الوتر
كلمة (الوِتر) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، ومعناها الفرد،...
العربية
المؤلف | محمد بن حسن المريخي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
إن محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصلٌ عظيم من أصول الدين، فرضها الله -تعالى- على عبيده، ثم أراهم الله -تعالى- كيف استحقت محبته عليكم وفرضت، هل رأيتم مخلوقاً يبذل نفسه لمخلوق إلى هذه الدرجة، بل يبذل نفسه ويرهقها حرصاً منه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي منّ علينا بنعمة الإيمان، ومنّة الإسلام، وشرفنا بمتابعة سيد الأنام، أحمده سبحانه وأشكره، وأثني عليه الخير كله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه وشريعته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان من المؤمنين إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- واستمسكوا بدينه وشريعته، وأعرضوا عن كل ما يخالف الدين، فإنه مصيره إلى الانهزام والانتهاء؛ لأنه ما وقف شيء في وجه دين الله إلا اندحر وانهزم وتلاشى، فعليكم بالدين الحنيف تمسكوا به قولاً وعملاً واعتقاداً إن كنتم ترومون السعادة في الدنيا وفي الآخرة.
عباد الله: إنه ما بذل أحد نفسه وجهده وما يملك ولا ضحى بالغالي والنفيس، ولا تحمل من المشاق والبلاء، ولا تعرض لمكدرات ومحزنات مثل محمد رسول الله -عليه الصلاة والسلام- من أجل سعادة أمته ونجاتها وسلامتها وعافيتها صلى الله عليه صلاة وسلاماً ما بقيت الدنيا، وتعاقب الليل والنهار، وجزاه الله عن أمته خير ما جزى نبياً عن أمته، فإنه لو تتبعت الأمة فضل الله -تعالى- عليها به صلى الله عليه وسلم ما التفت بعد الله إلى أحد غيره، ولا أذنت لألسنتها أن تذكر أحداً بعد الله -تعالى- وتثني عليه بعد رسولها ونبيها، روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلا قول الله -عز وجل- في ابراهيم: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) [إبراهيم: 36]، وقول عيسى -عليه السلام-: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة: 118] فرفع يديه وقال: "اللهم أمتي أمتي" وبكى، فقال الله -عز وجل-: "يا جبريل اذهب إلى محمد، وربك أعلم فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل -عليه السلام- فسأله فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما قال، وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمدٍ فقل: إنّا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك".
ويصف صلى الله عليه وسلم فضله على أمته في الآخرة على الصراط يصف الناس وهم يمرون كالبرق وكالريح، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً؛ يقول عليه الصلاة والسلام: "وفي حافتي الصراط كلاليب معلقةٌ مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناجٍ، ومكدوسٌ في النار"، يقول: "ونبيكم قائمٌ على الصراط، يقول: يا رب سلم سلم" (رواه البخاري ومسلم).
ويدخل فئام من الأمة النار؛ كما في حديث الشفاعة يقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "فانطلق فأستأذن على ربي، فيؤذن لي فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن يُلهمنيه الله، ثم أخر له ساجداً، فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك، وقل يُسمع لك، وسل تُعطه، واشفع تُشفع، فأقول: رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبةٍ من برةٍ أو شعيرةٍ من إيمان فأخرجه منها".
يتردد على ربه بهذه الصفة يشفع أمته ثلاث مرات وفي الثالثة يقول: فأقول يا رب أمتي أمتي، فيقال لي: "انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان، فأخرجه من النار" (رواه البخاري ومسلم)، وقال أيضاً في رواية بعد ما يسأل ربه يقال له: "يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاءُ الناس فيما سوى ذلك من الأبواب" (رواه البخاري ومسلم).
أيها المسلمون: هذه أمثله قليلة من أمثلة كثيرة لا تحصى ضرب فيها محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثال، وأرفع المنازل، وأصدق البراهين على حبه لأمته، وكانت الأمة شغله الشاغل وهمه الذي لازمه في الدنيا والآخرة كما أخبر.
ومن هنا نقول: إن الأمة لن تبلغ مكافأته، ورد جميله، مهما أوتيت من جهد، ولن تبلغ ذلك أبداً، إلا أن تسأل ربها أن يجزيه عنها خير ما جزى أنبياءه ورسله عن أممهم وأقوامهم، لكن هذا يدعوها لمحبته ومودته، فتجعله أحب حبيب لها بعد الخالق -جل وعلا-، فإنه لم ولن يبذل لها أحد كما بذل لها رسولها ونبيها -صلى الله عليه وسلم-، ولن تتشرف بمثله أبداً، فهو حبيبها الأول الرؤوف الرحيم بها، والحريص عليها.
إن محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصلٌ عظيم من أصول الدين، فرضها الله -تعالى- على عبيده، ثم أراهم الله -تعالى- كيف استحقت محبته عليكم وفرضت، هل رأيتم مخلوقاً يبذل نفسه لمخلوق إلى هذه الدرجة، بل يبذل نفسه ويرهقها حرصاً منه عليهم مع كفار هذه الأمة حتى ناداه ربه أن يرحم نفسه ويهون عليه، فيقول له: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) [الكهف: 6]، وفي آية الشعراء: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 3] أي تكاد تقتل نفسك وتهلكها من أجل هؤلاء المعاندين من شدة حرصه وجهده الذي يبذله لإقناعهم ونجاتهم.
ويقول لنا وهو يصور حاله مع الأمة الشاردة عن هديه ومنهجه: "إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها (يعني يدفعن ويمنعهن) حتى لا يقعن في النار" ثم يقول: "وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي"، وفي رواية: "أنا آخذ بحجزكم عن النار هلّم عن النار هلّم عن النار، فتغلبوني تقحمون فيها" (رواه مسلم).
إن محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معناها: تقديم شرعه على كل شرع، وتقديم أمره بعد أمر الله على كل أمر، فأمر الله وأمر رسوله ليس محل نقاش واختيار: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب: 36]، (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ) [القصص: 68].
كما تقتضي محبته صلى الله عليه وسلم: التأسي به، وتحقيق الاقتداء بسنته، في أخلاقه وآدابه، في نوافله وتطوعاته، في أكله وشربه ولباسه، في جميع آدابه الكاملة، وأخلاقه الطاهرة.
كما تقتضي محبته: تعظيمه وتوقيره، والأدب معه، وفق المأذون، وحسب المشروع.
ومن محبته: الثناء عليه بما هو أهله بما أثنى عليه ربه، وإن من أعظم الثناء عليه: إكثار الصلاة والسلام عليه عند ورود اسمه أو صفته أو ذكره؛ يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وإن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه" (رواه أبو داود وهو حديث صحيح)، وعند أبي داود أيضاً: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً (يعني لا تصلون فيها) ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم".
ومن مظاهر محبته: تذكره دائماً، وتمني رؤيته، وسؤال الله -تعالى- شفاعته، وورود حوضه، ومرافقته في الجنة، والحشر تحت لوائه، وسؤال الله -تعالى- له الوسيلة بعد كل أذان؛ كما أمر بذلك صلى الله عليه وسلم: "ثم سلوا الله لي الوسيلة فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي" (رواه البخاري ومسلم).
وناداكم الرسول يا معشر المسلمين يا أهل القرون المتأخرة من أمته، وأثنى عليكم ثناءً كبيراً، وأنكم من أشد أمته حباً له، اسمعوا ما يقول نبيكم -عليه الصلاة والسلام-: "من أشد أمتي لي حباً ناسٌ يكونون بعدي يودّ أحدهم لو رآني بأهله وماله" (رواه مسلم). والحديث معناه: أن ناساً من الأمة يحبون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حباً شديداً في آخر الأمة، من شدة حبهم له يتمنى الواحد رؤية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو على حساب أهله وماله، ولو أن يكون الأهل والمال ثمناً لرؤيته صلى الله عليه وسلم.
كما أن من علامات حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: محبة قرابته، وآل بيته، وأزواجه، ومحبة جميع صحابته، وتوقيرهم ومعرفة فضلهم، وحفظ حرماتهم، ومعرفة مكانتهم، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في آل بيتي أذكركم الله في آل بيتي" (رواه مسلم)، وقال: "لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه" (رواه البخاري ومسلم).
وإن من أكبر محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصدق على تحققها: متابعة شريعته، والعمل بها، وتقبل نصيحته عامة، وخاصة في التمسك بالدين والشريعة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح").
فالاهتمام بالشريعة، والعمل بها، والمحافظة عليها، ومتابعة السنّة، والهدي الصحيح؛ كل ذلك من محبة صاحب الشريعة -صلى الله عليه وسلم- الناصح الأمين.
إن محمداً -صلى الله عليه وسلم- ليس كأي إنسان في هذا العالم، بل يختلف اختلافاً كلياً عن أي إنسان ظهر في هذه الدنيا، لقد جاء بدين من عند الله هو أقوم الأديان وأكملها وأشرفها، جاء لإسعاد البشرية ونجاتهم، جاء ليدلهم على الطريق المستقيم المؤدي إلى مرضات الله -عز وجل-، جاء ليقول للناس: (اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر: 38].
إن من ورائكم جنة ونار، إن هذه الدنيا زائلة منتهية -بإذن الله- في يوم من الأيام، وإن البشرية صائرة إما إلى جنة أبداً وإما إلى نار سرمداً، فمن اتبع محمداً وآمن به بعد إيمانه بالله، وما جاءت به الشريعة، فله جزاءً الحسنى.
وأما من أعرض عن محمد ودينه فإنه مقبل على نار وأهوال وعذاب دائمين لا ينقطعان، لهذا نقول: إن رسول الله وشرعه يختلف اختلافاً كلياً عن أي مخلوق وجد في هذه الدنيا؛ لذا وجب الاهتمام برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشريعته وأحاديثه، وما أخبر عنه، وحذر منه، فلتأخذ الأمة أمرها على محمل الجد، وتلتفت إلى ربها، ولترجع من هذا الإعراض عن الشريعة الذي قتلها وأضعفها وأهانها.
إن المسلمين وقعوا في الخذلان القاتل المميت، والتأخر المقيت، والعذاب المهين، والاحتقار من الأمم عندما اتخذوا محمداً -صلى الله عليه وسلم- ودينه وشريعته مجرد تمتمات وشعارات وطقوس يرجعون إليها في أوقات متباعدة قليلة، ورضوا بأن تلصق التهم بالدين، ويوصف دين الله بأوصاف الدناءة والوضعية والمهانة، وأعطى المسلمون صورة مغايرة لما ينبغي أن يكون عليه اتباع ملة الإسلام من الانحرافات العقدية، والسلوكيات والتصرفات الأخلاقية، وساهم بعض ضعاف المسلمين مساهمة كبيرة في إعطاء الأمم الأخرى فكرة مظلمة عن الإسلام والقرآن بسبب جهلهم، وضحالة ثقافتهم الشرعية الأصلية.
أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- وبرهنوا على حبكم لله ورسوله، والشريعة؛ بالعمل بها، وإظهارها، والتحدث باسمها، ورفع شعارها، ودعوة الناس إليها، والدفاع عنها.
وأما الاقتصار على اسم الإسلام ورسم القرآن، والزعم بحب الله ورسوله؛ فإن هذا لا ينفع ولن ينفع إذاً أبداً.
وإن الله -تعالى- لن يترك خير أمة خلقها وأكرمها بأكرم رسول، وأسمى شريعة، لن يتركها بهذا الضعف، وهذا الإذلال، بل سيعلي شأنها، ويرفع رايتها، وسيخضع الرقاب لها، ولكن على يد أقوام غيركم؛ كما قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) [المائدة: 54]، وقوله سبحانه: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38].