المقتدر
كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...
العربية
المؤلف | محمد بن عبدالرحمن محمد قاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحياة الآخرة |
ذكر العلماء أن النفوس -سِيَّما في هذه الأزمان، وقبلها بأزمان- قد غلب على كثير منها الكسل والتواني، واسترسلت في شهَواتها وأهوائها وتمنت على الله الأماني. والشهوات المحرمة لا يُذهبها من القلوب إلا أحد أمرين: إما خوفٌ مزعج محرق، أو شوق مبهج مقلق، فذلك -بمشيئة الله- هو القامع للنفوس عن غيها وفسادها، والباعث لها على المسارعة إلى فلاحها ورشادها.
الحمد لله ذي العزِّ المجيد، المبدئ المعيد، المكرم لمن خافه واتقاه بدار لا يفنى نعيمها ولا يَبيد، المنتقم ممن عصاه بالنار بعد الإنذار بها والوعيد، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فُصّلَت:46].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا كفو، ولا ضد، ولا نديد. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الساعي بالنصح للقريب والبعيد، المحذِّر للعصاة من نارٍ تلَظَّى بدوام الوقيد. صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً لا تزال على كَرِّ الجديدَيْن في تجديد، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإن الله سبحانه خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه، ويحبوه، ويخافوه خوف إجلال، ونصب لهم الأدلة على عظمته وكبريائه ليهابوه، ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه ليتقوه بصالح الأعمال؛ ولهذا كرر سبحانه وتعالى في كتابه ذكر النار، وما أعده فيها لأعدائه من العذاب والنكال، وما احتوت عليه من الزَّقُّوم والضَّريع والحميم والسلاسل والأغلال، إلى غير ذلك مما فيها من العظائم والأهوال، ودعا عباده بذلك إلى خشيته وتقواه، والمسارعة إلى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه، واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه.
عبادَ الله: مَنْ تأمَّل القرآن الكريم وأدار فكره فيه، وكذلك الأحاديث الصحيحة التي هي مفسرة للكتاب، وجد من ذلك العجب العجاب؛ وكذلك سير السلف الصالح من أهل العلم والإيمان، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ من تأمَّلَهم علِم أحوال القوم وما كانوا عليه من الخشية والخوف والإخبات، وأن ذلك هو الذي رقَّاهم المقاماتِ السَّنِيَّات، من شدة الاجتهاد في الطاعات، والانكفاف عن دقائق الأعمال المكروهات، فضلاً عن المحرمات؛ ولهذا قال بعض السلف: خوف الله حجَبَ قلوب الخائفين عن زهرة الدنيا وعوارض الشهوات.
عبادَ الله: ذكر العلماء أن النفوس -سِيَّما في هذه الأزمان، وقبلها بأزمان- قد غلب على كثير منها الكسل والتواني، واسترسلت في شهَواتها وأهوائها وتمنت على الله الأماني. والشهوات المحرمة لا يُذهبها من القلوب إلا أحد أمرين: إما خوفٌ مزعج محرق، أو شوق مبهج مقلق، فذلك -بمشيئة الله- هو القامع للنفوس عن غيها وفسادها، والباعث لها على المسارعة إلى فلاحها ورشادها.
والخوف أفضل من الرجاء ما كان العبد صحيحًا، فإذا نزل الموت فالرجاء أفضل. والقَدْرُ الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإذا زاد على ذلك بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات، كان ذلك فضلاً محمودًا.
وقد ضمن الله سبحانه الجنة لمن خافه من أهل الإيمان، قال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرَّحمن:46] قال مجاهد: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله فيتركها. وعن الحسن البصري قال: قالت الجنة: يا رب لمن خلقتني؟ قال: لمن يعبدني وهو يخافني. وقال أبو سليمان الداراني: أصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله، وكل قلب ليس فيه خوف الله فهو قلب خرب.
عباد الله: وقد دل القرآن الكريم، والأحاديث، والإجماع، على وجود النار، وأنها مخلوقة الآن، قال الله تعالى عن آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غَافر:46]. وقال: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) [المطفّفِين:7] وسجِّين أسفل الأرض.
وجاءت أحاديثُ مبيِّنةٌ شِدَّةَ حَرِّها، وبُعد قعرها، وسَعَتَها، وتعظيم الكافر فيها؛ وأهونهم عذابًا، أجارنا الله وإياكم منها برحمته وكرمه. منها ما رواه أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ناركم هذه التي توقِدون جزءاً من سبعين جزءٍ من نار جهنم". قال: والله إن كانت لكافية يا رسول الله! قال: "فإنها فُضلت عليها بتسعة وستين جزءاً، كلها مثل حرها" متفق عليه.
وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة، قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا فسمع وجبة -يعني صوتًا- فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أتدرون ما هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: "هذا حجر أرسل في جهنم منذ سبعين خريفًا -يعني سنة- فالآن انتهى إلى قعرها".
وروى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "ضِرْسُ الكافرِ -أو نابُ الكافر- مثلُ أحد، وغِلْظُ جلده مسيرة ثلاث" وروى مسلم أيضًا عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع".
وروى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة لرجل يوضع في أخمس قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحدًا أشدُّ منه عذابًا وإنه لأهونهم عذابًا".
وقد حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمَّتَه النار، وبالغ في التحذير، وأكثر التعوذ منها، وأمر به فمن ذلك ما روى عدي بن حاتم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا النار، وأشاح. ثم قال: اتقوا النار، ثم أعرض وأشاح ثلاثًا حتى ظننا أنه ينظر إليها. ثم قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة" أخرجاه في الصحيحين. وفي سنن أبي داود وابن ماجه والبزار عن جابر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: "كيف تقول في الصلاة؟" قال: أتشهَّد، ثم أقول: اللَّهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وهل أدندن أنا ومعاذ إلا أن نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار؟".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما مثَلي ومثَل أمتي كمثل رجل استوقد نارًا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذا الدواب يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، قال: فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحُجَزكم: هَلُمَّ عن النار! هَلُمَّ عن النار! فتغلبوني وتقتحمون فيها".
وأخرج البزار وأبو يعلى من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما استجار عبد من النار سبع مرات إلا قالت النار: يا رب! إن عبدك فلانًا استجار مني فأَجِرْهُ، ولا سأل عبدٌ الجنة سبع مرات إلا قالت الجنة: يا رب! إن عبدك فلانًا سألني فأدخِله الجنة".
والصحابة -رضي الله عنهم- مع فضلهم، وكذا التابعون لهم بإحسان، يخافون من النار، والخوف منها سبب النجاة، وكانوا يربون أنفسهم على الخوف منها؛ روى ابن المبارك بسنده قال: لما نزلت هذه الآية: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) [مريَم:71] ذهب الصحابي عبدالله بن رواحة إلى بيته فبكى، وجاءت المرأة فبكت، وجاءت الخادمة فبكت، ثم جاء أهل البيت فجعلوا يبكون كلهم، فلما انقضت عبرته قال: يا أهلاه! ما يبكيكم؟ قالوا: لا ندري، ولكنا رأيناك تبكي فبكينا. قال: آية نزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينبؤني فيها ربي أني وارد النار، ولم ينبئني أني صادر عنها.
وروى الإمام أحمد بسنده عن الحسن قال: قال رجل لأخيه: قد جاءك عن الله أنك وارد جهنم؟ قال: نعم. قال: فأيقنتَ بالورود؟ قال: نعم. قال: فأيقنت وصدقت بذلك؟ قال: نعم. وكيف لا أصدِّق، وقد قال الله عز وجل: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا) [مريَم:71] قال: فأيقنتَ أنك صادر عنها؟ قال: والله ما أدري أأصدر عنها، أم لا؟ قال: ففيم التثاقل؟ وفيم الضحك؟ وفيم اللعب؟ قال: فما رؤي ضاحكًا حتى لحق بالله.
وعوتب يزيد الرقاشي على كثرة بكائه، وقيل له: لو كانت النار خلقت لك ما زدت على هذا، فقال: وهل خُلقت النار إلا لي ولأصحابي ولإخواننا من الجن والإنس؟ أما تقرأ (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ؟) [الرَّحمن:31] أما تقرأ: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ؟) [الرَّحمن:35] فقرأ إلى قوله: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ) [الرَّحمن:44].
وقال الحسن: كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ربما توقد له النار ثم يدني يديه منها، ثم يقول: يا ابن الخطاب! هل لك على هذا صبر؟! وكان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح بالليل فيضع أصبعه فيه، ثم يقول: حِسْ، حِسْ. ثم يقول: يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ وخرج ابن أبي الدنيا من رواية سعد بن الأخرم، قال: كنت أمشي مع ابن مسعود فمر بالحدَّادين وقد أخرجوا حديدًا من النار فقام ينظر إليه ويبكي.
هذا تفكير أولئك القوم، ومدى خوفهم من النار التي تقدم وصفها، وإنذار النبي عنها، وتأثرهم الشديد عند ذكرها.
اللهم أجِرنا من النار، واغفر لنا ذنوبنا يا غفار، وأدخلنا برحمتك دار النعيم، يا بَر، يا رؤوف، يا رحيم. واتقوا الله عباد الله واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله. أعوذ بالله من الشطيان الرجيم (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) [الأعلى:
9] | إلى آخر السورة |
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أعد الجنة لعباده المؤمنين نزلا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نهى عن طاعة من أغفل قلبه عن ذكر ربه واتبع هواه وكان أمره فُرُطا.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: "عجبت من الجنة كيف نام طالبها؟ وعجبت من النار كيف نام هاربها؟" اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحاب الذين عرفوا الله حق معرفته، وقدَّروه حَقَّ قدره، وجعلوا الجنة والنار نصب أعينهم، فاستقامت أعمالهم، فرضي الله عنهم ورضوا عنه.
أما بعد: فيا عباد الله! روى البخاري ومسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اشتكت النار إلى ربها فأذن لها بنفَسَيْن في كلِّ عام: نفَسٍ في الشتاء، ونفس في الصيف. فأشدُّ ما تجدون من الحر من سَمُومها، وأشد ما تجدون من البر من زمهريرها" وفي رواية لمسلم: "فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نَفَس جنهم، وما وجدتم من حر أو حَرور فمن نفس جهنم" فشدة الحر وشدة البر يذكران بحر النار وزمهريرها لنتقيها عند كل عمل وقول مفروض أو محرَّم، (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً) [الواقِعَة:73] وأكثِروا -عباد الله- من الاستعاذة بالله من النار؛ قال عطاء الخراساني: من استجار بالله من جهنم سبع مرات قالت جهنم: لا حاجة لي فيك.
وقال تعالى في وصف عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) [الفرقان:65-66]، وأخبر أن من دعائهم: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [آل عمران:191-192]، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعًا: "إن المؤمن لا تسكن روعته ولا يأمن اضطرابه حتى يخلف جسر جهنم خلف ظهره".
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن أحسن الحديث ...