الكبير
كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...
العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أعلام الدعاة |
ذكر الله -تعالى- آيات السكينة في كتابه, وهي آياتٌ عُلم بالتجربة أنّ من كان خائفًا فقالها أمِنْ, ومن كان قلقًا سكَن. ومِنْ أعظم مَنِ اسْتعملها فرأى نفعَها وبركتَها: العلاّمةُ الإمام, والنحرير الهمام, مُفتي الأنام وشيخُ الإسلام, ابن تيميّةَ عليه الرحمةُ والرضوان. قال ابن القيم –رحمه الله -: "وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- إِذَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ: قَرَأَ آيَاتِ السَّكِينَةِ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي وَاقِعَةٍ عَظِيمَةٍ جَرَتْ لَهُ فِي مَرَضِهِ، تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَنْ حَمْلِهَا - مِنْ مُحَارَبَةِ أَرْوَاحٍ شَيْطَانِيَّةٍ، ظَهَرَتْ لَهُ إِذْ ذَاكَ فِي حَالِ ضَعْفِ الْقُوَّةِ - قَالَ: فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيَّ الْأَمْرُ، قُلْتُ لِأَقَارِبِي وَمَنْ حَوْلِيَ: اقْرَءُوا آيَاتِ السَّكِينَةِ، قَالَ:..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي يُنزلُ السّكينةَ على مَن يشاء, فيُجلي بها الهموم والغموم والبلاء, وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, جلَّ عن الشبيه والنظير, واسْتغنى عن الْمُعينِ والوزير, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ, ختم الله به الأنبياء والْمُرسلين, وأعزّ به أتباعَه من الْمُؤمنين, وأذلّ به الكفارَ والْمُشركين, فأضحت رايةُ الإسلام عالية, ومعالمُ الحقِّ والدينِ واضحة, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وأصْحابه والتابعين, وَسَلَّمَ تسْليماً كثيراً إلى يومِ الدين.
أما بعد, فاتقوا الله أيها المسلمون, فالتقوى من أعظم أسباب انْشرح الصدور, والخلودِ في دارِ السرور والحبور.
أمة الإسلام: لقد اخترع الأطباء مُسكِّناتٍ ومُهدِّئاتٍ للأوجاع والأمراض, فلا تكاد تجد عضواً من أعضاء الإنسان, إلا وأوجدوا له مُسكِّنًا يُسكِّن ألمه, ويُهدِّئُ وجعه, فإذا راجعت الطبيب تشكو له ألماً ألَـمَّ بك, أعطاك مع العلاج ذاك الْمُسكن.
ولكنّه لن يُعطيك السّكينةَ, فالْمُسَكِّنُ مُؤَقَّتٌ وله أعراضٌ جانبيّة, أمَّا السكينةُ فعلاجٌ دائمٌ لا ضرر منها.
السّكينةُ هي السّعادةُ الطّمأنينةُ, والراحة النفسيّةُ والقلبيّة.
السّكينةُ هي النجاةُ من الخوف والقلقِ, والاضطراب والأرق.
السّكينةُ هي صمام الأمان من الأمراض النفسيّة, والوساوسِ الشيطانيّة.
فأين نجد السكينةَ -معاشر المسلمين؟- إننا لن نجدها إلا في كتاب ربّنا -جل وعلا-, لن نجدها إلا في اللجوء إلى واهب السكينة.
كلّ شيءٍ تخافُه فإنّك تهربُ منه, إلا ربّنا -تبارك وتعالى-, فإنك إذا خِفْتَه هرَبْتَ إليه: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات: 50].
معاشر المسلمين: لقد ذكر -تعالى- آيات السكينة في كتابه, وهي آياتٌ عُلم بالتجربة أنّ من كان خائفًا فقالها أمِنْ, ومن كان قلقًا سكَن.
ومِنْ أعظم مَنِ اسْتعملها فرأى نفعَها وبركتَها: العلاّمةُ الإمام, والنحرير الهمام, مُفتي الأنام وشيخُ الإسلام, ابن تيميّةَ عليه الرحمةُ والرضوان.
قال ابن القيم –رحمه الله -: "وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- إِذَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ: قَرَأَ آيَاتِ السَّكِينَةِ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي وَاقِعَةٍ عَظِيمَةٍ جَرَتْ لَهُ فِي مَرَضِهِ، تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَنْ حَمْلِهَا - مِنْ مُحَارَبَةِ أَرْوَاحٍ شَيْطَانِيَّةٍ، ظَهَرَتْ لَهُ إِذْ ذَاكَ فِي حَالِ ضَعْفِ الْقُوَّةِ - قَالَ: فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيَّ الْأَمْرُ، قُلْتُ لِأَقَارِبِي وَمَنْ حَوْلِيَ: اقْرَءُوا آيَاتِ السَّكِينَةِ، قَالَ: ثُمَّ أَقْلَعَ عَنِّي ذَلِكَ الْحَالُ، وَجَلَسْتُ وَمَا بِي قَلَبَةٌ.
قال ابن القيم: وَقَدْ جَرَّبْتُ أَنَا أَيْضًا قِرَاءَةَ هَذِهِ الْآيَاتِ, عِنْدَ اضْطِرَابِ الْقَلْبِ بِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ, فَرَأَيْتُ لَهَا تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي سُكُونِهِ وَطُمَأْنِينَتِهِ". ا.هـ
الله أكبر! ما أعظم هذا العلاج, وما أسهله وأيسره, حيث يتعالج به المريضُ الحزينُ في فراشه, ويتداوى به المحبوسُ في سجنه, والمفجوعُ والمصابُ والمكلوم, والحيرانُ والمهموم.
واعلموا علم اليقين: أن هذا العلاج لا ينفع إلا الموقنين بنفعه, المؤمنين بصدقه وصحّته.
وسأقف مع آيات السكينةِ بشيءٍ من التوضيح, وَقَدْ ذَكَرَها اللَّهُ -تعالى- فِي كِتَابِهِ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ.
الموضعُ الأول: في قصّة الْملكِ طالوتَ, قال تعالى: (وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ)[البقرة :248].
والتَّابُوتُ شيءٌ من الخشب يُشبه الصندوق، يَنْزِلُ على بني إسرائيل ويصطحبونه معهم، دليلاً على صحّة مُلْك طالوت, فيه السكينة, أي: أنه كالشيء الذي يُسَكِّنُهُم ويَطْمَئِنُّون إليه, وهذا من آيات الله, وكانوا يصطحبونه في غزواتهم وحروبِهم, فيه السكينةُ من الله تعالى, فإذا رأوا هذا التابوت سَكَنَتْ قلوبُهُم، وانْشَرَحَتْ صدورُهم.
الموضعُ الثاني: في يوم حنين, وفي تلك اللَّحظات الحرجة العصيبة، التي قال الله عنها (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ)، أنزل السّكينةَ عليهم حين عَلِم الله صِدْقَهُم, قال تعالى: (ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا) [التوبة : 26].
الموضعُ الثالث: في الغار يومَ الهجرة, الذي لو نظر أحدُ المشركين إلى موضع قدمه لرأى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّمَ- وصاحبَه, وبينما هما في تلك الحالة الحرجة الشديدة, وقد انتشر الأعداءُ من كلِّ جانبٍ يطلبونهما ليقتلوهما, فأنزل الله عليهما السّكينةَ لتُذهب عنهما كلّ خوفٍ وهمّ, فقال تعالى: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا) [التوبة: 40].
الموضعُ الرابعُ: يومَ الحديبية, حين اضْطربتْ آراءُ المسلمين وكادوا أنْ يختلفوا, فأنزل الله السّكينة لتُثبّتهم, فقال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ)[الفتح :4].
الموضعُ الخامس: يوم أنْ بايع الصحابةُ رسولَ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّمَ- على الموت في الحديبية, التي سُمّيتْ ببيعةِ الرضوان, فأنزل سكينته عليهم جزاءً لهم, قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) [الفتح : 18].
الموضع السادس: يوم الحديبية أيضًا, يوم أنْ ثارتِ الحميّةُ الجاهليّة عند الكُفّار, قال تعالى: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)[الفتح: 26].
فهذه - يا أمة الإسلام- آياتُ السكينة في القرآن، وهذه بعض آثارِهَا على قلوب أهل الإيمان، فلْنحفظها ولْنُكثرْ من قراءتها، على أنفسنا وأزواجنا وأولادنا.
"وَأَصْلُ السَّكِينَةِ هِيَ الطُّمَأْنِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَالسُّكُونُ الَّذِي يُنْزِلُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ، عِنْدَ اضْطِرَابِهِ مِنْ شِدَّةِ الْمَخَاوِفِ. فَلَا يَنْزَعِجُ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ. وَيُوجِبُ لَهُ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ، وَقُوَّةَ الْيَقِينِ وَالثَّبَاتِ.
وَلِهَذَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ, عَنْ إِنْزَالِهَا عَلَى رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّمَ- وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ, فِي مَوَاضِعِ الْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ, كَيَوْمِ الْهِجْرَةِ، إِذْ هُوَ وَصَاحِبُهُ فِي الْغَارِ وَالْعَدُوُّ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ, لَوْ نَظَرَ أَحَدُهُمْ إِلَى مَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَرَآهُمَا, وَكَيَوْمِ حُنَيْنٍ، حِينَ وَلَّوْا مُدَبِّرِينَ مِنْ شِدَّةِ بَأْسِ الْكُفَّارِ، لَا يَلْوِي أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ, وَكَيَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ, حِينَ اضْطَرَبَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْ تَحَكُّمِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ، وَدُخُولِهِمْ تَحْتَ شُرُوطِهِمُ الَّتِي لَا تَتَحَمَّلُهَا النُّفُوسُ, وَحَسْبُكَ بِضَعْفِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ حَمْلِهَا - وَهُوَ عُمَرُ -! حَتَّى ثَبَّتَهُ اللَّهُ بِالصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ".
اللهم أنزل السّكينةَ على قلوبِنا, والسّعادةَ على نُفُوسِنَا, إنك على كلّ شيءٍ قدير.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليُّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتَمُ الْمُرسلين, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين....
أما بعد: أيها المسلمون: لقد تألَّمنا هذه الأيّام من مُصيبتين:
الْمُصيبةُ الأولى: ما حلّ بالمضطهدين والمشردين من أهل الشام, حيث لازالتْ تعصف بمخيّماتهم عواصفُ ثلجيّةٌ باردة, أقضَّتْ مضاجعهم, وقتلت بعضًا من أطفالهم وشُيوخهم, وهم في العراء بلا مأوى سوى خيامٍ رديئة.
فهم بأشد الحاجة إلى دعمهم، والوقوفِ إلى جانبهم، بالمال والدعاء، والعتاد والدواء، فإذا لم نقف معهم في محنتهم فمتى نقفُ معهم؟ وإذا لم نُنْفق أموالنا لهم، فلِمَن ننفقها؟!
فيا أمَّةَ الإسلام، مَن لليتامى والأطفال، والشيوخ والمرضى، أنَهْنأُ أنْ ننام في الدِّفْء وهم في العراء؟، هم في الضَّنك والبرد ونحن في الرخاء؟
هذا وقد فتحتْ الهيئاتُ الإغاثيّةُ أبوابَها لاسْتقبال صدقاتِكُمْ وَدَعْمِكُم, فشاركوهم ولو بالقليل اليسير، لتبرأَ ذمَّتُكم أمام الله تعالى.
والْمُصيبةُ الثانية: ما أقدمتْ عليه الفئةُ الضالة الباغية, من سفك دماءِ الأبرياء في الحدودِ الشماليّة, فقتلوا ثلاثةً من رجال أمننا وحُماةِ وطننا.
ويا سبحان الله, ما ذنب رجال أمننا حين قتلوهم؟ أذنبهم أنهم يحمون بلادهم من المجرمين والمروِّجين؟ ماذا يقولون لله -تعالى- في هذه الدماء الطاهرة, ما ذنب أبنائهم حين يتموهم, ما ذنب زوجاتهم وأهليهم؟
إن هذه الأعمال الإجرامية الآثمة, لا يعملها والله إلاّ أناسٌ تجردوا من إنسانيتهم ومروءتهم وفطرتهم, التي فطرهم الله عليها, وما علموا أن هذه الأعمالَ الإجراميةَ لا تزيد مُجتمعنا إلاّ قناعةً بضلالهم, وتماسكاً وترابطاً واتحاداً.
نسأل الله تعالى أن يغفر لحماةِ ديارنا الذي قتلوا غدراً, وأنْ يرزقَ أهلهم الصبر والسِّلوان, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.