الجواد
كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
الجنةُ هي دارُ الجزاءِ العظيم، والثوابِ الجزيل، الذي أعدَّه اللهُ لأوليائه وأهلِ طاعته، وهي نعيمٌ كاملٌ لا يشوبُه نقصٌ، ولا يعكر صفوَه كدرٌ، والحديث عن الجنَّةِ حديثٌ ذُو شجون، يحبُّه المشتاقون، ويحرصُ عليه المتقون؛ فهي دارُ الْحُسنَى والزيادة، أعدَّها اللهُ تعالى لعبادِه المؤمنين، وأكرمهم فيها بالنظرِ إلى وجهه الكريم، فيها من النعيمِ المقيمِ الأبديِّ ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله ذي الجلال والإكرام، الكريمِ المنان، القائلِ في كتابه (..فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ..) [آل عمران:185]، خَلق الإِنسانَ وأَنشأَ داراً لِحُلُولِه، وجعل الدنيا مرحلةً لِنُزولِه، فتوَطَّنها مَنْ لم يعرفْ شَرفَ الأخرى لخُمُوُلِه، أمَّا الموفَّقُ فَعَرَفَ غرورَها فلمْ ينخدِعْ بمُثُولِه، وسابَقَ إلى مغفرةٍ من الله وجنةٍ عرضُها السماء والأرضُ أعِدَّتْ للذينَ آمنوا بالله ورسولِه.
وأشْهدُ أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشْهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه القائل فيما يرويه عن ربه: "أعددتُ لعباديَ الصالحين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلبِ بشر"، صلَّى الله عليه، وعلى آله وأصحابِه والتابعينَ لهم بإحسانٍ وسلَّم تسليماً مزيدا، أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله جل وعلا، والمسارعة إلى طلبِ مغفرتِه، ونيلِ جنةٍ عرضُها السموات والأرض أُعدِّت للمتقين.
عباد الله: الجنةُ هي دارُ الجزاءِ العظيم، والثوابِ الجزيل، الذي أعدَّه اللهُ لأوليائه وأهلِ طاعته، وهي نعيمٌ كاملٌ لا يشوبُه نقصٌ، ولا يعكر صفوَه كدرٌ، يقول صلى الله عليه وسلّم: "ألاَ هَلْ من مُشَمِّرٌ إلى الجنةِ، فإنَّ الجنةَ لا خطر لها، هي وَرَبِّ الكعبةِ نورٌ يَتَلأْلأُ وريحانةٌ تَهْتزُّ وقصرٌ مشِيدٌ ونهرٌ مطَّردٌ وثَمَرةٌ نضِيْجَةٌ وزوجةٌ حسناءُ جميلةٌ وحُلَلٌ كثيرةٌ ومُقَامٌ في أبدٍ في دارٍ سليمةٍ وفاكهةٌ وخضرةٌ وحَبْرةٌ ونعمةٌ في مَحَلَّةٍ عاليةٍ بهيَّةٍ"، قالوا: يا رسولَ الله نحن المشمِّرون لها. قال: "قولوا إنْ شاء الله"، فقال القوم: إنْ شاء الله" (رواه ابن ماجةَ والبيهقيُّ وابنُ حبَّانَ في صحيحهِ).
عباد الله: إنَّ الحديثَ عن الجنَّةِ، حديثٌ ذُو شجون، يحبُّه المشتاقون، ويحرصُ عليه المتقون، يقول ابنُ القيم -رحمه الله- متحدثاً عنها: "وكيفَ يَقْدرُ قدرَ دارٍ غرسَها اللهُ بيده وجعلَها مقراً لأحبابِه، وملأها من رحمتِه كرامتِه ورضوانِه، ووصفَ نعيمَها بالفوزِ العظيمِ، ومُلْكها بالملكِ الكبيرِ، وأودعَها جميعَ الخيرِ بحذافيرِه، وطهَّرها من كلِّ عيبٍ وآفةٍ ونقصٍ" انتهى كلامه رحمه الله.
فهي دارُ الْحُسنَى والزيادة، أعدَّها اللهُ تعالى لعبادِه المؤمنين، وأكرمهم فيها بالنظرِ إلى وجهه الكريم، فيها من النعيمِ المقيمِ الأبديِّ ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، قال عنها خالقُها جلَّ وعلا: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17].
وهي البشارةُ الطيبةُ لعبادِه المتقين، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ) [الدخان:51-55].
وهي دارُ الحبورِ والسُرورِ المقيمِ، (ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ) [الزخرف:70-73].
عباد الله: ومن أسمائِها -جعلنا الله وإياكم من أهلها -: أنَّها دارُ الخلدِ، ودارُ المقامةِ، وجنةُ المأوى، وجناتُ عدنٍ، وجناتُ النَّعيمِ، ودارُ السلامِ، والمقامُ الأمينُ.
وأما بناؤها: فهي ".. لبنةٌ من فضةٍ، ولبنةٌ من ذهبٍ، وملاطُها المسكُ الأذفرُ، وحصباؤها اللؤلؤُ والياقوتُ، وتربتُها الزعفرانُ، من يدخلها ينعمْ لا يبأسْ، ويخلدْ لا يموتُ، لا تبلى ثيابُهم، ولا يفنى شبابُهم" (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وفي الجنةِ "..خيمةٌ من لؤلؤةٍ مجوفةٍ، عرضُها ستونَ ميلًا، في كلِّ زاويةٍ منها أهلٌ ما يرون الآخرين، يطوفُ عليهم المؤمنُ" (رواه مسلم).
وأما أبوابُها: فهي ثمانيةُ أبوابٍ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنّ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنّ مُحَمّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنّ عِيسَىَ عَبْدُ اللّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنّ الْجَنّةَ حَقّ، وَأَنّ النّارَ حَقّ، أَدْخَلَهُ الله مِنْ أَيّ أَبْوَابِ الْجَنّةِ الثّمَانِيَةِ شَاءَ" (رواه البخاري ومسلم).
وأما درجاتُها: فيقولُ -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة مائةَ درجةٍ، أعدَّها اللهُ للمجاهدينَ في سبيلِه، كلُّ درجتينِ ما بينهما كما بين السماءِ والأرضِ، فإذا سألتمْ اللهَ فسلوه الفردوسَ، فإنه أوسطُ الجنةِ، وأعلى الجنةِ، وفوقه عرشُ الرحمنِ، ومنه تفجَّرُ أنهارُ الجنة" (رواه البخاري).
وأما أنهارها أحبتي في الله: فهي أنهارٌ من ماءٍ غير آسنٍ، وأنهارٌ من لبنٍ لمْ يتغيرْ طعمُه، وأنهارٌ من خمرٍ لذةٍ للشاربين، وأنهارٌ من عسلٍ مصفى، ونهرُ الكوثرِ، سُئلَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ما الكوثرُ؟ قال: "ذاكَ نهرٌ أعطانيه اللهُ -يعني في الجنةِ -أشدُّ بياضاً من اللبنِ، وأحلى من العسلِ، فيه طيرٌ أعناقُها كأعناقِ الجُزُر" (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وأما أشجارُها: ففيها ".. شجرةٌ يسيرُ الراكبُ في ظلِّها مائةَ عامٍ، لا يقطعُها، واقرءوا إن شئتم: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ)" (رواه البخاري)، وإن أشجارها دائمةُ العطاءِ قريبةٌ دانيةٌ مذلَّلة.
وأما خيامُها: فـ"للمؤمِنِ في الجنة لخيمةٌ من لؤلؤةٍ واحدةٍ مجوفةٍ طولُها في السماءِ ستونَ ميلاً للمؤمنِ فيها أهلُون يطوفُ علِيهمْ فلا يَرَى بعضُهم بعضاً" (متفق عليه).
وأما أهلُ الجنةِ: فهم ".. جُردٌ مُردٌ كُحلَى لا يفنى شبابُهم، ولا تبلى ثيابُهم" (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وأولُ زمرة يدخلون الجنةَ على صورةِ القمرِ ليلةَ البدرِ، لا يبولونَ ولا يتغوطونَ ولا يتمخطونَ ولا يتفلونَ، أمشاطُهم الذهبُ، ورشحُهم المسكُ، ومباخرُهم من البخورِ.
وأما نسائُها: فـ"لو أنَّ امرأةً من نساءٍ أهلِ الجنةِ اطَّلعتْ إلى الأرضِ لأضاءتْ ما بينهما، ولملأتْ ما بينهما ريحاً، ولنصيفُها -يعني الخمار- خيرٌ من الدنيا وما فيها" (رواه البخاري).
وأولُ من يدخُلها: رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، قال عليه الصلاة والسلام: "آتِي بَابَ الجَنَّةِ يَومَ القِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ، فَيَقُولُ الخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟، فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَ-قُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ" (رواه مسلم).
وقال أيضاً -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إضَاءَةً، لا يَبُولُونَ، وَلا يَتَغَوَّطُونَ، وَلا يَتْفِلُونَ، وَلا يَمْتَ-خِطُونَ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ المِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الألُوَّةُ، وَأَزْوَاجُهُمُ الحُورُ العِينُ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أَبِيْهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعاً فِي السَّمَاءِ" (متفق عليه).
وأما نكاحُ أهلِ الجنةِ: فيقولُ -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسُ محمدٍ بيدِه إنَّ أحدَهُمْ -يعني أهلَ الجنةِ- ليُعْطَى قوةَ مئةِ رجلٍ في الأكل والشربِ والجماعِ والشهوةِ، تكونُ حاجةُ أحدهم رَشْحاً يفيضُ مِنْ جلودِهم كرشْحِ المسْكِ فَيَضْمُر بطنُه" (رواه أحمد والنسائي).
أيها المؤمنون: وأما آخر أهل الجنة دخولاً: فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأعرفُ آخرَ أهلِ النارِ خروجاً من النارِ. رجلٌ يخرجُ منها زحفًا. فيقالُ له: انطلقْ فادخلِ الجنةَ. قال فيذهبُ فيدخلُ الجنةَ. فيجدُ الناسَ قد أخذوا المنازلَ. فيقالُ له: أتذكرُ الزمان الذي كنتَ فيه؟ فيقولُ: نعم. فيقال له: تمنَّ. فيتمنى. فيقالُ له: لكَ الذي تمنيتَ وعشرةُ أضعافِ الدنيا. قال فيقولُ: أتسخر بي وأنت الملك؟" قال: فلقد رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضحكَ حتى بدتْ نواجذه. (رواه مسلم).
أما خدمُ أهلِ الجنةِ: فهم الولدانُ المخلدون، (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا) [الإنسان:19]، لا تزيد أعمارهم عن تلك السن، ينتشرون في قضاء حوائج السادة.
وأما سُوقُ أهلِ الجنةِ: فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ في الجنة لسُوقاً يأتونَها كُلَّ جمعةٍ فتَهبُّ ريحُ الشَّمالِ فتحثو في وجوهِهِم وثيابِهم فيزدادُونَ حُسناً وجَمَالاً، فيرجعونَ إلى أهلِيْهمْ فيقولُونَ لهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدَنا حسنا وجمالاً" (رواه مسلم).
ومن أعظم نعيمِ أهلِ الجنةِ رؤيةُ وجهِ اللهِ الكريمِ: وصدقَ اللهُ العظيمُ (وُجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ * إلى ربهَا ناظرَة) [القيامة: 22، 23]، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ نادىَ منادٍ يا أهلَ الجنةِ إن لكم عندَ الله مَوْعِداً يريدُ أن يُنْجِزَكُمُوهُ، فيقولونَ: ما هُو ألَمْ يُثَقِّلْ موازينَنَا ويُبَيِّضْ وجوهَنا ويدخلْنا الجنةَ ويزحْزحْنا عن النار؟ قال: فيكشفُ لهم الحِجَاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحبَّ إليهمْ من النظرِ إليه ولا أقَرَّ لأعينِهم منهُ" (رواه مسلمٌ).
وفي رواية: أنَّ الله تعالى يقول لأهلِ الجنةِ: "أحِلُّ عليكم رضوانِي فلا أسخطُ عليكم بعدَه أبداً".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِين * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِين * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِين * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِين * لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيم* فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم) [الدخان: 51-57].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على فضلِه وإحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيماً لشأنه، وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله جل وعلا، واعلموا أن أهلَ الجنة يبقون خالدين فيها أبدا: يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دخل أهل الجنةِ الجنّة ينادِي منادٍ: إن لكمْ أنّ تَصِحُّوا فلا تَسْقموا أبداً وإن لكم أن تَحْيَوْا فلا تموتوا أبداً، وإنَّ لكم أن تشِبُّوا فلا تَهرموا أبداً. وإنَّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، وذلك قولُ الله عز وجل: (وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:43]".
فتفكروا يا عباد الله في أهلِ الجنةِ وفي وجوهِهم نضرةُ النعيمِ يُسقونَ من رحيقٍ مختومٍ، جالسين على منابرِ الياقوتِ الأحمرِ في خيامٍ من اللؤلؤِ الرطبِ الأبيضِ فيها بُسُطٌ من العبقريِ الأخضرِ، متكئين على أرائِكَ منصوبةٍ على أطرافٍ أنهارٍ مطردةٌ بالخمرِ والعسل محفوفةٌ بالغلمانِ والولدانِ، مزينةٌ بالحورِ العينِ من الخيراتِ الحسانِ، كأنهنَّ الياقوتُ والمرجانُ، لم يطمثهن إنسٌ قبلهم ولا جانٌ، يمشينَ في درجاتِ الجنانِ.
إذا اختالتْ إحداهُن في مشيها حملَ أعطافَها سبعون ألفًا من الولدانِ، عليها من طرائفِ الحريرِ الأبيضِ ما تتحيرُ فيه الأبصارُ مكللاتٌ بالتِّيجانِ المرصعةِ باللؤلؤِ والمرجانِ شكلاتٌ غنجانٌ عطراتٌ آمناتٌ من الهرمِ والبؤسِ مقصوراتٌ في الخيامِ في قصورٍ من الياقوتِ بُنيتْ وَسطَ روضاتِ الجنانِ، قاصراتٌ الطرفِ عين، ثمَّ يُطافُ عليهم وعليهنَّ بأكوابٍ وأباريقَ وكأسٍ من معينٍ بيضاء لذةٍ للشاربين، ويطوفُ عليهم خدامٌ وولدانٌ كأمثالِ اللؤلؤِ المكنونِ جزاءً بما كانوا يعملون.
في مقامٍ أمينٍ في جناتٍ وعيون ينظرونَ فيها إلى وجهِ الملكِ الكريمِ، وقد أشرقت في وجوههم نضرةُ النعيمِ، وبأنواعِ التحفِ من ربهم يتعاهدون؛ فهم فيما اشتهتْ أنفسُهم خالدون، وهم فيها يتنعمونَ ويأكلونَ من أطعمتِها ويشربونَ من أنهارِها، أراضيها من فضةٍ وحصباؤها مرجانٌ وعلى أرضٍ ترابُها مسكٌ أذفرُ ونباتُها زعفرانٌ، ويُمطرونَ من سحابٍ فيها من ماءِ النسرين على كثبانِ الكافورِ ويُؤتون بأكوابٍ من فضةٍ مرصعةٍ بالدرِّ والياقوتِ والمرجانِ ، فيا عجبًا لمن يؤمنُ بدارٍ هذه صفتُها ويوقنُ بأنه لا يموتُ أهلُها كيف يأنسُ بدارٍ قد أذن اللهُ في خَرابِها ويتهنأُ بعيشٍ دونها؟
اللَّهُمَّ أحِلَّ علينا رضوانَك، وارزقنا الخُلْدَ في جنانِك، وامنن علينا بلَذَّة النظرِ إلى وجهِك والشوقِ إلى لقائِك من غيرِ ضرَّاءَ مُضِرَّةٍ ولا فتنةٍ مُضلةٍ.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
وصف نعيم الجنة وصف نعيم الجنة