العربية
المؤلف | محمد بن حسن المريخي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
خلق عظيم، ومقام كريم به؛ أمر الله ورسوله، ونهى عن ضده ومعارضه، وأثنى على أهله القائمين به، ووصف به خواص خلقه من النبيين والمرسلين والصالحين المتقين، ووعدهم بأحسن الجزاء، ووعدهم بالزيادة والمزيد من فضله حتى جعله من...
الخطبة الأولى:
أيها المسلمون: من تنبّه سلِم من العواقب والنوازل، ومن غفل ندم حين لا ينفع الندم.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [فاطر: 3].
أيها المسلمون: النعم كثيرة لا تعد ولا تحصى، متعددة متنوعة حسية ومعنوية، كبيرة وصغيرة في الأبدان والأنفس، في البلدان والأموال، فوق الأرض وتحت الأرض، من كثرتها لا تكاد كثير من الأنفس تراها، بل تجحدها وتعبث بمائها ومرعاها.
والجاحدون للنعم كثرة كثيرة، والشاكرون المقدرون للنعم قلة قليلة، فوجب لذلك التنبيه والتذكير، وقد رأينا بأم أعيينا نعماً تحولت وزالت وتبدلت، وعافية ذهبت وتغيرت.
ألا -يا عباد الله- فانتبهوا فثم خلق عظيم، ومقام كريم به؛ أمر الله ورسوله، ونهى عن ضده ومعارضه، وأثنى على أهله القائمين به، ووصف به خواص خلقه من النبيين والمرسلين والصالحين المتقين، ووعدهم بأحسن الجزاء، ووعدهم بالزيادة والمزيد من فضله حتى جعله من حراس النعمة، وحافظي المنّة، أهله المنتفعون بالوحي المنزل الآيات والأحاديث لله اسم منه، وهم قلة بين العباد؛ إنه مقام الشكر، وفضل الشاكرين، يقول تعالى: (وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172]، وقال جل وعلا: (وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) [البقرة: 152]، وقال: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7] حتى قال سبحانه وتعالى: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13].
عباد الله: الشكر نصف الدين، والله -تعالى- هو الشاكر العليم، وهو الشكور الحليم، يحب الشاكرين، ووعد على الشكر الأجر الجزيل، فقال: (وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144]، وقال: (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 145].
والشكر أمر مستقر في نفوس أهل العبادة، ونهج راسخ في سلوك الصالحين، أبصروا بعبادتهم لربهم النعم، وهداهم إيمانهم إلى شكرها، والثناء على منعمها، فامتلأت به قلوبهم، ولهجت به ألسنتهم، وظهر على جوارحهم؛ فهذا نوح -عليه السلام- يصفه ربه بقوله: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) [الإسراء: 3].
وهذا إبراهيم الخليل -عليه السلام- قال الله عنه: (شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [النحل: 121].
وهذا سليمان -عليه السلام- وهو ينظر في نعم الله بين يديه، وقد سخر الله له من مخلوقاته ما شاء يقول: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل: 19].
وشكر رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ربه فيصوم عاشوراء شكراً لله على نصره لأخيه موسى ومن معه، وإهلاك عدوه فرعون وقومه، ويشرع ذلك لأمته يقول لليهود: "نحن أولى بموسى منكم"، وأمر الأمة بصيام عاشوراء.
ويقوم عليه الصلاة والسلام يصلي من الليل حتى تفطرت قدماه، ويقول صلى الله عليه وسلم: "أفلا أكون عبداً شكورا"، وقد طلب منه أهله التخفيف على نفسه.
أيها المسلمون: الشكر اعتراف العبد بمنّة الله عليه، وإقرار بالنعمة الربانية عليه من خيري الدنيا والآخرة في كل شأن العبد.
والشكر دليل على رضا العبد عن ربه وهو حياة القلب وحيويته، وهو قيد للنعم التي عند العبد، وصيد للنعم التي لم تأت بعد، والشكر دليل على صفاء النفس وطهارة القلب، وسلامة الصدر، وكمال العقل؛ فإن الله -تعالى- خلق العباد ليشكروه؛ كما في قوله تعالى: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل: 78].
وهو ثناء على المحسن سبحانه بما أولاه من المعروف، ولا يكون المسلم شاكراً لأنعم الله حتى يشكر ربه -جل وعلا- بقلبه ولسانه وجوارحه، فيعتقد في قرارة نفسه أن ما به من نعمة فمن الله وحده تفضلاً منه سبحانه وإحساناً، وينطق بذلك لسانه حمداً لله -تعالى- وثناء عليه؛ كما قال تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى: 11].
وحقيقة شكر النعم: الاستعانة بها على مرضاة المنعم، ومن استعان بالنعمة على معصية الله فقد كفر النعمة وتعرض لعقاب المنعم.
إن الشكر ليس مجرد حمد باللسان، ولكنه مع ذلك عمل وإظهار للامتنان، وقد قال سبحانه: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172]، وقال: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) [البقرة: 152].
فالشكر يدعو العبيد ليشكروا لله بالقول والعمل، يقول سبحانه بعد ما امتن على العرب في مكة بالنعمتين التي يسعى لها العالم اليوم كله، قال: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش: 3 - 4]، فقد أطعمهم وآمنهم فليعبدوه ليتم الشكر، وتقرّ النعمة.
أيها المسلمون: الشكر سبب لمرضاة الله عن عبده: (وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر: 7].
وهو أمان من العذاب؛ كما قال تعالى: (مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النساء: 147] قال قتادة -رحمه الله-: "إن الله -عز وجل- لا يعذب شاكراً ولا مؤمناً".
والشكر سبب لزيادة النعم واستقرارها، يقول تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم: 7]، وقال الحسن البصري: "إن الله ليمتّع بالنعمة ما شاء فإذا لم يشكر عليها قلبها عذاباً".
أيها المسلمون: شكر الله -تعالى- واجب في جميع الأحوال في الصحة والمرض والشباب والهرم والفقر والغنى والفراغ والشغل والسراء والضراء واليقظة والمنام والسفر والإقامة، في الخلوة والاختلاط قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم.
وطرق الشكر لا تحصى، وميادينه لا تحصر، اشكروا ربكم -عباد الله- على ما أظهر من جميل، وعلى ما ستر من قبيح، قيل لأبي تميمة: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بين نعمتين لا أدري أيهما أفضل؟ ذنوب سترها الله فلا يستطيع أحد أن يعيرني بها، ومودة قذفها الله في قلوب العباد لم يبلغها عملي.
يكون الشكر بالصلاة فقد قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي في الليل حتى تفطرت قدماه شكراً لله، يقول: "أفلا أكون عبداً شكوراً".
ويكون بالصيام فقد صام موسى -عليه السلام- شكراً لله الذي نجاه من فرعون وقومه، وصامه رسول الله -صلى الله علسه وسلم- والمسلمون.
ويكون الشكر بالسجود يسجد المؤمن سجدة لله إذا جاءه ما يسره أو حدثت له نعمة، سجد رسول الله -صلى الله علسه وسلم- لما أخبره جبريل: أنه من صلى عليه صلاة صلى الله عليه بها عشراً.
وسجد أبوبكر لما بلغه مقتل مسيلمة الكذاب.
وسجد علي -رضي الله عنه- لما بلغه مقتل الخارجي ابن الذديّة.
وسجد ابن مالك لما تاب الله عليه.
يقول عبد الرحمن السلمي -رحمه الله-: "الصلاة شكر، والصيام شكر، وكل خير يعمله العبد لله فهو شكر، وأفضل الشكر الحمد".
وتعداد النعم شكرٌ لله، والتحدث بها، ومن أثنى على ربه فقد شكره، والقناعة شكر، فمن اقتنع كان أشكر الناس ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير.
ومن الشكر: أن لا يزال لسانك رطباً بذكر الله، ومن قال: "اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه".
وبعد -رحمكم الله-: فإن الله أعطى وأجزل العطية وأنعم، وتفضل عليكم: (وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) [إبراهيم: 34]، وإنما تبقى النعم وتثبت بالشكر لله -تعالى-.
ألا وإن كفران النعم وجحودها واتخاذها مطية للعصيان، والتمرد عليه سبحانه، والبطر والاستكبار على الدين والشريعة، والمنهج الحق، وسبيل رسول الله -صلى الله علسه وسلم-؛ سبب لمحق البركات، وسلب النعم، وتبديلها بالنقم، ونزول البلايا والمشاكل والضوائق والعقوبات العامة: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل: 112]، فلما كفروا بالنعم عاقبهم بالجوع والخوف، ذلك أن كفران النعم سبب للجوع والخوف، وسبب الفتن والاضطرابات في الأمن والمعاش.
وإن من كفران النعم: الإسراف والتبذير والطغيان والتباهي والاستعلاء والاستكبار يجلب سخط الله ومقته، فلا تبدلوا نعمة الله بالإعراض عن دينه، والسخرية من سنة رسول الله -صلى الله علسه وسلم- باسم العلم، أو التطور والتقدم والتحضر.
وانظروا إلى من بدل الله عليهم وغير عليهم؛ داهمتهم النوازل، وانقلبت أحوالهم، وزالت عنهم النعم، وحلت بهم النقم.
وإن في الدنيا جاحدين للنعم لا يشكرون، يتقلبون في النعم ويفسدونها وهم لا يشعرون، أقوام لا ترى أعينهم إلا الاعوجاج والسواد والذم والقلة والنقص والتأنيب والولولة: (فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) [التوبة: 58].
يلهثون دوماً بالنقص والعسر والضيق، وقد امتلأت خزائنه المالية والحياتية والترفيهية والتموينية ولا تدري ما يريد، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أصبح آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
فاشكروا النعم ولا تكفروها ولا تجحدوها ولا تغفلوا عن المنعم سبحانه وتعالى، واستغلوا النعم في طاعته ومحبته، ولا تلتفتوا إلى الذين لا يعلمون سنن الله في كونه من الذين غرتهم الدنيا وتوقف علمهم عندها: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].