اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | أحمد عماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
حديثنا اليوم عن خلق ذميم ووصف قبيح، مزيل للنعم، ومبيد للأمم، ومستوجب لمقت الله وغضبه وعقابه، لا يتصف به إلا متكبر مغرور، جاحد لفضل خالقه وعطائه؛ إنه جحود النعم، وكفران النعم، داء...
الخطبة الأولى:
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
نواصل حديثنا في التحذير من مساوئ الأخلاق وقبيح الصفات، وحديثنا اليوم عن خلق ذميم ووصف قبيح، مزيل للنعم، ومبيد للأمم، ومستوجب لمقت الله وغضبه وعقابه، لا يتصف به إلا متكبر مغرور، جاحد لفضل خالقه وعطائه؛ إنه جحود النعم، وكفران النعم، داء ابتلي به كثير من الخلق إلا من رحم الله -عز وجل-. فكم من أناس قد جحدوا فضل الله عليهم، وكفروا بأنعم الله وآلائه وعطائه، وسخروا نعم الله في معصيته، والاعتراض على شرعه، والعدوان على عباده. مع أن الذي يدعو إليه العقل السليم، ويحث عليه الشرع الحكيم؛ أن يكون العبد معترفا بفضل الله وجوده وكرمه، شاكرا لربه على نعمه وعطائه، مسخرا نعمَ الله في طاعته وعبادته.
فكم من نعمة أنعم الله بها على عباده: نعمة الإيمان والإسلام، ونعمة الصحة العافية، ونعمة العقل والعلم، ونعمة الأمن والسلام، ونعمة المأكل والمشرب، ونعمة المسكن والملبس والمركب، ونعمة الزواج والذرية والقرابة والصداقة، ونعمة الوظيفة والمنصب، ونعمة السمع والبصر واللسان واليدين والقدمين، وغير ذلك كثير؛ كما قال سبحانه: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم: 34]، وقال عز وجل: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ) [النحل: 53] فما من نعمة ظاهرة أو باطنة، عامة أو خاصة، كبيرة أو صغيرة إلا وهي من عند الله الكريم الرحيم بعباده، فله الحمد والشكر، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه سبحانه؛ روى مسلم في صحيحه عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، قَالَ: "الْحَمْدُ لِلهِ الذِي أطْعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكَفَانَا وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لاَ كافي لَهُ وَلاَ مُؤْوِيَ".
فمن الإيمان والطاعة والذكر: دوامُ الشكر والحمد والثناء على الله -عز وجل- باللسان والقلب والجوارح. فإن شكر الله -تعالى- على نِعَمِه وعطائه حافظٌ للنعم الموجودة، وجالبٌ للنعم المفقودة، والنعمة إذا شُكرت قرَّت، وإذا كُفِرت فرَّتْ، قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "عليكم بملازمة الشّكر على النّعم، فقلّ نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم"، وقال رحمه الله: "من عَرَف نعمة الله بقلبه، وحمِده بلسانه، لم يستتمّ ذلك حتّى يرى الزّيادة؛ لقول الله -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
فالعقل اللبيب مَن شكر الله -تعالى- على نعمه؛ فسخرها في طاعة الله ومرضاته، ووظفها فيما ينفعه في دنياه وفي أخراه.
والجاهل السفيه مَن جَحد نعمة الله، ووظفها في معصية الله، وسخرها فيما يَضُرّه في دنياه وفي أخراه.
كثير من الناس يجحدون نعم الله ويُنكِرونها، ولا يعترفون بفضل الله وكرمه وعطائه، ويوظفون نعم الله في معصيته والصدّ عن سبيله والاعتراض على شرعه وأحكامه والاعتداء على عباده.
فصُوَر الجُحود كثيرة، ومظاهرُ النكران عديدة؛ تدل على جهل المرء وضلاله وانحرافه، وهذه بعضٌ منها: الإعراض عن كتاب الله -تعالى-: فكتاب الله بيننا نعمة من أجلّ النعم؛ فيه الخير والهدى والنور: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15 - 16] فمن أعرض عن كتاب الله، وهجره ونبذه وراء ظهره، فقد أنكر فضل الله ونعمته، ومن خالف كتاب الله وأعرض عن أحكامه وأخلاقه، فقد جحد نعمة الله عليه: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [البقرة: 211].
وقد توعّد الله -تعالى- من جحد بآياته وصدّ الناس عن كتابه بأشد الوعيد، فقال سبحانه: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [فصلت: 26 - 28].
الانحراف عن الطريق المستقيم: فالهداية إلى الطريق المستقيم نعمة لا تقدر بثمن، مَن حُرِمَها فقد خاب وخسر في دنياه وفي أخراه.
والطريق المستقيم هو الإسلام بأركانه وأحكامه وأخلاقه، فمن حاد عنه فقد جحد نعمة الله وفضله.
من انحرف عن الطريق المستقيم فقد أعرض عن عطاء ربه وكرمه، واختار لنفسه طريق الضالين الخاسرين الهالكين: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) [البقرة: 16].
التكاسل في الطاعات والقربات: فلقد خلق الله هذا الإنسان واستعمره في أرضه، وسخر له كل شيء في حياته؛ ليؤدي الوظيفة التي خلقه الله من أجلها، ويسخر كل النعم في تحقيقها: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 56 - 58].
فهل سخر العباد نعم الله في طاعته وعبادته؟ هل شكروا الله على نعمة اللسان والسمع والبصر والعقل والفؤاد واليدين والقدمين والكليتين والرئتين، وغير ذلك من النعم؟ وقد قال نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "كل سُلامى من الناس عليه صدقة؛ كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة" فهل شكرت الله -تعالى- على هذه النعم المتوالية المتتابعة؟ هل اغتنمتها في طاعة الله وعبادته؟ هل اغتنمت شبابك وصحتك وغناك وفراغك وحياتك في طاعة الله؟ وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".
فيا من تركت الصلاة وأضعت الصلاة: أين أنت من شكر النعم؟ يا من منعت الزكاة وبخلت بالمال على الفقراء: أين أنت من شكر النعم؟ يا من تتمتع بصحة البدن وسلامة الجوارح من العلل: أين أنت من شكر النعم؟ يا من يسّر الله لك في منصب ووظيفة: أين أنت من شكر النعم؟ يا من وفقك الله في تجارتك أو مصنعك أو فلاحتك: أين أنت من شكر النعم؟ يا من أنعم الله عليك بالذرية الصالحة والأسرة المباركة: أين أنت من شكر النعم؟ يا من تعيش في أمن وسلام: أين أنت من شكر النعم؟ يا من أنعم الله عليك بنعمة الإسلام، ونور قلبك بنور الإيمان، وأرسل إليك خير خلقه بالقرآن: أين أنت من شكر النعم؟
توظيف النعم في معصية الله -عز وجل-: فكم من الناس قد جحدوا نعمة الله وبدلوها كفرا وجورا وظلما وفسادا وطغيانا؛ كما قال ربنا -سبحانه-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [إبراهيم: 28 - 30].
كم من الناس من وظف قوته في قهر العباد وإذلالهم والعدوان عليهم؟ وكم من الناس من وظف ثروته وغناه في ظلم العباد والاعتداء على حقوقهم وممتلكاتهم؟ وصدق الله -تعالى- إذ يقول: (إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى) [العلق: 6] وكم من الناس من سخر عقله وتفكيره في المَكر والخديعة وإلقاءِ الشبَهِ لصدّ الناس عن الحق وطريق الهداية: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [البقرة: 9].
عدم الاعتراف بالمنعم جل جلاله: فمِن جُحُود النعمة أن يُصابَ صاحبها بالغرور، فيَظن أن ما به من نعمة فبفضل قوته أو علمه أو حيلته ودهائه وتخطيطه، وينسى خالقه ورازقه الذي تفضل بذلك عليه، فلا يعترف بفضله، ولا يشكره على عطائه، ولا يقوم بحقه عليه، وقد قال -تعالى- في شأن قارون الذي أصابه الغرور وأنكر فضل الله عليه: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) [القصص: 76 - 81].
جحود النعم سبب في زوالها وضياعها: فكم من جاحدٍ مُنكِر لا يعترف بفضل الله، ولا يُقِرّ بعطائه، ولا يشكره على آلائه؛ عاقبه الله -تعالى- بزوال النعمة وفقدها، وجعله آية وعبرة للناس من بعده، قال سبحانه: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112]، ويقول الله -تبارك وتعالى- في شأن قرية سبأ التي أنعم الله على أهلها بنعم كثيرة من أنهار وزروع وثمار وخيرات كثيرة فأعرضوا عن شكره وتخلوْا عن عبادته: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ: 15 - 17].
وقال تعالى عن أصحاب الجنة (أي الحديقة) الذين تآمروا وأجمعوا على أن يمنعوا الفقراء من حقهم وعطائهم الذي كانوا يأخذونه من أبيهم قبل وفاته: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [القلم: 17 - 33].
ومِنْ أعجَبِ القَصَص التي قصّها النبي -صلى الله عليه وسلمَ- لأخذِ العِظة والعبرة: خبرُ ثلاثة من بني إسرائيل ابتلاهم الله -تعالى- بالشدة والحاجة، ثم غير الله حالهم إلى رخاء وسعة؛ اختبارا لهم وامتحانا ليظهر منهم شاكر النعمة من جاحدها، فيكونوا عبرة لمن أنعم الله عليه بالخيرات الوافرة والنعم الكثيرة؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي َالله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: "إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، بدا لله -عز وجل- أراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص، فقال: أيّ شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه، فأعطي لونا حسنا، وجلدا حسنا، فقال: أيّ المال أحب إليك؟ قال: الإبل، أو قال: البقر، هو شك في ذلك: إن الأبرص، والأقرع، قال أحدهما الإبل، وقال الآخر: البقر، فأعطي ناقة عُشرَاء، فقال: يُبارك لك فيها. وأتى الأقرع فقال: أيّ شيء أحب إليك؟ قال شعَر حسن، ويذهب عني هذا، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب، وأعطي شعرا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، قال: فأعطاه بقرة حاملا، وقال: يبارك لك فيها. وأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال الغنم: فأعطاه شاة والدا، فأنتجَ هذان ووَلّدَ هذا، فكان لهذا وادٍ من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من غنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال رجل مسكين، تقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيرا أتبلغ عليه في سفري، فقال له: إن الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت، وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له: مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت، وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل وتقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرا فقد أغناني، فخذ ما شئت، فو الله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله، فقال: أمسك مالك؛ فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك".
فما أجملَ عاقبة الشكر والاعتراف بالنعم، وما أسوأ عاقبة الجحود وكفران النعم، فالجزاء من جنس العمل، وقد قال ربنا -سبحانه-: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) [الإسراء: 7]، وقال عز وجل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].
فاتقوا الله -عباد الله- واشكروه على نعمه، واعترفوا له بفضله وإنعامه، ووظفوا ما أنعم به عليكم فيما يرضيه عنكم، فذلكم خير لكم في دنياكم وفي أخراكم: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل: 40].
فاللهم اجعلنا لأنعمك من الشاكرين، ولآلائك من الذاكرين، ووفقنا يا مولانا لِنوظفَ نِعَمَكَ فيما تحبه وترضاه يا رب العالمين.
اللَّهُمَّ إِنّا نعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوّلِ عَافِيَتِكَ، وَفجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعلنا يا مولانا من عبادك الصالحين، ومن أوليائك المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وصل اللهم وسلم وبارك على حبيبنا وقدوتنا وقرة أعيننا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.