الخبير
كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...
العربية
المؤلف | عبدالله بن عبده نعمان العواضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - المنجيات |
إذا نزل الكرب بالناس افترقوا فيه إلى فريقين: فريق يرى للكرب صورة مظلمة قاتمة لا خير فيها، وفريق يرى من خلاله بشائر وأفراحاً تعقب ذلك الكرب، وهذا الفريق الثاني هم أهل التفاؤل واليقين، فيصير الكرب عليهم -وهم على هذه الحال- نعمة لا نقمة، ما داموا مؤمنين صابرين.
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلِلْ فلا هادي له، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيماً) [الأحزاب:71-72].
أما بعدُ:
فإنّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهديِ هديُ رسولِه محمدِ بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
طُبِعتْ على كدر وأنت ترومها | صفواً من الأقذار والأكدارِ |
ومكلِّفُ الأيام ضد طباعها | متطلّب في الماء جذوةَ نارِ |
لا رخاء إلا ويعقبُه بلاء، ولا راحة إلا ويتلوها تعب، ولا سراء إلا تتبعها ضراء، ولا صحة إلا حُفّت بالسقم، ولا بسمة ارتياح إلا ستجيئ بعدها دمعة ألم.
هذه-أيها الناس- حقيقة الدنيا التي لا تنكر، وقانون الحياة الذي لا يجحد، فمن عاش في الدنيا فلن يسلم من كربة خفيفة أو ثقيلة، وقد تزول عنه وقد تطول معه.
فمن لكروبنا، ومن لهمومنا، ومن لأوجاعنا، ومن لأحزاننا؟
فمن لكروبٍ في الحياة تعددت | وضاقت بها النفس الكريمة في الورى |
فليس لها فوق البسيطة كاشف | سوى الله رب العالمين بِلا مِرَا |
هذه هي الحقيقة: أن الكروب لا يزيلها إلا علام الغيوب، وقد أيقن بهذه الحقيقة بعضُ المشركين في الجاهلية، كما قال تعالى: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) [الأنعام:63-64]. وقال: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت:65].
هذه حال بعض المشركين في الأمس، وأما حال بعض المسلمين اليوم: فإنهم إذا مسّهم الكربُ تركوا الربَّ وتضرعوا بين يدي الغرب، أو تركوا سؤال الله تعالى وتوجهوا بالسؤال لأصحاب القبور. فسبحان الله العظيم!
أما أهل الإيمان: فإنهم إذا اشتدت بهم الكروب، ونزلت بساحاتهم الخطوب وكلوا أمر تفريجها إلى خالقهم وراحمهم -سبحانه وتعالى- مع بذل الأسباب المباحة الممكنة، فعند ذلك تخفّ عليهم ويقرب رفعها عنهم.
عباد الله: إنه لا يسلم من لفح الكروب أحدٌ وُلِد إلى هذه الحياة، حتى الأنبياء والرسل -عليهم السلام- بل هم أشدُّ فيها من غيرهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أشدُّ الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل". [رواه ابن ماجه والترمذي والنسائي في "الكبرى، وصححه الألباني في صحيح الجامع].
فهذا نوحٌ -عليه السلام- اشتدَّ عليه أذى قومه وعتوُّهم مع العمر المديد الذي قضاه في دعوتهم، حينها علم من الله أن لا هداية لهم، فلجأ إلى الله تعالى وحده في هذا الكرب، فقال تعالى: (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ* وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنبياء:76-77].
ولما تكبَّر فرعون وملأه عن قبول الحق الذي جاء به موسى وهارون عليهما السلام، وأراد قتلهما ومن معهما من بني إسرائيل لجأ موسى إلى الله وحده، فنجاهم الله، قال تعالى: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ* وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) [الصافات:114-115].
وعندما مسّ أيوبَ كربُ المرض والضرِّ كشفه الله تعالى بلجوء أيوب إليه وحده، قال تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) [الأنبياء:83-84].
ويونس -عليه السلام- المكروب في بطن الحوت، قال تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:87-88].
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين؛ فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجابَ الله له". [رواه الترمذي وصححه الألباني].
وزكريا -عليه السلام- الذي ذاق مُرَّ العقم، فتضرع إلى الله وابتهل بين يديه فرزقه الله تعالى يحيى -عليه السلام-: (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ). [آل عمران:39].
قال تعالى: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء:89-90].
وإلى نبيِّنا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- الذي لم يسلم من عناء الكروب المتنوعة من جهات متعددة، ولكنه في كروبه المتلاحقة لم يترك الابتهال بين يدي ربه، وسؤاله كشف كربه.
ففي غزوة بدر حين جاءت قريش بحدها وحديدها تحادّ الله ورسوله وتحارب أولياء الله بكبريائها وعنجهيتها حينها مدَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يديه إلى السماء داعياً مبتهلاً حتى سقط رداؤه وهو يقول: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتِ ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" [رواه مسلم]، فاستجاب الله تعالى دعاءه في كربه، فنصره على القوم الكافرين.
عباد الله: إذا نزل الكرب بالناس افترقوا فيه إلى فريقين: فريق يرى للكرب صورة مظلمة قاتمة لا خير فيها، وفريق يرى من خلاله بشائر وأفراحاً تعقب ذلك الكرب، وهذا الفريق الثاني هم أهل التفاؤل واليقين، فيصير الكرب عليهم -وهم على هذه الحال- نعمة لا نقمة، ما داموا مؤمنين صابرين.
قد يُنعم الله بالبلوى وإن عظُمَتْ | ويبتلي الله بعض القوم بالنعم |
وهذا الفريق الثاني هو الذي ينبغي أن نكون من أهله؛ لنؤجر على الكرب النازل، وليخف علينا نزوله، ولننتظر الفرج القريب بيقين واستبشار؛ فإن الكروب في الدنيا لا تدوم، ولكنها تطول على الساخطين، وتقصر لدى المتفائلين.
عسى الكرب الذي أمسيت فيه | يكون وراءه فرجٌ قريب |
فلا تيأسْ وإن لاقيتَ | كرباً يحبس النفسا |
فأقرب ما يكون المرء | من فرج إذا يئسا |
بمعنى: إذا اشتد الكرب فقد آذن بالفرج؛ كقول الله تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف:110].
فمن الأمثلة في زوال الكروب العظيمة: زوال طوفان التتار الذي ساح في بلاد المسلمين وقتل عدداً كبيراً من أهل الإسلام، وخرب ديارهم، وأحرق ما يقبل الإحراق مما يعز على المسلمين فقدُه، وفعل ما فعل من التخريب والإفساد.
واسمع ما يقول بعض المؤرخين عن هذه الحادثة التاريخية المهولة، يقول ابن الأثير في "كامله" التاريخي: "قد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رِجْلاً وأؤخّر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني متُّ قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترْك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مُذ خلق الله -سبحانه وتعالى- آدم، وإلى الآن، لم يبتلوا بمثلها؛ لكان صادقاً؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث: ما فعله بخت نصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا؛ فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، شقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" [الكامل في التاريخ لابن الأثير (ج10/ص333].
فالكثير من المسلمين ظنوا أن لا تقوم للمسلمين بعد ذلك قائمة.
لكن انجلى الكرب بصباح الفرج الذي أعاد للمسلمين عزتهم وقوتهم، فاستعادوا بلدانهم، وهزموا عدوهم، بل دخل بعض التتار الإسلام. ثم أقام المسلمون الخلافة العثمانية بعد ذلك، وامتد الإسلام إلى أماكن لم يصلها من قبل.
ولربَّ نازلةٍ يضيق بها الفتى | ذرعاً وعند الله منها المخرج |
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها | فُرِجتْ وكنت أظنها لا تفرج |
وقبل حادثة التتار يذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" في حوادث سنة (449هـ) أنه كان الغلاء والفناء مستمرين ببغداد وغيرها من البلاد بحيث خلت أكثر الدور، وسُدت على أهلها أبوابها بما فيها، وأهلها موتى فيها، ثم صار المار في الطريق لا يلقى الواحد بعد الواحد، وأكل الناس الجيف والنتن من قلة الطعام، بل حتى أكلوا الكلاب والموتى، ثم انجلت هذه الغمة وعاد الرخاء إلى بلاد المسلمين مرة أخرى.
أيها المسلمون: إنّ الكروب حينما تنزل بالمسلمين لا تنزل بهم عبثاً من غير حكمة، أو خِلواً من غير غاية، بل لها حكم وغايات حميدة، فمن ذلك: أن الكروب سبب لتكفير السيئات، وتكثير الحسنات، ورفع الدرجات، إذا صبر المكروب المسلم عندها، فكم من معصية لم تكفرها إلا كربة، وكم من ميزان ثقل لصاحبه يوم القيامة بكرب صبر عنده، وكم درجة بلغها العبد بكربة نالته في الدنيا فاحتسب أجرها عند الله تعالى.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما يصيب المسلمَ من نصَب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" [رواه البخاري].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يود أهل العافية يوم القيامة -حين يعطى أهل البلاء الثواب- لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض" [رواه الترمذي وحسنه الألباني].
ومن حكم تقدير الكروب: أنها تصقل إيمان المسلم وتصفيه حتى يخرج صافياً من شوائب النفاق أو الكذب أو الضعف، قال تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ* أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:140-142].
ومن حكم القضاء بالكروب: أنها تسوق الناس إلى ربهم وسيدهم بعد أن شردتهم عنه النعم والشهوات والشبهات، فيرجعون بالكروب خاضعين منيبين، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].
ومن حكم حصول الكروب: أنها تعرف العبد بأنه لله عبد، فينكسر بين يديه، ويخلع عنه كبرياء النفس وترفُّعَها، فتأتيه الكروب لتجعله متواضعاً لله ولخلق الله.
ومن الحكم كذلك: أن الكروب تعلّم الإنسان الرحمة والعطف على المكروبين من الناس، فمن مسه الكرب تذكّر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بينما رجلٌ يمشي بطريق اشتدَّ عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج، فإذا كلبٌ يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له"، قالوا: يا رسول الله، وإنّ لنا في البهائم أجراً؟! فقال: "نعم، في كل ذات كبدٌ رطبة أجر" [متفق عليه].
ومن الحكم أيضاً: أن الكروب تشوّق المسلم إلى الجنة دار السلام، التي يرتاح بها من كل عناء، فيصبر عند ذلك ويحتسب، ويتذكر بآلام كروب الدنيا آلام كروب الآخرة في نار جهنم فيستعد بالزاد الذي ينجيه من ذلك. (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أيها المسلمون: إن كروب الدنيا لا تدوم؛ ولذلك فإن الله تعالى برحمته بعباده قد جعل لكشف الكروب أسباباً، فمن ذلك: الإيمان الصادق بالله تعالى؛ فإنه أعظم سبب للنجاة والخروج من المُلمَّات، قال تعالى: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس:98].
ومن الأسباب: ادخار أعمال صالحة خالصة ليوم الكروب، كما نجى الله تعالى أولئك الثلاثة الذي أووا إلى غار فسدت عليهم صخرةٌ بابَ الغار فلم يستطيعوا الخروج، حتى توسلوا إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة الخالصة، كما جاء ذلك في الصحيحين.
ومن الأسباب كذلك: التفريج عن المكروبين، والتنفيس عن المعسرين، والجزاء من جنس العمل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته" [متفق عليه].
ومن أسباب كشف الكروب: الدعاء الخاص والدعاء العام؛ فقد جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أدعية تقال في أوقات الكروب، فمن ذلك: ما جاء عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كربه أمر قال: "يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث" [رواه الترمذي وحسّنه الألباني].
وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت" [رواه البخاري في الأدب المفرد وحسّنه الألباني].
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم, لا إله إلا الله رب العرش العظيم, لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم" [متفقٌ عليه].
وعن أسماء بنت عميس -رضي الله عنها- قالت: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب أو في الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً" [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
وكذلك على العبد المكروب أن يتضرع بين يدي الله تعالى؛ ليكشف كربه، ويعافيه مما حل به، والله تعالى يقول: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60].