الحليم
كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
هل عبدنا الله كما أمرنا، وانتهينا كما نهانا أم سيطرت الغفلة علينا؟ هل استشعرنا أننا جئنا إلى الدنيا من أجل عبادة الله، وأننا سنرحل منها عما قريب إذا حان موعد أجلنا، أم أننا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: جعل الله -عز وجل- القلب في الجسم بمنزلة الملك؛ فهو القائد للجوارح، وهو الآمر فيها والناهي، وجعل له مكانة عظيمة؛ فهو محل نظره -سبحانه- من العبد؛ ولأجل هذه المنزلة التي يتبوّؤها فقد حذرنا الله -سبحانه وتعالى- من بعض الأمراض التي تصيبه فتفسده، ومنها ذلك المرض الخطير الذي يصرف العبد عن كل خير إنه مرض الغفلة؛ فهو الداء الدَّوي، والمرض المستشري، الذي أصابنا جميعاً إلا من رحم الله.
يقول الله-عز وجل- محذراً أن نكون من أهل الغفلة، الذين غفلوا عن عبادته وذكره، وأداء الواجبات، الواقعين بكل سهولة في المعاصي والفواحش والمنكرات: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ)[الأعراف:205].
أيها المسلمون: الغفلة هي سهو يحدث للإنسان نتيجة عدم التحفظ والتيقُّظ والانتباه، وهي فَقْدُ الشُّعورِ بما حَقُّه أن يُشعَرَ به، ومتابعة النفس في كل ما تشتهيه، وهي إبطال الوقت بالبطالة، فإذا سها العبد وغفل عن الله أُصيب بتبلد المشاعر، وموت القلب، وضعف الإحساس.
وأياً كان المعنى فقد ذم الله تعالى الغفلة، وجعلها إحدى صفات الكافرين في غير ما موضع من كتابه، فقال عن فرعونَ وقومِه لما أصروا على الكفر: (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ)[آل عمران:136].
يَا غَافِلاً عَنْ مَنَايَا سَاقَهَا الْقَدَرُ | مَاذَا الَّذِي بَعْدَ شَيْبِ الرَّأْسُ تَنْتَظِرُ |
عَايِنْ بِقَلْبِكَ إِنَّ الْعَيْنَ غَافِلَةٌ | عَنِ الْحَقِيقَةِ وَاعْلَمْ أَنَّهَا سَقَرُ |
سَوْدَاءُ تَزْفُرُ مِنْ غَيْظٍ إِذا سُعِرَتْ | لِلظَّالِمِينَ فَمَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ |
لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ غَيْرَ الْمَوْتِ مَوْعِظةٌ | لَكَانَ فِيهِ عَنِ اللَّذَّاتِ مُزْدَجَرُ |
وقد ذم الله الراضين بالحياة الدنيا، الراكنين لملذاتها، السادرين في شهواتها، الغافلين عن الآخرة، وجعل النار هي مأواهم فقال -جل جلاله-: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[يونس:7-8].
أيها المؤمنون: الغفلة داء يستحوذ على قلب الإنسان فينسيه آخرته، لكنها في مواضع أشد ضررًا وفتكًا، وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الغفلة في مواضع مختلفة:
منها: الغفلة حال أداء الصلاة؛ فيقوم المصلي بين يدي الله وقلبه غافل عن استشعار عظمة الله ومقابلته؛ فكم في الصف من متجَاوِرَيْنِ وبينهما كما بين السماء والأرض؛ فالأول أقبل الله على الله بقلبه وجميع جوارحه، والآخر أقبل على الله بجسمه وأطلق قلبه يهيم في ميادين الغفلة وشعابها.
ومنها: الغفلة أثناء الدعاء ومناجاة الله؛ فعَنْ عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "القلوب أوعية، وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله -عز وجل- يا أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبدٍ دعاه عن ظهر قلبٍ غافلٍ" (رواه أحمد وحسَّنهُ الألباني)، فالداعي بلسانه دون قلبه بعيد دعاؤه عن الإجابة؛ فالله -سبحانه وتعالى- لا يريد قلبًا مشغولًا بسواه، وحضور القلب حين الدعاء سبب لإجابته.
ومنها: الغفلة أثناء ذكر الله؛ فقد قال الله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ)[الأعراف:205]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للنساء:"عليكنَّ بالتسبيح والتهليل والتقديس، واعقدن بالأنامل؛ فإنهنَّ مسؤولاتٌ مُسْتَنْطقات، ولا تغفُلْنَ فتنسين الرحمة"(رواه الترمذي وحسَّنه الألباني)؛ فالغفلة حال الذكر تسلبه روحه؛ فقد أمرهن رسول الله بالذكر، وأمرهن أن يعقدنه بالأنامل؛ فاقتران الأنامل باللسان حال الذكر فيه نوع من التركيز فيه، ثم أوصاهن -عليه الصلاة والسلام- ألا يغفلن حال الدعاء؛ فإن الغفلة سبب لحرمان أجر الذكر، والذكر هو الرحمة من الله تعالى.
ومنها: الغفلة عن أوقات مضاعفة الحسنات والأجور، فترى الغافل تمر عليه الأوقات التي يتضاعف فيها الأجر دون الالتفات إليها، فتأتي المواسم وتذهب دون أن يستغلها، وما ذاك إلا لغفلته التي أقعدته عن استغلال هذه الأوقات.
عباد الله: إن لهذه الغفلة مسببات؛ فمن وقع فيها أصابته، ومن ابتعد عنها نجا وفاز، وسلم له قلبه وعبادته، وأصبح من عباد الله الصالحين، وأول هذه الأسباب:
الرضا عن النفس، وإهمال محاسبتها ومتابعتها؛ فإن العبد إذا رضي عن نفسه قادته لكل معصيةٍ، وأوردته موارد الغفلة، وأقحمته بوابة الشهوات، وكسته من ثيابها ألوانًا، ومن ذلها وهوانها صوراً وأشكالاً، أما من حاسب نفسه وراقبها فإنها تقوده لكل طاعة ويقظة، وتبعده عن دروب الغفلة، وتشغله بطاعة الله وعبادته.
ومن أسباب الغفلة: ترك صلاة الجمعة ممن تجب عليه، فهي سببٌ للختم على القلب؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- وهو على أعواد منبره:"لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين" (رواه مسلم).
ومن أسباب الغفلة أيضًا: هجر المساجد واتباع كل فاسد؛ فقد قيل للحسن بن علي -رضي الله عنهما-: مَا الْغَفْلَةُ؟ قَالَ: تَرْكُكَ الْمَسْجِدَ، وَطَاعَتُكَ الْمُفْسِدَ.
ومن أسبابها: هجر الكتاب الحكيم والذكر العظيم؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمروٍ -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَنّهُ قَالَ:"من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين"(رواه أبو داود).
أيها المسلمون: إن الأعمار قصيرة، والآجال محدودة، وآجالنا عما قريب ستداهمنا، ونحن في غفلتنا ساهون، وفي لهونا سادرون؛ فإلى متى ستستمر بنا هذه الغفلة؟ وإلى متى تحول بيننا وبين التوبة واليقظة؟ وإلى متى تريد أن توقعنا في العذاب الشديد، وتحرمنا جنات الخلود؟
اللهم أيقظ قلوبنا من الغفلة، وألهمنا لاستدراك الهفوات قبل الفوات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
عباد الله: فإن الغفلة هي الداء الأكبر، وهي سلطان إبليس على القلوب، وفرحته التي يجدها من الخلق، وتتمثل في صور عديدة منها:
أن يغفل الإنسان عن هدفه وغايته التي خلق من أجلها، والمهمة التي جيء به إلى هذه الحياة ليقوم بها، ألا وهي عبادة الله وتوحيده، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات:56].
فلو سألنا أنفسنا: هل نحن قائمون حق القيام بهذا الهدف أم أننا في غفلة عنه؟ هل عبدنا الله كما أمرنا، وانتهينا كما نهانا أم سيطرت الغفلة علينا؟ هل استشعرنا أننا جئنا إلى الدنيا من أجل عبادة الله، وأننا سنرحل منها عما قريب إذا حان موعد أجلنا، أم أننا نعيش في غفلة عن الله ولقائه والدار الآخرة؟ فأين نحن من هذا كله؟ ماذا دهانا؟! ما الذي أصابنا؟! إنها الغفلة.
يقول الله -سبحانه وتعالى- واصفًا الحال عندما تستحوذ الغفلة على قلوب العباد: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)[الأنبياء:1-3].
ورحم الله أبا الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- يوم قال: "أضحكني ثَلَاثٌ، وَأَبْكَانِي ثَلَاثٌ: أَضْحَكَنِي: مُؤَمِّلُ الدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ، وَغَافِلٌ لَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ، وَضَاحِكٌ وَلَيْسَ يَدْرِي أَرَاضٍ اللهُ عَنْهُ أَمْ سَاخِطٌ عَلَيْهِ. وَأَبْكَانِي: فِرَاقُ الْأَحِبَّةِ مُحَمَّدٍ وَحِزْبِهِ، وَهَوْلُ الْمَطْلَعِ، وَالْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ تَبْدُو السَّرَائِرُ، ثُمَّ لَا أَدْرِي إِلَى جَنَّةٍ أَمْ إِلَى نَارٍ".
ومن صور الغفلة: الانشغال عن القربات والانغماس في الشهوات والملهيات.
ومن صورها: الاتكال على العمل الصالح، فيظن العبد بعمله أنه بعيد عن أهل الغفلة! فكلنا واقعون في الغفلة، كلٌّ بقدره.
فالواجب علينا أن نتهم أنفسنا دائمًا، وننظر إليها بعين التقصير والتفريط؛ لأن بعض الناس حينما يسمع الحديث عن مثل هذه المواضيع يرى أنه مادام يصلي ويصوم ويشهد أن لا إله إلا الله، فإنه ليس من أهل الغفلة، ولم يعلم أن الغفلة هي في الحقيقة إبطال الوقت وتضييعه بالبطالة، فإذا كنت تصوم وتصلي ولكنك تسرف في تضييع الأوقات والأعمار فيما لا يجدي ولا ينفع ولو من المباحات فأنت من أهل الغفلة.
إخوة الإيمان: لنكن دائماً متيقظين حذرين منتهين عن الاغترار بهذه الدنيا والغفلة فيها، ولنتذكر الموت، والآخرة؛ فإن ذكر الموت والقبر والنار أعظم دواء لداء الغفلة؛ فلنبادر قبل أن يبادرنا الموت، ولنسرع قبل فوات الأوان، (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[ق:21-22].
اللهم ردنا إليك ردًّا جميلًا، وأيقظ سبات قلوبنا، وألهمنا رشدنا، وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه...