العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - التوحيد |
اعلموا -رحمكم الله- أنَّ توحيد الله -تعالى- وإخلاص الدين له هو الأساس العظيم الذي قامت عليه دعوة النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وهو العماد المتين الذي قام عليه دين الإسلام، فلا إسلام ولا إيمان ولا دين بلا توحيد؛ فمن نقض التوحيد نقض الإيمان، ومن فارق التوحيد فارق الدين. ومن هنا جاء الإسلام ببراهينه الناصعة، وحججه الساطعة، وأدلته القوية الظاهرة؛ محارباً لكل ناقض للتوحيد، مفارقٍ لأصله وأساسه، والنصوص في...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله حق تقواه وراقبوه مراقبة من يعلم أن ربه يسمعه ويراه.
ثم اعلموا -رحمكم الله- أنَّ توحيد الله -تعالى- وإخلاص الدين له هو الأساس العظيم الذي قامت عليه دعوة النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وهو العماد المتين الذي قام عليه دين الإسلام، فلا إسلام ولا إيمان ولا دين بلا توحيد؛ فمن نقض التوحيد نقض الإيمان، ومن فارق التوحيد فارق الدين.
عباد الله: ومن هنا جاء الإسلام ببراهينه الناصعة، وحججه الساطعة، وأدلته القوية الظاهرة؛ محارباً لكل ناقض للتوحيد، مفارقٍ لأصله وأساسه، والنصوص في الكتاب والسنة المحاربة له الدالة على فساده وبطلانه، وأنه أضل الضلال، وأخطر الذنوب.
عباد الله: وإنَّ من الكفريات الظاهرة والشركيات الخطيرة التي جاء الإسلام بنقضها ومحاربتها: "السحر".
والسحر هو عبارة عن عزائم ورقى وعقد تؤثر في القلوب والأبدان، فيمرض، ويقتل، ويفرِّق بين المرء وزوجه، ويفعل بالناس شروراً كثيرة ويلحق بهم أضراراً خطيرة، وله من المفاسد والأضرار والمخاطر ما الله به عليم، ومن أعظم أخطاره ومفاسده: أنه لا يتم ولا يكون إلا مع الكفر بالله العظيم، فالسحر لا يجامع الإيمان، ولا يكون الساحر مؤمناً، ومن سَحَر فقد كفر بالله العظيم.
والمراد بالسحر هنا: ما كان من قبل الشياطين وعن طريق عبادتها وعبادة الكواكب، يقول الله -تعالى-: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[البقرة:101-102] فهذه الآيات الكريمات دلت على كفر الساحر من وجوه كثيرة بيّنها أهل العلم، منها: أولاً: نفي الكفر عن نبي الله سليمان -عليه السلام- في معرض اتهامه بالسحر في قوله: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ)، فدل ذلك على أن من كان ساحراً فهو كافر.
ثانياً: التصريح بكفر الشياطين منوطاً بتعليمهم الناسَ السحر.
ثالثاً: تحذير الملكين طالبَ تعلم السحر بأنه كفر.
رابعاً: نفي النصيب في الآخرة عن متخذه، ونفي النصيب بالكلية لا يكون إلا للكافر -والعياذ بالله-.
خامساً: قوله تعالى في تمامها: (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[البقرة: 103]، وهذا من أصرح الأدلة وأوضحها على كفر الساحر بنفي الإيمان عنه بالكلية، فإنه لا يقال للمؤمن المتقي "ولو أنه آمن واتقى"، وإنما قال تعالى ذلك لمن كفر وفجر وعمل بالسحر واتبعه.
وقد صرَّح بذلك أئمة السلف من الصحابة والتابعين، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "من سحر فقد أشرك"، وقال ابن جريج -رحمه الله-: "لا يجترئ على السحر إلا الكافر".
وقد قال بكفره الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك وأحمد -رحمهم الله-.
وأما الشافعي -رحمه الله- فيقول: لا يكفرُ إلا أن يكون في سحره شرك فيكفر، يقول رحمه الله: إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر مثل اعتقاد أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر، فإن اعتقد إباحته كفر" هذا نص قوله رحمه الله.
وهو عند التحقيق ليس بينه وبين القول الأول اختلاف، فقد نص رحمه الله أن من اعتقد ما يعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر، والسحر لا يكون إلا بهذا، لا يكون إلا من قبل الشيطان لمن يتقرب إليها وإلى الكواكب، وأما السحر الذي يكون عن طريق الأدوية ونحوها فليس سحراً ولكن يكون حكمه حراماً لمضرته يعزر من يفعله تعزيراً بليغاً.
عباد الله: وحكم الساحر القتل، وقد جاء قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم: عمر بن الخطاب، وحفصة أمُّ المؤمنين، وجندب الأزدي -رضي الله عنهم أجمعين-، ففي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: "كتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: "أن اقتلوا كل ساحر وساحرة " قال: فقتلنا ثلاث سواحر".
وروى الإمام مالك في موطئه وعبد الرزاق: "أن حفصة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قتلت جارية لها سحرتها وكانت قد دبرتها، فأمرت بها فقتلت".
وروى البخاري في تاريخه عن أبي عثمان النهدي قال: كان عند الوليد رجل يلعب فذبح إنساناً فعجبنا فأعاد رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتله، وفي رواية أنه قال: "إن كان صادقاً فليحيِ نفسه".
وذكر الذهبي في السير في ترجمة خالد القسري عن أبي بكر بن عياش قال: "رأيت خالداً القسري حين أتى بالمغيرة بن سعيد وأصحابه -والمغيرة هذا أحد السحرة-، وكان يريهم أنه يحيي الموتى، فقتل خالد واحداً منهم، ثم قال للمغيرة: أحيه، فقال: والله ما أحيي الموتى، قال: لتحيينه أو لأضربن عنقك، ثم أمر بطَنٍّ من قصب فأضرموه، وقال: اعتنقه، فأبى، فعدا رجل من أتباعه فاعتنقه، قال أبو بكر: فرأيت النار تأكله وهو يشير بالسبابة، فقال خالد: هذا والله أحق بالرئاسة منك، ثم قتله وقتل أصحابه"، ومن حسنات خالد هذا قصته المشهورة في قتل الجعد بن درهم إمام التعطيل.
وقد اختلف أهل العلم في الساحر هل يستتاب أو يُقتل بدون استتابة؟
وظاهر عمل الصحابة في الآثار المتقدمة أنه يُقتل من غير استتابة.
وذكر أقوال أهل العلم في المسألة وأدلة كل قول تجدها مبسوطة في كتب أهل العلم، ومن أجمع الكتب وأوعبها في هذه المسألة وغيرها من مسائل التوحيد: "كتاب التوحيد" للإمام المجدد والشيخ المصلح شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، وشروحاته كثيرة، ومن أحسنها وأجمعها كتاب: "تيسير العزيز الحميد" لحفيده، وتلميذه الشيخ سليمان بن عبد الله -رحم الله الجميع وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء-.
عباد الله: إنَّ قتل الساحر وإزهاق روحه فيه تخليصٌ للمجتمع المسلم من أداة شر وتخريب وفتك بالمسلمين، فالساحر شروره كثيرة، وأخطاره عديدة، وجنايته على الإسلام والمسلمين كبيرة، فهو يشتت رابطة المجتمع المسلم، ويخلخل كيانه، ويفرِّق بين الأسر المسلمة، وينشر العداوة والبغضاء بين المسلمين، ويزعزع أمن المسلمين، ويخرب ديارهم، وينقلهم إلى الحضيض والهلكة.
ولهذا -عباد الله- فإنَّا من هذا المنبر لنحمد الله -تعالى- ونثني عليه الخير كله على ما قيَّضه لحكومة هذه البلاد -أيَّدها الله وزادها من توفيقه وحرسها- من تتبُّع لهؤلاء المفسدين، وقطع لدابرهم، واستئصال لشأفَتهم وشرورهم، ومن ذلكم ما تم إعلانه يوم الجمعة الماضي من قِبل وزارة الداخلية من تنفيذ لحكم القتل في رجل ساحر لممارسته أعمال السحر والشعوذة، ووجد في حيازته مجموعة من الكتب الشركية والخرافية، وجاء في القرار: أنه نظراً لما يحدثه السحر والشعوذة من أضرار جسيمة على الفرد والمجتمع في الدين والنفس والمال والعقل، وأن ما فعله المدعى عليه فيه ضرر عظيم يستحق العقوبة الصارمة التي تقطع شره وتردع غيره فقد تقرر الحكم بقتله، وصُدِّق الحكم من هيئة التمييز، ومن مجلس القضاء الأعلى بهيئته الدائمة وصدر الأمر السامي بإنفاذ ما تقرر شرعاً بحقه، ونُفِّذ الحكم يوم الجمعة الماضي.
فلله الحمد أولاً وآخراً وله الشكر ظاهراً وباطنا على نعمه الجزيلة وآله العظيمة التي لا تعد ولا تحصى، ونسأله بمنِّه وكرمه أن يوفق ولاة الأمر في هذه البلاد لكل خير، وأن يعينهم على تتبع هؤلاء المجرمين، وقطع دابر هؤلاء المفسدين.
وإن من حقوقهم على كل مسلم: أن يدعو لهم بالتوفيق والسداد والإعانة على الخير والتوفيق لكل خير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[المائدة: 33].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.