القابض
كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...
العربية
المؤلف | محمد بن حسن المريخي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
إن شهر رمضان شهر القرآن، وما أدراكم ما القرآن! كتاب الله الخالد! وكلامه الذي تكلم به مبشراً عباده الصالحين! ومحذراً العصاة والمجرمين! فيه الوعد الكريم لمن آمن وعمل صالحاً! وخاف مقام ربه! ونهى النفس عن الهوى! وفيه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، أهل التقوى وأهل المغفرة صاحب المنّ والعطاء، أحمده سبحانه وأشكره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- واشكروه على فضله العظيم، ومنّه الجزيل، تفضل عليكم بهذه الأيام المباركة، وهذه الليالي العظام في هذا الشهر الفضيل الذي ترفع فيه الدرجات، وتقال العثرات، وتكفر السيئات.
عباد الله: إن شهر رمضان شهر القرآن وما أدراكم ما القرآن! كتاب الله الخالد! وكلامه الذي تكلم به مبشراً عباده الصالحين! ومحذراً العصاة والمجرمين! فيه الوعد الكريم لمن آمن وعمل صالحاً! وخاف مقام ربه! ونهى النفس عن الهوى! وفيه الوعيد والتهديد بالعذاب والتحريق لمن أهمل واغتر من العبيد!
في القرآن خبر الدنيا والآخرة والأمم والأقوام والقرون الغابرة، يعظ الله -تعالى- به عباده فيبشر المؤمنين بأن لهم أجراً حسناً، وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً: (قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15 - 16].
فيه الرفعة والسمو لمن خاف الله وراقبه وتاب إليه واتقاه: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: 10]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "فيه شرفكم"، وقال تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزخرف: 44]، فهو الشرف لكم، أنتم به في ذرى العلياء بين الأمم، وفي أعلى المقامات عند الله -تعالى-، به العز والتمكين، به يعلو العبد ويسمو ويعز ويجل ويكرم، وبدونه لن تنالوا شرفاً، أنتم به غالبون منتصرون، تهابكم الأمم، وتحسب لكم حسابكم، وتخضع رقابها لكم مهابة واحتراماً واستسلاماً، وقد كان هذا لرسول الله وصحبه ومن تبعهم ممن كان متمسكاً بالإسلام، فكان العدو يخاف من رسول الله والمؤمنين إذا سمع عن نيته التوجه إليه قبل شهر واحد من التوجه إليه، يقول تعالى لموسى وهارون -عليهما السلام-: (بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) [القصص: 35].
إن القرآن الكريم يقرأ في شهر رمضان أكثر من غيره بعشرات المرات، ويقف المسلم على كتاب ربه في شهر الصيام وقفات متعددة يتلوه كثيراً فيتدبره ويتعظ بآياته.
إن شهر رمضان هو شهر القرآن فالفرصة كبيرة وسانحة؛ لأن يستفيد المؤمن، ويكسب الحسنات بقراءة القرآن: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ) [فاطر: 29].
إن قراءة القرآن تجلو عن القلب ما علق به من مسببات العمى أو الطبع بسبب الذنوب والمعاصي، فيشرق القلب بنور القرآن، وتشرق البصيرة، فيرى العبد الحق حقاً، والباطل باطلاً، ويرى الخسارة قبل وقوعها فيحذرها: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9] يعني أحسن، فما من حسن ومستقيم ومعتدل إلا والقرآن يدل عليه ويدعو إليه.
قراءة القرآن عمل صالح كبير، يقول تعالى عن هذا القرآن: (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) [الإسراء: 9]، ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها" (رواه الترمذي).
بالقرآن -يا عباد الله- تطمئن القلوب، وترتاح النفوس، وتنشرح الصدور، وتستقيم الأمور، وتستنير البصائر، وتبصر القلوب: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].
فكم في النفوس من الحيرة والقلق، وفي الصدور من الضيق والحرج بسبب الغفلة، وقلة ذكر الله -تعالى-.
في رمضان وبقراءة القرآن يراجع المرء نفسه، ويقلب صفحاته، وينظر في إسرافه، وما يقضي فيه عمره من البعد عن الطاعة والاستقامة، والالتفات إلى الآخرة، والتزود لها، وترك ما هو عليه من اللهو والضياع مما كثر في هذه الأزمان من ملاحقة الشيطان واتباع الأهواء.
إن الإنسان في أمس الحاجة إلى ما يبصره ويفتح بصيرته ويرشده ويفتيه في هذه الدنيا، وما كثر فيها من المنكرات والخبائث والمحن التي أخبثت النفوس، وحطمت القلوب، فلم تعد ترى شيئاً على هيئته الطبيعية من كثرة المغشوشات، وظلام القلوب، ولن يجد المرء أحسن من قراءة القرآن لتجلو عن القلوب هذا البلاء، وعن النفوس هذا الغبش: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحـج: 46].
فيا عباد الله: هذه فرصة منحكم إياها ربكم -عز وجل- في شهر رمضان القرآن يتلى في كل وقت وحين، فانتهزوا هذه الفرصة لإعمار القلوب، وبناء الأنفس، اقرؤوه طاعة لله وتعظيماً لخالقكم ليأتي شافعاً لكم، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه" (رواه مسلم).
اقرؤوا القرآن وحركوا به القلوب بالوقوف على وعد الله ووعيده، وما نزل بالأمم وقدرة الله -تعالى- على أخذ القرى، وما أخبر الله -تعالى- عن جبروته وقهره؛ فإن في الدنيا مجاهيل يجهلون القرآن وما جاء فيه يحسبون القرآن كتاباً يتلى فقط للعبادة، وأهملوا أنه يخبر عن كل شيء وقع وما لم يقع بعد، وما جرى في هذه الدنيا وما سيجري ويكون، يقول رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-: "والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" (رواه مسلم).
اقرؤوا القرآن وابكوا أو تباكوا إذا مررتم بوعيد أو تهديد أو أخذة للعبيد في هذه الدنيا أو يوم الوعيد، يقول عليه الصلاة والسلام: "شيبتني هود والواقعة والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت" (رواه الترمذي وقال: "حديث حسن")، وذلك لما في هذه السور من أهوال القيامة، وما ينتظر الناس من النوازل والأهوال، وما جرى على الأمم التي عصت فمن رهبته وخشيته لربه -عز وجل- جاءه الشيب قبل أوانه، والرسل أعلم الخلق بالله -عز وجل-.
وبشر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بكى من خشية ربه، فقال: "عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله" (رواه الترمذي وقال: "حديث حسن").
أيها المسلمون: هذه أيام الرحمة العشر الأول من شهركم قد ذهبت، وسوف ينتصف شهركم بعد أيام، وما تلبثوا إلا وأنتم في أيامه الأخيرة، فتعرضوا لرحمات ربكم بالاجتهاد في تحقيق الصيام الصحيح الشرعي الذي ترجون ثوابه وجزاءه عند الله، بحفظ أسماعكم وأبصاركم وجوارحكم عما حرم الله ونهى، ابذلوا أنفسكم لله فإن المرء لا ينفعه إلا عمله الصالح ولن يلتفت إليه إلا إذا عمل صالحاً، فالعمل الصالح هو الرصيد الحقيقي الذي ينبغي أن يراقبه المرء، ويحرص عليه، وإلا فالشهوات تذهب وتنقضي والشياطين يحبطون الأعمال، ويفسدون النيات، ويحبطون الجهد، ثم يتبرؤون من ابن آدم، ويتركونه يصارع ذنوبه وحرجه بين يدي الله -تعالى-.
فالحذر -عباد الله- من التراخي والفتور فإنها أيام معدودات مليئة بالخيرات، ورفيع الدرجات، فاغتنموها لترفعوا درجاتكم، وتكفروا سيئاتكم، وتصححوا من أوضاعكم الإيمانية، فالدنيا زائلة، والموت يطارد العبيد، ولا يمكن الفرار منه يدخل بلا استئذان، ويأخذ ما يشاء، ويخرج من غير أن يشعر به إنسان، يدخل على الملوك في القصور المشيدة، وعلى الفقراء والضعفاء في أكواخهم المخربة.
شدّ الله لنا ولكم العزيمة، وأعاننا وإياكم على الفوز بالغنيمة.