التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | عدنان مصطفى خطاطبة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
حتى تعيش عملية تناولك للسحور على هدي نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-. حتى تجعل منها عبادة فريدة. حتى تحول السحور إلى قربة وطاعة. عليك أن تعيش هدي نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- في عملية تعاطيك مع السحور. أي أن تعيش عملية الأكل وقت السحور آخذًا بما سنَّه وشرعه وهداك إليه نبيك وقدوتك محمد -صلى الله عليه وسلم-.
الخطبة الأولى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أيها الإخوة المؤمنون الصائمون وأيتها الأخوات المؤمنات الصائمات: يشترك الصائمون والصائمات في صيام نهار رمضان من الفجر إلى الغروب، ولكنهم يختلفون في كثير من أحوالهم في نهار رمضان وفي ليله، ومن ذلك اختلاف أحوالهم وقت السحر.
فالواقع يشير إلى أن أحوال الصائمين والصائمات وقت السحر مختلفة ومتفاوتة؛ فهذا يسهر طوال الليل إلى قبل الفجر ثم ينام، فلا يشهد وقت السحور ولا يشهد صلاة الفجر، وهذا خاسر بلا شك، وذاك يشهد وقت السحور ويكتفي بالتسحر دون الصلاة، وينام بلا صلاة فجر وهذا خاسر أيضًا.
وهناك من يشهد وقت السحور فيكتفي بالتسحر وصلاة الفجر وينام وهذا على خير، ولكن فاتته فضائل عظيمة، وهناك صنف يعيش وقت السحر على هدي نبيه وقدوته سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
أيها الإخوة: كيف ينظر المؤمن إلى عملية تناوله للسحور؟ وما هي النظرة النبوية لأكلة السحور؟ وما حجم خسارة الذين يتهاونون بتناول السحور أو ينظرون إليه على أنه مجرد أكله كغيرها من الأكلات؟
عباد الله: حتى تعيش عملية تناولك للسحور على هدي نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-. حتى تجعل منها عبادة فريدة. حتى تحول السحور إلى قربة وطاعة. عليك أن تعيش هدي نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- في عملية تعاطيك مع السحور. أي أن تعيش عملية الأكل وقت السحور آخذًا بما سنَّه وشرعه وهداك إليه نبيك وقدوتك محمد -صلى الله عليه وسلم-.
أيها الصائم وأيتها الصائمة: اتبع الهدي النبوي الآتي لتجعل من سحورك؛ أي: من أكلك وشربك وقت السحور عبادة فريدة. ولكن كيف يكون ذلك عمليًّا؟
هناك ست منازل من منازل الهدي النبوي التي عليك أن تتدرج فيها وترتقي من خلالها يسحورك، وتطبقها عمليًّا، ليكون لسحورك طعم آخر وطبيعة إيمانية متميزة، تجد فيها نفسك قد ارتقت بالسنة كما شبعت بالأكلة.
أيها الصائم وأيتها الصائمة: تقول المنزلة الأولى: لا تدع السحور، ولو بشربة ماء، هكذا طلب منك نبيك -صلى الله عليه وسلم-. فتسحر تنفيذًا لأمره، لطلبه منك ذلك، ليكن هذا هو دافعك. فهو -صلى الله عليه وسلم- القائل والآمر كما جاء في مجموعة من الروايات الثابتة في كتب السنن: "تَسَحَّرُوا.."، "فَلا تَدَعُوهُ - أي السحور-"، "فَلا تَدَعُوهَا"، أي: أكلة السحور". فاستشعر هذا حينما تقوم للسحور وحينما تبدأ السحور.
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أرادك أن تأكل على السحور. "فيَنْبَغِي لِلمُسلِمِ أَنْ لا يُفَرِّطَ في هَذهِ السُنَّةِ العَظيمَةِ، وأَنْ يَحتَسِبَ الأجْرَ فيها مُستَحْضِراً النيَّةَ الصَّالحةَ، وأَنْ لا يَكُونَ سُحُورُهُ مِنْ بَابِ العَادَة".
أيها الصائم وأيتها الصائمة: تقول المنزلة الثانية: اغتنم وخذ "البركة" التي في السحور، لا تدعها تفوتك. عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- كما في الحديث الصحيح قَالَ: قَالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- : "تَسَحَّرُوا فَإِنَّ في السَّحُور بَرَكَةً".
وعَنْ أَبي سَعيدٍ الخُدْريِّ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ فَلا تَدَعُوهُ وَلَو أَنْ يَجرَعَ أحَدُكُمْ جُرْعَةً مِنْ مَاءٍ".
والبَرَكَةُ هي ثُبُوتُ الخَيرِ الإلَهي في الشَّيءِ وكَثرَتُهُ واسْتِمْرَارُهُ شَيْئاً بَعْدَ شَيء، واللهُ تَعَالَى يُبَارِكُ مَا شَاءَ مِنْ خَلقِهِ، وفي الحديث ثُبوتُ البَرَكَةِ في السُّحُورِ.
ومن ذَلكَ: مبُاركَةُ السُّحُور (أي: الأكل) والبركة في السحور تحصل بجهات متعددة ِمنها: قوَّةً على الصِّيَامِ، وعلى طَاعَةِ الله –عَزَّ وَجَلَّ- في النَّهارِ، ومُدَافَعَةَ سُوءِ الخُلُقِ الَّذِي يَنتُجُ عَنْ الجُوعِ والعَطَشِ، والتقوى به على العبادة والزيادة في النشاط، والتسبب في الذكر والدعاء وقت مظنة الإجابة، واتباع السنة".
والسَّحُورَ يَقَعُ بِأَيِّ شَيء مَهْمَا قلَّ، وَلَوْ كَانَ جُرْعَةَ مَاءٍ كَما هُوَ ظَاهِرٌ في الحديث؛ "السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ فَلا تَدَعُوهُ، وَلَو أَنْ يَجرَعَ أحَدُكُمْ جُرْعَةً مِنْ مَاءٍ".
ولذلك عليك أن تعلم أنك حينما تأكل وقت السحور شيئًا ما فإنه تحل فيه البركة من الله تعالى، وعليك أن تعتقد أن الأكل الذي تأكله وقت السحور بقصد التسحر في رمضان يختلف عن الكل الذي تأكله وقت السحر قبل رمضان وبعده رمضان، فذاك أكل تحلّ فيه البركة الإلهية وهذا أكل عادي.
أيها الصائم وأيتها الصائمة: وأما المنزلة الثالثة فتقول: فبالسحور تتميز عن الكافرين، تُظهِر عقيدتك ومخالفتك لليهود والنصارى، عَنْ عَبْدِالله بنِ الحَارِثِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «أنَّ رَجُلاً دَخَلَ عَلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَتَسَحَّرُ فقَالَ: "إِنَّ السَّحُورَ برَكَةٌ أَعْطَاكُمُوهَا اللهُ –عَزَّ وَجَلَّ- فَلا تَدَعُوهَا" (رَوَاهُ أَحْمَدُ والنَّسَائي).
وعَنْ عَمْروِ بنِ العَاصِ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "فَصْلُ مَا بَينَ صِيامِنَا وصِيَامِ أَهْلِ الكِتَابِ أَكَلَةُ السَّحَر" (رواه مسلم).
فالسحور مِنْ خَصَائِصِ هَذهِ الأُمَّةِ في صَوْمِها، وَإنَّ في السُّحُورِ مُخالَفَةً لأهْلِ الكِتابِ؛ لأَنَّهُم لا يَتَسَحَّرُون، ومُخَالَفَتُهُم أَصْلٌ عَظِيمٌ من أُصُولِ دِينِنا؛ ولِذا حُرِّمَ التَّشبُّه بهم في شَعَائِرِهِم ومَا اخْتُصُّوا به مِنْ عَادَاتِهِم وأخْلاقِهِم. وأَنَّ في السُّحُورِ شكراً لِنعمَةِ الله تَعَالَى، وأَخْذَاً بِرُخْصَتِهِ؛ إِذْ أَبَاحَ لنَا الأَكْلَ مِنَ الغُرُوبِ إِلى الفَجْرِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُحرَّماً في أَوَّلِ الأَمرِ". والمؤمن من أمثالكم حريص على أن يظهر تمايزه في شعائر تعبده لله تعالى عن تدين اليهود والنصارى الضالين المضلين.
أيها الصائم وأيتها الصائمة: وأما المنزلة الرابعة فتقول: هل تعرف ما فضلك فيها؟ أتعرف ما منزلتك ايها المتسحر في هذا الوقت من الليل؟ لقد بلغ من فضل الله على المتسحرين، ومن فضلك ومنزلتك عند الله أيها المتسحر: صَلاةُ الله تَعَالَى ومَلائِكتِهِ -عَلَيْهم السَّلامُ- عليك.
نعم عليك أنت أيها المؤمن المتسحر، وهذه من أعظم بركات السحور، "والصَّلاةُ مِنَ الله تَعَالَى على المُتَسَحِّرين معناها: رَحمَتُهُم والرِّضى عَنْ فِعلِهِم، والثَّنَاءُ عَلَيْهِم به، وصَلاةُ الملائِكَةِ عَلَيْهِم مَعْنَاهَا: استِغفَارُهُم لَهم".
استمع معي إلى هذا الحديث: عَنْ أَبي سَوَيدٍ -رضي الله عنه، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى المُتسَحِّرينَ".
وعَنْ ابنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ اللهَ ومَلائِكتَهُ يُصَلُّونَ عَلى المُتسَحِّرِين" (رواه ابن حبان).
فلا يفوتك هذا الفضل أن تناله وتحظى به، وماذا تريد بركة أعظم من ذلك، فتفكر في الأمر وتدبر المشهد. وكلمات النبوة فيها الغنية عن كلامنا.
أيها الصائم وأيتها الصائمة: وأما المنزلة الخامسة فتقول: ما أَفْضَلِ السَّحُورِ؟ نعم لك أن تتسحر على ما شئت من الحلال، ولك أن تأكل ما طاب من الطعام وتشرب ما لذّ من الشراب، ولكن يبقى هناك هدي من نبيك -صلى الله عليه وسلم- لا بد لك أن تطبقه وتأخذ به حتى تجعل من سحورك كله عبادة وقربة، فما هو أفضل السحور؟ إنه السَّحُورَ على التَّمْرِ؛ فقد أَثنَى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيه، فعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "نِعْمَ سَحُورُ المؤْمِنِ التَّمْر" (رَوَاهُ أَبو دَاودَ).
أيها الصائم وأيتها الصائمة: وأما المنزلة السادسة فتقول: إن تأخيرك للسحور عبادة، نعم، فإنه يستحب تأخير السحور الى قرب وقت الفجر؛ لحديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، حيث يقول فيه: "تسحرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قمنا إلى الصلاة. قلت: كم بينهما؟ قال: خمسون آية".
معناه بينهما قدر قراءة خمسين آية، أو أن يقرأ خمسين آية، وفيه الحث على تأخير السحور إلى قبيل الفجر، وفيه الاجتماع على السحور، وفيه حسن الأدب في العبارة لقوله: "تسحرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، ولم يقل نحن ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لما يشعر لفظ المعية بالتبعية، وقال القرطبي: "فيه دلالة على أن الفراغ من السحور كان قبل طلوع الفجر".
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
أيها الصائمون والصائمات: أن تعيش مراحل صيامك في نهارك وليلك على هدي نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- معناه تحقيق العبودية لله تعالى، معناه الارتقاء بصومي في منازل الصالحين المقبولين، معناه تحقيق الاتباع وتجنب الابتداع، معناه أنني أعيش صيامًا مختلفًا عن صيام أولئك الذين غفلوا عن إحياء صيامهم وبثّ الروح فيها بهدي خير البشرية -صلوات الله وسلامه عليه-.
اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، وتقبلها منا يا أكرم الأكرمين.