الوتر
كلمة (الوِتر) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، ومعناها الفرد،...
العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
رمضان يُخاطبك: أنا شهر المغفرة وأنا شهر الرحمة وأنا شهر لين القلوب وسلامة الصدور ونقاء العيوب، جاء رمضان ليقول للكون وما فيه: أنا شهر العتق من النار فهل تعرضت لما يوجب عِتقك ونجاتك من النار وغضب الجبار؟ جاء رمضان ليُضعف الشهوات الجسمانية والخطرات الشيطانية والنزوات الخيالية، كيف لا يفرح المؤمن بحلول موسمٍ عليه يكون سبب نجاته وعتاقه وسلامته من أعدائه؟!
الخطبة الأولى:
الحمد لله على ما منَّ به مِن البشائر، ومنح في أوقات الخير من البر والنفائس والنوادر، وأشهد أن لا إله إلا الله وفق هذه الأمة لشهر الجِد والنصر والبصائر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بشرَ ورغبَ في الخير في شهر رمضان فكان نبراسًا لكل عاملٍ مُثابر.
أيها المسلمون: اتقوا الله فتقواه خير مكتسب وخير زادٍ مُدخرٌ مُرتقب.
عباد الله: النفوس جُبِلت على حب البشارة وجميل الألفاظ والعبارة، النفوس تتطلع إلى البشائر وإلى الفضائل وحسن الظن والمظاهر ولهذا تأتي البشارة بالأمور السارة (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [البقرة: 25]، حثًّا وترغيبًا وجِدًّا واستمرارًا وتشويقًا، فبشرهم بإيمانهم وأعمالهم جزاءهم ومآلهم وما منحهم مولاهم.
وتأتي البشارة للمؤمن (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا) [الأحزاب:47]، يا لها من آية تفتح أبواب الخيرات وتتنسم التفاؤل والجِد، وتستنشق عبير الفرح والمسرات، فالمؤمن أمره خير ومآله إلى خير وأوقاته مملوءة بالخير.
ومن البشائر أمة الخير والمنابر: حلول شهر رمضان وبلوغ أوقات الغفران وإدراك شهر القرآن، فإليكم البشائر والخيرات والفضائل والحسنات والمنح والرحمات.
مَن ناله داءٌ دوٍ بذنوبه | فليأتي من رمضان باب طبيبه |
فخلوف هذا الصوم يا قوم اعلموا | أشهى من المسك السحيق وطيبه |
أوَ ليس هذا القول قول مليككم | الصوم لي وأنا الذي أجزي به |
كيف لا يفرح المسلم ويشتاق ويستبشر ويرتق بشهر الرحمة والمغفرة والعِتاق
أتى شهر السعد والمكرمات | فحيّه في أجمل الذكرياتِ |
يا موسم الغفران أتحفتنا | أنت المُنى يا زمن الصالحاتِ |
وفي صحيح السُنة: "رغم أنفُ ثم رغم أنفُ ثم رغم أنف مَن دخل عليه رمضان فلم يُغفر له"، وقد جاءت المغفرة في شهر المغفرة في ثلاث مواطن مُدخرة فمَن صامه وقام ليلة القدر؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، فإذا المرء لم يتعرض المغفرة والاستغفار والتوبة في شهر الغفران والأوبة، فمتى قل لي بربك تكون له عودة وتوبةٌ صادقةٌ وأوبة فتعرض لمغفرة الزلات والتوبة مما اقترفته من السيئات في الأيام الماضيات.
أيها المسلمون: كيف لا يُبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان، كيف لا يُبشر المُذنب بغلق أبواب النيران، كيف لا يُبشر المؤمن العاقل لوقتٍ يُغلّ فيه الشيطان من أين يُشبه هذا الزمان زمان! وقد كان ولد عدنان يُعلنها مُدوية في الأذهان وتُجلجل في المسامع والأذان كما روى الشيخان: "إذا دخل رمضان فُتِحت أبواب الجنان، وغلقت أبواب النار، وصُفدت الشياطين"، من أعظم البشائر فتح أبواب الجنان لمُبتغي المنازل والمفاخر، ومن أعظم البشائر فتح أبواب الرحمات والنفحات والبركات فما موقف المؤمن الصادق إلا السعي والفرح والبذل المُبادر.
أتى رمضان مزرعة العباد | لتطهير القلوب من الفسادِ |
فأدي حقوقه قولاً وفعلاً | وزادك فاتخذه للمعادِ |
فمَن زرع الحبوب وما سقاها | تأوه نادمًا يوم الحصادِ |
فأتى رمضان ليفتح أبواب السنابل والرحمات والانتصارات على كل عدوٍ صائل وينشر التفاؤل وحسن الظن المُتبادل (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:56].
رمضان يُخاطبك: أنا شهر المغفرة وأنا شهر الرحمة وأنا شهر لين القلوب وسلامة الصدور ونقاء العيوب، جاء رمضان ليقول للكون وما فيه: أنا شهر العتق من النار فهل تعرضت لما يوجب عِتقك ونجاتك من النار وغضب الجبار؟ جاء رمضان ليُضعف الشهوات الجسمانية والخطرات الشيطانية والنزوات الخيالية، كيف لا يفرح المؤمن بحلول موسمٍ عليه يكون سبب نجاته وعتاقه وسلامته من أعدائه.
من نفحات شهر البركات: توحيد التلاحم والاجتماعات وتقوية الصلات وشد عُرى التماسك والعلاقات بين أطياف وأطراف المجتمعات فأتى ليُحقق (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10]، فضمائر الجمع (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:21]، (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185]، ويُذكر المسلم بإخوانه المسلمين الذين حلت بهم الفتن والمِحن وتسلط عليهم العدو الغاشم، ونزلت بهم النكبات والتشريد والضياع والقسوة والتعذيب والانصياع، وما يحصل من التفككات والاختلافات والنزاعات والشقاقات؛ التي يلج منها المشركون والمشركات والمنافقون والمنافقات، يتذكروا ما هم فيه بؤسٍ وشقاء وضعفٍ وقلة حيلة وعناء ليمد يد العون لهم ويعطف على أحوالهم ويختزن لهم من دعواته وصيحاته وهتافاته؛ بأن يحفظ عليهم أديانهم وعقولهم وأبدانهم وأموالهم وديارهم وأرضهم، وأن يُمكنهم من عدوهم ويحفظ عليهم أعراضهم ويحقن دمائهم ويرحم ضعفهم ويجبر مُصابهم.
فالبعض لا يُفرِّق بين سحوره وإفطاره لما يسمع من جنباته صواريخ وقذائف متتالية، أو جوعٍ وفقرٍ لا يُدرك معه طعم شرابه وطعامه، أو خوفٍ وقلقٍ أرعب أهله وأولاده، أو اختلافاتٍ يزرع من خلالها أعداءُ الفتن شرارات متوقدة وتفرقاتٍ متشتتة، فالفتن إذا عمّت طمت، وإذا فشت انتشرت فتصبح كالهشيم في النار لا تدع بيتًا ولا قلبًا ولا سكنًا ولا إلفا تأكل الرطب واليابس وتُعري السِتر واللابس، نرى رمضان فرصة للتغيير والإقبال على العليم الخبير وتوحيد الصف وجمع الشمل ونبذ الخلاف والتغاضي عن الزلات والعفو عن الهفوات فتلك وربي من نفحات شهر الرحمات.
ومن النفحات في شهر الرحمات: أن جزاء الصائمين لا عد له ولا حد بل يُكال له بلا وزن وقيد، فهو شهر الصبر وربنا يقول: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10]، والله يقول: "الصوم لي وأنا أجزي به" أي فضلٍ بعد هذا؟ وأي كرمٍ بعد هذا؟ وأي جودٍ بعد هذا؟ وهذا قول المولى جل وعلا.
ومن النفحات في شهر الرحمات: أن رمضان زمن الراحة النفسية والحياة الطيبة والسعادة المستقرة والنفوس المطمئنة والأجواء الإيمانية والنسمات الربانية والهبات الإلهية والواحات الروحانية، فالصائم عليه السمت ويلزم السكوت والصمت، إن سبه أحد أو خاصمه فشعاره: إني صائم، فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل ولا يغتر ولا يغضب، بل يعيش حياة طالما فقدها أو بحث عنها فلم يجدها ولسان حاله:
مرحبًا أهلاً وسهلاً بالصيام | يا حبيبًا زارنا في كل عام |
قد لاقينا بحبٍ مُفعمٍ كل حبٍ | في سوى المولى حرام |
لا تعاقبنا فقد عاقبنا | قلقٌ أسهرنا جُنح الظلام |
فاقبل اللهم ربي صومنا | ثم زدنا من عطاياك الجِثام |
ولهذا تجد الفرق الشاسع مع النفس والأولاد والأُسر والأحفاد بل مع التواصلات الاجتماعية والتقنيات الحديثة العنكبوتية كيف حالنا معها في غير رمضان عناءٌ وتعب وشقاءٌ ونصَّب وفي رمضان راحةٌ وأدب وسكونٌ ورغب.
وحافظ على شهر الصيام فإنه | لخامس أركان لدين محمدِ |
تُغلق أبواب الجحيم إذا أتى | وتُفتح أبواب الجنان لعُبَدِ |
تُزخرف جنات النعيم وحورها | لأهل الرضا فيه وأهل التعبدِ |
وقد خصه الله العظيم بليلةٍ | على ألف شهرٍ فُضلت فلتُرصدِ |
فأرغم بأنف القاطع الشهر غافلًا | وأعظم بأجر المخلص المتعبدِ |
فقم ليله واطو نهارك صائمًا | وصُم صومه عن كل موهن ومُفسدِ |
شعار الصائم: العمل الصالح ينتقل ما بين قراءةٍ ولزوم مسجد وتسبيح وذكرٍ وصلةٍ وبرٍ وتراويح وصدقةٍ وإطعام وقضاء حاجة وبذل سلام فهو يُسابق أنفاسه ويُنافس جٌلّاسه (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة:10-11]، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين:26].
قلت ما سمعتم وأستغفر الله إنه كان توابًا غفورًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على الصيام والقيام، ثم الصلاة والسلام والتمام على الرسول المصطفى الختام وآله وصحبه الكرام.
من النفحاتّ: أن الصيام يزيد الإيمان ويشوق للرحمن ويعلو للجنان فهو من أعظم الحسنات المُذهبة للسيئات ورفع الدرجات.
ومن نفحاته وخيراته: أنه شفيعٌ لأصحابه يوم القيامة.
ومن نفحاته وبركاته: ما فيه من فرحاته وذلك أن لكل صائم ستين فرحة؛ ثلاثون في الدنيا ومثلها في الأخرى، كما قال المصطفى: "للصائم فرحتان: فرحةٌ عند فطره، وفرحةٌ عند لقاء ربه".
أما فرحته عند فطره فلسلامته وتمامه وعدم خسرانه ونقصانه، وهي نموذج للسعادة الواقعية واللذة الروحانية التي يجدها الجميع على موائد الإفطار تعلوهم الابتسامة والمسار، يفرح أن الله أباح له الأكل والطعام مما كان مباحًا له قبل ذلك، فالنفوس مجبولة على حب الأكل والشرب فتعبدًا لله إمساكًا وتعبدًا لله إفطارًا.
أما الفرحة الأخرى والنفحة الكبرى يوم لقاء المولى حينما يُجازيه على صيامه أعظم الجزاء بالثواب والشفاعة وإدخاله جنة المأوى من باب الريان وهو بابٌ للصائمين المخلصين المتبعين.
ومن النفحات أيها الراغبون في الحسنات: أنه جُنة ووقايةٌ وجَنة وحسناتٌ مضاعفة جئت يا رمضان لتقول للعيون: صومي عن النظر الحرام قبل أن تُغضبي الملك العلام، جئت لتقول لأيدٍ: صومي أيها الأيدي عن سفك الدماء وقتل الأبرياء، جئت لتقول: أيها الإنسان احفظ اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والبهتان، جئت لتقول للأذان: احذري سماع الغناء والألحان، جئت لتُطهر البطون عن أكل الحرام كالربا والرشوة والغش والإجرام وهكذا في سلسلة تربوية وزكاة نفسية.
فيا ذوي الهمم العالية ويا ذوي المطالب الغالية والقمم السامية الغنائم الغنائم قبل الفوات والعزائم العزائم على الجِد وهجر البطالات فلأوقات الفضائل فوات أيام معدودات، رمضان مضمار السابقين وغنيمة الصادقين ومُنية المنافسين وغنيمة المقصرين بالتوبة والإقبال على رب العالمين.
ومن النفحات في شهر الخيرات: أنه شهرٌ تكف النفوس وكأنها عن المعاصي في حبوس وتظمأ فيه الأكبادُ عن الكؤوس، وتطلق من الخشية الرؤوس، شهرٌ طوبى ثم طوبى ثم طوبى لأقوامٍ كانت هممهم عالية وعيونهم من خشية الله باكية فزهدوا في الدار الفانية وشمروا إلى جناتٍ عالية قطوفها دانية ويُقال لهم في الآخرة: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة:24]، (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 17-18]، وبالنهار لربهم صائمون وبالبكاء من خشيته يضجون وللحلال من خشية الحرام يتركون.
عليك بما يُفيدك في المعادِ | وما تنجو به يوم التنادِ |
فما لك ليس ينفع فيك وعظٌ | ولا زجرٌ كأنك من جمادِ |
ستندم إن رحلت بغير زادٍ | وتشقى إذ يُناديك المنادي |
فلا تفرح بمالٍ تقتنيه | فإنك فيه معكوس المرادِ |
وتب ما جنيت وأنت حيٌ | وكن منتبهًا من ذا الرقادِ |
يسرك أن تكون رفيق قومٍ | لهم زادٌ وأنت بغير زادِ |
شهرٌ هذه منافعه وهذه عطاياه ومنافحه وهذه فضائله ومواهبه، حريٌ بالجِد والاجتهاد والقوة والنشاط والنية الخالصة والعزيمة الصادقة.
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجبٍ | حتى عصى ربه في شهر شعبانِ |
لقد أظلك شهر الصبر بعدهما | فلا تُصيره أيضًا شهر عصيانِ |
واتلُ الكتاب وسبح فيه مجتهدًا | فإنه شهر تسبيحٍ وقرآنِ |
فاحمل على جسدٍ ترجو النجاة له | فسوف تُضرم أجساد بنيرانِ |
كم كنت تعرف ممَن صام في سلفٍ | من بين أهلٍ وجيرانٍ وإخوانِ |
أفناهم الموت واستبقاك بعدهمُ | حيًا فما أقرب القاصي من الدانيِ |
ومعجبٌ بثياب العيد يقطعها | فأصبحت في غدٍ أثواب أكفانِ |
حتى متى يعمر الإنسان مسكنه | مصير مسكنه قبرٌ للإنسانِ |
وصلوا وسلموا....