البحث

عبارات مقترحة:

القدوس

كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...

الباسط

كلمة (الباسط) في اللغة اسم فاعل من البسط، وهو النشر والمدّ، وهو...

الرحيم

كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...

الشاب الشهيد مصعب بن عمير

العربية

المؤلف الرهواني محمد
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - أعلام الدعاة
عناصر الخطبة
  1. حاجة الناس للاقتداء بسير الصحابة .
  2. إيثار مصعب بن عمير وزهده وتواضعه .
  3. مشاركة مصعب بن عمير في غزوة أحد وتضحيته واستشهاده فيها .
  4. فضائل مصعب بن عمير في الآخرة .
  5. حث الشباب على الاقتداء بمصعب بن عمير .

اقتباس

الحديث عن حياة أي صحابي منهم ليس مجرد قصة عابرة للتسلية وشغل الوقت كأغلب قصص وثقافات السوق الرائجة، وإنما لتبيين موطن العبرة، وموضع العظة، ومعرفة طريق الأمل والنور.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، وسفيره إلى عباده، أرسله الله -عز وجل- بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وهدى به من الضلالة، وعلم به بعد الجهالة، فصلى الله عليه وآله الطيبين وأزواجه الطاهرين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

معاشر المؤمنين والمؤمنات: كلما تقدم الزمان احتاج الناس إلى نماذج بشرية مشرقة تُحيي فيهم الأمل، وتبعث فيهم الحماس، فتستعيد الأجيال اللاحقة منها سر نهضتها وتميزِها، ولتستنير بها في سيرها إلى الله -سبحانه-، ولقد كان أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- خيرَ نماذج هذه الأمة ممن يُقتدى بهم.

والحديث عن حياة أي صحابي منهم ليس مجرد قصة عابرة للتسلية وشغل الوقت كأغلب قصص وثقافات السوق الرائجة، وإنما لتبيين موطن العبرة وموضع العظة ومعرفة طريق الأمل والنور.

وقد قال أهل السير والتراجم: القصد من ذكر أخبار الأخيار وشرح أحوالهم وأخلاقهم ليَقتدي بهم السالك، فأولئك (الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90].

واليوم -بإذن الله- سيكون موضوع خطبة هذه الجمعة -بإذن الله- عن واحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ إنه الفتى "مصعب بن عمير".

"مصعب بن عمير" ذلكم الشاب التقي الداعية المجاهد الذي نور الله قلبه، فأسلم طائعا وهاجر معلما وداعيا، ومات مجاهدا شهيدا.

كان في صغره وقبل إسلامه شابا غنيا جميلا مدللا منعما، حسن الوجه، يلبس أحسن الثياب وأغلاها، يعرفه أهل مكة بعطره الذي يفوح منه دائما، وأبواه كانا من أغنى أغنياء مكة، يحبانه حبا عظيما، ولا يردا له طلبا، بل رغباته وطلباته كلها مستجابة ومنفذة، حتى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يذكره ويقول: "ما رأيت بمكة أحسن لِمَّةً ولا أرق حُلّة ولا أنعم نِعمة من مصعب بن عمير".

مصعب لم يمنعه ذلك النعيم من أن يدخل في دين الله فآثر ما عند الله، آثر الآخرة ليحظى بنعيمها، ودخل في دين الله طاعة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يقل كما يقول بعض المترفين اليوم من شبابنا: إن هذا الدين كَبْتٌ وحبس للمشاعر، مصعب لم يدفعه جماله ولا منصبه أن يجمع حوله الشبابَ الضائع المائع المتكسر البعيد عن الرجولة لينشغل بمغازلة النساء ومعاكستهن، بل سمع دعوة الحق، فاستجاب لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- في وقت كان المسلمون يعانون من أذى المشركين وتسلطهم، فأسرع للقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وهناك أعلن إسلامه.

أسلم مصعب الفتى فعلمت به أمه وكانت تحبه حباً شديداً فحاولت أن تُثنيه عن الإسلام فلم يستجب لها، فحبسته وحرمته من كل نعيم كانت تَغدُقه عليه.

لكن مصعبا كان يعلم أن ما حُرم منه في هذه الدنيا فما عند الله خير وأبقى، فهو ليس عنده أي تنازل أمام أمه، وليس لديه خيار آخر غير الإسلام، فلم يزدَدْ إلا ثباتا ورسوخا ولسان حاله يقول: ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي، ولن أترك ديني مهما حل بي من ضيق وشدة.

ولما اشتد الإيذاء بالمسلمين هاجر إلى أرض الحبشة، ثم عاد منها إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة، لقد اختاره واعتمده النبي -صلى الله عليه وسلم- أولَ وخيرَ سفير في الإسلامِ إلي يثرب، ليُعلِّم الناس القرآن ويُصلي بهم.

فقدَّر مصعب المسؤوليةَ التي أنيطت به، وحمل لواء الدعوة إلى الله عقيدة وسلوكا وجهادا، واستطاع بإخلاصه وحُسنِ خُلقه وصفاءِ نفسه ورجاحةِ عقله وحكمته، أن يجمع بين أهل يثربَ ويوحد بينهم ويحببَ إليهم دين الله وطاعةَ الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، لا كما يفعله بعض الساقطين في مجتمعنا هذا في السعي إلى زعزعة وتشكيك الناس في عقيدتهم باسم حرية المعتقد.

وتمضي الأيام والأعوام وفي غزوة أحد اختار الرسول -صلى الله عليه وسلم- مصعبا ليحمل لواء المسلمين، وتقع المعركة ويحتدم القتال، وكان النصر بداية للمسلمين، ولكن سرعان ما تحول النصر إلى هزيمة لما خالف الرماة أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونزلوا من فوق الجبل يجمعون الغنائم، فأخذ المشركون يقتلون المسلمين الذين بدأت صفوفهم تتمزق، فركز الأعداء على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذوا يتعقبونه، فأدرك مصعب هذا الخطر، ومضى يقاتل، وهمه أن يُلفت أنظار الأعداء إليه ليُشغلهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتجمع الأعداء حول مصعب، فضرب أحدهم يده اليمنى فقطعها، فحمل اللواء بيده اليسرى فقطعها عدو الله، فضم اللواء إلى صدره بعضديه، وهو يقول: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [آل عمران: 144] فضربه ضربة ثالثة فقتله، فمات شهيدا رضي الله عنه.

فلما انتهت المعركة وقف عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعا وقرأ: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 23].

نعم -معاشر الصالحين والصالحات-: كانت خاتمة مصعب الشهادة في سبيل الله.

ولقد صدق فيه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه".

"مصعب بن عمير" الشاب الذي كانت ترمقه العيون إكبارا وإعجابا لحسنه وغناه ومكانته، ينسلخ من ذلك الترف والنعيم كلِّه مبتغيا وجه الله -تعالى-، وما أعده لعباده المؤمنين، يُقتل شهيدا في سبيل الله، فلا يجد المسلمون عند موته غير ثوبٍ قصير لا يكفي كفنا له.

فرضي الله عنه وأرضاه بذلك الشرف، وقد ينال هذا الشرف -يا شبابنا- كلُّ مُصْعبي أتى بعده يحمل همه، ويُقَدِّمُ كل ما يملك من راحة النفس والنعمة والمال في سبيل هذا الدين.

مصعب -رضي الله عنه- باع الدنيا ففاز بالآخرة، قدم الرخيص فظفر بالغالي، يأتي يوم القيامة وفي ميزانه حسناتُ الذين أسلموا على يديه، وقد قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في الحديث الذي رواه البخاري: "فواللهِ لَأُن يهديَ اللهُ بك رجلا واحدا خيرٌ لك من أن يكون لك حُمْرُ النَّعَمِ".

ويأتي يوم القيامة أقوام من أمة النبي -صلى الله عليه وسلم- يحملون أوزارهم على ظهورهم وأوزاراً أخرى أمثال الجبال لِمَا ضلوا وأضلوا من الخلق عن الحق وصدوا عن سبيل الله، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثلُ أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثلُ آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا".

رحل مصعب الشاب كما سيرحل جميع الناس ولكنه رحل عزيزا وكبيرا قد أعذر إلى الله بعمله الصالح وجهده المضيء، فنال وسام الشرف من رب جواد كريم: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران: 169].

رحل مصعب ولم ترحل ذكراه ولا ذكرى بطولاته ولا ذكرى تضحياته من قلوب المجاهدين الأتقياء في كل زمان ومكان.

رحل مصعب ليقول لك: أيها التائه في البحث عن السعادة: من كان يظن أن السعادة في المال أو الجاه فقد أخطأ. من كان يظن أن السعادة في النسب أو الشرف فقد أخطأ. من كان يظن أن السعادة في المنصب أو السلطة فقد أخطأ.

رحل مصعب ليقول لكل فرد من هذه الأمة: من كان يريد الرفعة والعزة والسعادة فليطلبها في طاعة الله -عز وجل- وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون: 8].

فاللهم أحيينا حياة السعداء، وأمتنا موت الشهداء، وارزقنا مرافقة الأنبياء، وجدد في هذه الأمة بطولاتِ أولئك الأبطال المرضيين، واجمعنا وإياهم مع حبيبك ورسولك محمد في أعلى عليين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، ورحمنا بنبيه -عليه الصلاة والسلام-.

تلكم بعض الإضاءات من سيرة الصحابي الجليل مصعب بن عمير، فهل لشبابنا أن يتخذوه قدوة لهم ويكونوا مثلَه على الأقل في مجال الدعوة إلى الله والعبادة والعمل الصالح؟ هل لشبابنا أن يتذاكروا بطولته وجهاده واستشهاده في سبيل الله، بدل أن يتذاكروا بطولات لاعبي الكرة، ومغامرات وحماقات السفهاء الأغبياء من المفسدين والمفسدات المُضلين والمُضلات؟

مصعب الذي باع الدنيا بالآخرة وآثر النعيم المقيم على النعيم الزائل ينبغي أن يكون قدوة لكل شاب مترف يتقلب في نعمة الله –تعالى-، وأراد الرجوع إلى الله.

مصعب كلما تعمق القارئ في سيرته ازداد له حبا وهيبة وامتلأ إعجابا وإكبارا له.

ولا أقصد بكلامي هذا مجرد التفاخر والتواكل والاعتماد في الحاضر على الأحساب والأمجاد الأولى، فهذا لا يفيدنا شيئا في مجال البناء والنهضة بشبابنا الضائع وأمتِنا التائهة.

وإنما القصد من حديثي هو أن نغرس في شبابنا التفاني من أجل خدمة هذا الدين، وأن نربيهم ونؤدبهم على ذلك، حتى تصبح عزة أحدهم بدينه طابعا لا تطبعا وخُلقا لا تخلقا، فحينها نجني الثمرةَ المرجوة من شبابنا.

إنما أقصد بحديثي استلهام روحِ البطولات الرائدة لدى سلفنا الصالح، ليُصبح الحديث عنهم عنوانا صالحا لبعث الحياة في شباب هذا الجيل، وتجديد الأمل فيهم، وتفجير القوى الكامنة داخلهم، وإحداث إصلاح في هذه الأمة، للاتجاه نحو الأفضل والعمل من أجل غد مشرق مليء بالأمجاد، لا مجال فيه لمتخاذل أو ضعيف أو متردد.