدم الرجوع إلى ما كانوا عليه من قبل, فقالوا: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) [المؤمنون:107]؛ فيُجيبهم الله -تعالى- بقوله: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون:108].
فحينها ينقطع رجاؤهم من الله -تعالى-, وجعلوا يُنادون خَزَنَةَ جَهَنَّمَ: (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ) [غافر:49]، فلم يجيبوهم ما شاء الله, فلما أجابوهم بعد زمن طويلٍ قالوا: (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) [غافر:50].
ومع شدّة العذاب وإحراق النارِ لهم يعطشون عطشًا عظيمًا, فيَسْتَغِيثُون فيُغَاثُون بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ, ويُسقون مَاءً حَمِيمًا يُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُمْ.
فحينما يئسوا من الخزنة, ذهبوا إلى رئيسهم وطلبوا منه آخر طلب، وأعجَبَه, وهو أن يُعجلّ بموتهم وفنائهم! فنادوا مالكا: (يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) [الزخرف:77]، فيأتيهم الجواب بلا تردد ولا رحمة: (إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) [الزخرف:77].
لم يسألوه طعامًا ولا شرابًا, ولم يسألوه الخروج من النار, فهذا أمر قد يَئِسوا منه أشدّ اليأس, ولكن سألوه الموت والإعدام! إنّ هذه الكلمةَ المخيفة في الدنيا, تُصبح أعظم أمنية لأهل النار.
فيكادون ييأسون من أيّ خلاص أو تخفيف, فيتذكرون أنّ لهم أصحابًا في الدنيا كانوا صالحين, ويتذكرون طيب تعاملهم, وحسن أخلاقهم, ولا يرونهم معهم, فيُوقنون أنهم في الجنة, فيُنادون عليهم هذا وهم في النارِ تُقطعهم وتُحرقهم, ولكنهم ما إن يتمكنوا من الكلام حتى يُنادوا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ: (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) [الأعراف:50]، أنتم في الجنة منعمون لا تُحرمون من أي شيء, نسألكم شربة ماء, أو شيئًا يسيرًا مما رزقكم الله، فيأتيهم الجواب القاصم: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) [الأعراف:50].
حينها ييأسون يأسًا لا رجاء بعده, فيبدؤون بلوم بعضهم بعضًا, ولعنِ بعضِهم بعضًا, فلا يُغني ذلك عنهم شيئًا, فيتوجهون باللوم إلى إبليس, الذي كان السببَ في عذاب أهل النار كلّهم, إنسِهم وجِنِّهم, فيجتمعون عليه لومًا وسبًّا وعتابًا, فيقول لهم: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) [إبراهيم:22].
إنّ هذه المأساةَ سيأتي يومها لا محالة, ولقد قصّ الله علينا هذه القصص, وحذرنا وخوفنا, فلا عذر لنا في الإصرار على معصيته, والتكاسلِ عن طاعتِه.
وتأملوا كيف ردّ الله سؤال أهلِ النار, ولم يستجب لدعائهم, ولو كان هذا السؤال والدعاء في الدنيا لقربهم وأحبهم, وأجابهم ولم يُخيبهم.
فيا أخي المسلم: اشبع من سؤال الله اليوم, فقد يأتي يوم تسأله فلا يُجبيك, وتدعوه فلا يُعطيك, وقد تضطر إلى سؤال غيرك فلا يكترث بك.
فعفر وجهك في التراب، وقل: يا ألله! حينما تسمع صوت المؤذن يُناديك فقل: لبيك يا ألله. وحينما تعصي ربك فقل: أستغفرك يا ألله.
لِنلْهج بالدعاء, ولْنُكثر من الثناء عليه -سبحانه-, لِنَملأ أوقاتنا بذكره وشكره وتعظيمه واستغفارِه.
اللهم يا خالق الأكوان, ويا منزل القرآن, إنا قد رضينا بك ربّا, وبنبيك رسولا, وبالإسلام دينا, نسألك بإيماننا بك, وبتوحيدنا لك, أنْ ترحمنا يوم الفزع الأكبر, وأن تظلنا بظلك يوم تدنو الشمس منا, إنك على كل شيء قدير.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ذي الفضل والإحسان, والجود والغفران, والصلاة والسلام على سيّد الإنس والجان, ومن تبع سنته ومات على الإسلام.
أما بعد, فلْنتق الله يا أمة الإسلام, ولْنعمل العمل الصالح الذي يُنجينا من النار, فالخطبُ -واللهِ- عظيمٌ جدًّا.
وقد أكّد الله -تعالى- شأن يوم القيامة, حتى إنه أقسم قسمًا عظيمًا بذلك فقال: (فَوَرَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات:23].
يُقْسِمُ -تَعَالَى- بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ, أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ.
إنه غنيّ -سبحانه- عن الإقسام, ولا حاجة له إلى ذلك, ولكن هذا من رحمته وكرمه, ليُثير في نفوسنا تعظيمَه وطاعتَه, واجتنابَ معصيتِه وسخطِه.
فيا من ابتُليت بمعصيةٍ أصررت عليها, أو حاولت الخلاص منها فما قدرت, اعلم أنّ صبرك على ترك المعصية أهونُ وأسهلُ من صبرك على النار.
يا من ظلمت أحدًا من الناس بغير حقّ, أو اغتبته أو قاطعته, حاسب نفسك اليوم قبل أن تُحاسب غدًا, وأرغم نفسك على طلب المسامحة والعفو والصفح, قبل أن تُرغم على دخولِ نارٍ لا يقوى جسمك على احتمالها.
يا من أعطاك علماً ونورًا وصلاحًا, زكّ علمك, وانشره بين الناس, وجاهد نفسك على بذل علمك بما تستطيع, وكلما كثر علمك, وكثر اطلاعك وقراءتك وحضورك لمجالس العلماء والمشايخ, كلما عظم الْحِمْلُ عليك, وثقلت الأمانة لديك, وانظر إلى أوقاتك الكثيرة, التي أضعتها بالقيل والقال, والمجالس والنزهات والاستراحات, فجِدّ واجتهد, وانشر علمك واصبر على ذلك؛ فإنَّ كَاتِمَ العلم يُلجم بلجامٍ من نار يوم القيامة.
وهذا الإمام العلامةُ محمد بن عثيمين -رحمه الله تعالى-, في آخر حياته والمرض قد أنهكه, ولم يتجاوز وزنه ثلاثين كيلو, أبى إلا أن يُلقي درسه في مكة -شرفها الله- والأطباء مِن حولِه يُمِدُّونه بِمَا يحتاج مِنْ تنفّسِ وغيرِه.
فما عذر طلاب العلم, الذين قضوا سنواتٍ في طلب العلم في الجامعات, وفي مجالس العلم في المساجد, وهم في صحة وقوة ونشاط؟.
نسأل الله -تعالى- أنْ يهدينا صراطه المستقيم, وأنْ يُعيذنا من الشيطان الرجيم, إنه جوادٌ كريم.