القاهر
كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | الرهواني محمد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - |
من رحمة الله -جل جلاله- وفضلِه علينا: أن جعل لنا مواسم الخير والبركات فيها نفحات تصيب من يتعرض لها ويغتنمها، مواسم يفرح بها المؤمنون، ويتسابق فيها الصالحون، ويتنافس فيها المتنافسون، ويرجع فيها المذنبون، ولسان...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً.
معاشر عمار بيت الله: يقول الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الطبراني عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله؛ فإن لله نفحات من رحمته، يصيب بها مَن يشاء من عباده".
من رحمة الله -جل جلاله- وفضلِه علينا: أن جعل لنا مواسم الخير والبركات فيها نفحات تصيب من يتعرض لها ويغتنمها، مواسم يفرح بها المؤمنون، ويتسابق فيها الصالحون، ويتنافس فيها المتنافسون، ويرجع فيها المذنبون، ولسان حالهم يقول: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه: 84].
ولقد حل بنا شهر من تلكم النفحات، ألا وهو: شهر شعبان الذي قال عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ذاك شهر يغفُل الناس عنه، بين رجبٍ ورمضان".
فشهر شعبان فرصة عظيمة لنفض غبار الغفلة عن النفوس والقلوب، والاجتهادِ في طاعة علام الغيوب.
هو الشهر الذي أحبَّه الحبيب النبي الله -صلى الله عليه وسلم-، واختصَّه بعبادة تفضِّله على غيره من الشهور، وبذلك يتميز بأنه شهر الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ ففي صحيح أبي داود عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان أحبّ الشهور إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنْ يصومَه شعبان، ثم يَصِله برمضان".
فتعالوا -بنا معاشر المؤمنين والمؤمنات- لنقف وقفات إيمانية تربوية مع هذا الشهر المبارك، وقفات نستلهم منها الدروس والعبر:
أول وقفة: هي وقفة اختبارية عملية في حياتنا، لنسأل أنفسنا: هل نحب ما أحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هذا الرسول الحبيب -صلوات ربي وسلامه- الذي قال في حقه رب العزة -جل جلاله-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21]، وقال سبحانه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران: 31]، فهل تأسينا بسنته؟ هل اقتفينا أثره؟ وهل نجد في أنفسنا الشوق لهذا الشهر كما كان يجده صلى الله عليه وسلم؟ وهل نجعل حبنا للأشياء مرتبطاً بما يحبه الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ أم مرتبطا بما تهواه أنفسُنا وتشتهيه؟
الوقفة الثانية: روى الترمذي وغيره عن أسامة بن زيد قال: قلت: يا رسول الله لمْ أرَكَ تصوم شهرا من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: "ذلك شهْرٌ يغْفُل الناس عنْه بيْن رجب ورمضان، وهو شهر تُرْفَع فيه الأعمال إلى ربِّ العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائمٌ"، "ذلك شهر يغفُل الناس عنْه".
إن أخطر شيء في حياة الإنسان هو الغفلة، والغفلة عن ماذا؟ الغفلة عن أعظم شيء في الوجود، ألا هو الصلة بالله وطاعته والتقرب إليه، فالغفلة عن الله -جل جلاله- مُهلكة للإنسان، فكم من غافل عن مولاه لم يستفق إلا وهو صريع بين الأموات! فما ينفعه وقتها الندم وما تنفعه الحسرات.
المصيبة الأعظم -أيها المؤمنون- أن يغفل العبد عن الله ولقائه وهو سبحانه القائل: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس: 7 - 8].
إذا تأملنا فسنجد أن من غفل توافرت فيه هذه الصفات، الرضا بالحياة الدنيا والاطمئنانُ بها، وكأنها النعيم المقيم الذي لا يفنى ولا يزول، فغفل عن الموت وما بعد الموت، غفل المسكين أنه سيسأل غداً عما جنت يداه، فأقبل على الشهوات والملذات لا يفرق بين حلالها وحرامها، يتابع نفسه في كل ما تشتهيه بغير تفكير ولا خوف ولا وجل، فحَق عليه وعلى أمثاله قول العزيز الجبار: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [النحل: 107 - 109].
النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أجابَ أسامة عن سؤاله بقوله: "ذلك شهر يغفُل الناس عنه بين رجب ورمضان".
كأن الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يقول لك أيها المسلم، لك أيتها المسلمة، بل لكل مسلمٍ: يا مسلم، لا ينبغي لك أن تغفُل عن الله حين يغفُل الناس، بل لا بد أن تكون متيقظا لربك -سبحانه وتعالى- غير غافلٍ، فأنت المقبلُ إذا تولى الناس، وأنت المتصدق إذا بخلوا، وأنت القائم إذا ناموا، وأنت الذاكر لله إذا أصابتهم الغفلة وابتعدوا.
نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- ينبه الناس جميعا إلى أهمية عِمارة أوقات الغفلة بالطاعة، وهذا ما كان يفعلُه سلفنا الصالح.
لقد كانوا يهتمون بهذا الشهر اهتماما خاصا لِما عرفوا ما فيه من نفحات وكرامات، ويتسابقون ويتنافسون في الطاعات وفعل الخيرات والقربات، وكأنهم يُهيئون قلوبهم لاستقبال نفحات رمضان الكبرى، كانوا يجعلون من شهر شعبان شهر التدريب والتأهيل التربوي والرباني، يجعلون هذا الشهر الذي يغفُل عنه كثير من الناس بمثابة دفعة قوية وحركة تأهيلية لمزيد من الطاعة والخير في رمضان، حتى إذا دخل عليهم رمضان، دخل عليهم وقلوبُهم عامرةٌ بالإيمان، وألسنتُهم رطبةٌ بذكر الله الحنان المنان، وجوارحُهم عفيفةٌ طاهرةٌ نقيَّةٌ عن الحرام، كانوا يقولون: شهرُ رجب هو شهرُ الزرع، وشهرُ شعبان هو شهرُ سقي الزرع، وشهرُ رمضان هو شهْرُ حَصادِ الزرع، بل شبَّهوا شهرَ رجب بالريح، وشهرَ شعبان بالغيم، وشهرَ رمضان بالمطَرِ، ومَن لم يَزرع ويغرِس في رجب، ولم يسقِ في شعبان، فكيف يريد أن يحْصدَ في رمضان؟!
فهذا حال نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وحال سلف الأمة في هذا الشهر المبارك، فما هو موقعنا من هذه الأعمال والدرجات؟
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الوقفة الثالثة: "وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم" شهر شعبان هو الموسم الذي تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، إنها لحظة حاسمة في مسار حياتنا، يتحدد على أساسها رفع أعمالنا إلى المولى -تبارك وتعالى- القائل: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10]، فهل نحب أن ترفع أعمالنا ونحن في طاعةٍ للمولى وثبات على دينه، وفي إخلاص وعمل وجهاد وتضحية؟ أم نقبل أن ترفع أعمالنا ونحن في سكون وراحة وقعود وضعف همة؟
الوقفة الرابعة: روى الطبراني وابن حبان عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن".
ليتفقد كل واحد منا عقيدته، فلعل الواحد منا مبتلى بشيء من الشركيات وهو لا يدري، فالمشرك هو الذي عبد غير الله أو تقرب لغير الله بأي نوع من أنواع العبادة، فمن دعا غير الله -تعالى- فقد أشرك، ومن استعان أو استغاث بغير الله فقد أشرك، ومن توسل بغير الله فقد أشرك، ومن ذبح لغير الله فقد أشرك، ومن توجه إلى أصحاب القبور وسألهم قضاءَ الحاجات فقد كفر وأشرك، ومن توكل على غير الله أو فوض أمره لغير الله فقد أشرك.
ومن أشرك فقد استحق العقوبة، ألا وهي: عدم المغفرة والخلود في النار، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء: 116]، وقال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [المائدة: 72].
وأما المشاحن فهو المبغض والمخاصم والمقاطع والحاقد والحاسد، وهذه الخصلة سبب لعدم المغفرة؛ روى مسلم عن أبى هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنينِ والخميس، فيُغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: أنظروا هذين حتى يصطلحا".
والجامع بين الشرك والشحناء: أن الشرك مفسدٌ لعلاقة الإنسان بربه، والمشاحن مفسدٌ لعلاقته بإخوانه المؤمنين، وإذا فسدت علاقة الإنسان بربه وبإخوانه لم يبق له من دينه شيء، فكيف يغفر الله له؟! لذلك حُرم المشرك والمشاحن من فضل الله في تلك الليلة المباركة.
وختاما -معاشر الصالحين والصالحات-: ونحن في بداية هذا الشهر: لنجعل البداية بداية صحيحة، نستهلها بالتوبة الصادقة النصوح، وبالاستغفار من جميع المعاصي والذنوب والمخالفات.
فرمضان عما قريب سيحل علينا ضيفا، فلنهيئ أنفسنا، ولنعد العدة، فلقد مات أقوام وولد آخرون، وسعد أقوام وشقي آخرون، واهتدى أقوام وضل آخرون، فلنقدِّر نعمة الله علينا، ونسأله سبحانه أن يبارك لنا في شعبان وأن يبلغنا رمضان.