اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله بن حميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
الشُّكرُ أدبٌ رفيعٌ، حرِيٌّ بكلِّ ذِي خُلُقٍ ومروءةٍ أن يتحلَّى به، ويُحاسِبَ النَّفسَ عليه. الشُّكرُ ظُهورُ أثر النِّعمةِ على العبدِ في القلبِ إيمانًا وحبًّا وشُهودًا، وفي اللِّسان حمدًا وثناءً وتحدُّثًا، وفي الجوارِحِ عبادةً وطاعةً وانقِيادًا. الشُّكرُ اعتِرافٌ بالجَميل، وما استغنَى أحدٌ مِن الناسِ عن الشُّكرِ شاكِرًا أو مشكُورًا، والحرُّ لا يكفُرُ النِّعمةَ، ومَن لم يكُن لقليلِ المعروفِ عنده وقعٌ أوشَكَ ألا يشكُرَ على الكثير، وغليظُ القلبِ هو الكَفُورُ.
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله كثيرًا كما يُنعِمُ كثيرًا، والله أكبر كبيرًا، وسُبحان الله بُكرةً وأصيلًا، لك الحمدُ ربَّنا بكل نعمةٍ أنعَمتَ بها علينا في قديمٍ أو حديثٍ، أو سِرٍّ أو علانِيةٍ، أو خاصَّةٍ أو عامَّةٍ، أو حيٍّ أو ميِّتٍ، أو شاهِدٍ أو غائِبٍ، والله أكبرُ كلما ارتفعَت الأصواتُ بالدعوات، وسُكِبَت مِن المحارِيب العبَرَات، وأفاضَ ربُّنا مِن النِّعَم والبرَكات، والفضلِ والخيرات.
ولك الحمدُ ربَّنا حتى ترضَى، ولك الحمدُ إذا رضِيتَ، ولك الحمدُ بعد الرِّضا، ولوجهِك الدائِمِ الباقِي الحمدُ كلُّه، والله أكبر مما نخافُ ونحذَر، والله أكبر ما تابَ تائِبٌ واستغفَر، وسُبحان الله حين تُمسُون وحين تُصبِحُون، (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [الروم: 18].
أحمدُه - سبحانه - على إسبالِ سِترهِ الجَمِيل، وأعوذُ به مِن مكرِه الوَبِيل، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو حسبُنا ونِعمَ الوكِيل، وأشهدُ أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا المنعُوت بالتوراةِ والإنجيلِ، المخصُوصِ بالتعظيمِ والتَّبجِيل، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه، وعلى آله أهلِ الشَّرفِ والتفضيلِ، وأصحابِهِ ذَوِي المقام الجَليل، والتابِعِين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا في البُكرة والأصِيل.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أما بعد: فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوَى الله، فاتَّقوا الله - رحمكم الله -؛ فالتقوَى هي أكرَمُ ما أسرَرتُم، وأحسَنُ ما أظهَرتُم، وأفضلُ ما ادَّخَرتُم، الواعِظُون بها كثير، والعامِلُون بها قليل، لا يقبَلُ الله غيرَها، ولا يرحَمُ إلا أهلَها، ولا يُثيبُ إلا عليها؛ فتقوَى الله أصلُ السلامة، وقاعِدةُ الثَّبات، وجِماعُ كلِّ خيرٍ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الحديد: 28].
الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بُكرةً وأصيلًا.
أيها المسلمون:
عيدُكم مُبارَك، وتقبَّل الله منَّا ومنكم الصيامَ والقيامَ وصالِحَ الأعمال. هنيئًا لكم ما صُمتُم وما أفطَرتُم، وهنيئًا لكم ما أكَلتُم وما لبِستُم، وما أنفقتُم وما تصدَّقتُم، وهنيئًا لكم ما فرِحتُم وما ابتَهجتُم.
عيدُكمُ التكبيرُ والتهليل والتحميد.
يا عبدَ الله! كلُّ يومٍ يمُرُّ عليك وأنت في طاعةِ الله فأنت في عيدٍ وفرحةٍ وسُرورٍ، وكلُّ يومٍ لا يُعصَى الله فيه فهو عيد. العيدُ لمَن أطاعَ الله، وعمِلَ المزيدَ، ونجَا يومَ الوعيد.
الله أكبر ما حمِدَ حامدٌ وشكَر، والله أكبر ما تابَ عبدٌ واستغفَر.
معاشر المسلمين: خُلُقٌ عظيمٌ، ومقامٌ مِن مقامات العبادة كريم أمرَ الله به، ونهَى عن ضدِّه، وأثنَى على أهلِه، وجعلَه غايةَ خلقِه وأمرِه، وسببًا للمزيدِ مِن فضلِه، وحارِسًا لنِعَمِه، هو حياةُ القلبِ وحيويَّتُه، ووعَدَ أهلَه بأحسن جزائِه، أهلُه هم المُنتفِعُون بآياتِه، اشتَقَّ لهم اسمًا مِن أسمائِه، هم القليلُون مِن عبادِه، وحسبُكم بهذا فضلًا وشرَفًا، وعلُوًّا وقَدرًا.
إنه - يا عباد الله -: الشُّكرُ والشاكِرُون، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13].
الشُّكرُ - حفِظَكم الله - أدبٌ رفيعٌ، حرِيٌّ بكلِّ ذِي خُلُقٍ ومروءةٍ أن يتحلَّى به، ويُحاسِبَ النَّفسَ عليه.
الشُّكرُ ظُهورُ أثر النِّعمةِ على العبدِ في القلبِ إيمانًا وحبًّا وشُهودًا، وفي اللِّسان حمدًا وثناءً وتحدُّثًا، وفي الجوارِحِ عبادةً وطاعةً وانقِيادًا.
الشُّكرُ اعتِرافٌ بالجَميل، وما استغنَى أحدٌ مِن الناسِ عن الشُّكرِ شاكِرًا أو مشكُورًا، والحرُّ لا يكفُرُ النِّعمةَ، ومَن لم يكُن لقليلِ المعروفِ عنده وقعٌ أوشَكَ ألا يشكُرَ على الكثير، وغليظُ القلبِ هو الكَفُورُ.
الشُّكرُ امتِنانٌ للمعروفِ، واعتِرافٌ بالفضلِ لمَن أسداهُ، ولا يعرِفُ الفضلَ في الناسِ إلا ذَوُوه، وهو دليلٌ على صفاءِ النَّفسِ، وطهارةِ القلبِ، وسلامةِ الصَّدر، وكمالِ العقلِ، وهو خيرُ عيشِ السُّعداء.
يقولُ ابنُ القيِّم - رحمه الله -: "بُنِي الدينُ على قاعدتَين: الذِّكرِ والشُّكرِ".
وهذان الأمران هما جِماعُ الدِّين؛ فذِكرُ الله مُستلزِمٌ لمعرِفتِه، وشُكرُه مُتضمِّنٌ لطاعتِه، وهذان هما الغايةُ مِن خلقِ الجنِّ والإنسِ، فثَبَتَ بما ذُكِرَ أن غايةَ الخلقِ والأمرِ أن يُذكَرَ وأن يُشكَر؛ يُذكَرَ فلا يُنسَى، ويُشكَرَ فلا يُكفَر.
الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، والعزَّةُ لله ولرسولِه وللمُؤمنين.
أيها الإخوة: رُؤوسُ النِّعم ثلاثةٌ: أولُها: نِعمةُ الإسلام التي لا تتمُّ نعمةٌ على الحقيقةِ إلا بها.
ثم نِعمةُ العافِية التي لا تستقِيمُ الحياةُ إلا بها. ثم نِعمةُ الرِّضا التي لا يَطِيبُ العيشُ إلا بها.
يقولُ الحسنُ البصريُّ - رحمه الله -: "الخيرُ الذي لا شرَّ فيه: العافِيةُ مع الشُّكر؛ فكَم مِن شاكرٍ وهو في بلاءٍ، وكَم مِن مُنعَمٍ عليه وهو غيرُ شاكرٍ، فإذا سألتُمُ اللهَ فاسألُوه الشُّكرَ مع العافِية".
وأركانُ الشُّكر ثلاثةٌ: الاعتِرافُ بها مُشاهَدةً لها في الدِّين، والنفسِ، والأهلِ، وفي المالِ، والحالِ، وفي الأبدانِ، والأوطانِ، وفي الشَّهرِ كلِّه.
ثم اليقينُ الجازِمُ بأنها مِن عند الله وحدَه لا شريكَ له، (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل: 53]. ثم صَرفُها في طاعةِ الله ومرضاتِه، والحذَرُ مِن استِعمالِها في معاصِي الله ومُخالفاتِه ومنهِيَّاتِه.
الله أكبر ما فرشحَ الصائِمُ بتمامِ صِيامِه واستبشَر، والله أكبر ما ذكَرَ ذاكِرٌ ربَّه وكبَّر.
معاشر المسلمين: وأولُ الشُّكر تحقيقُ العبوديَّة لله، قال - عزَّ شأنُه -: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الزمر: 66]، وقال - عزَّ وجل -: (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [النحل: 114]، وقال - جلَّ اسمُه -: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172].
وتأمَّلُوا معنَى الشُّكر في صَنيعِ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ "فقد كان يقومُ مِن الليلِ حتى تتفطَّر قدَمَاه الشريفتان - عليه الصلاة والسلام - ويقول: «أفلا أكونُ عبدًا شَكُورًا؟!».
فأعظمُ الشُّكر عبادةُ الله، والعملُ الصالِحُ بكلِّ أنواعِهِ ودُرُوبِهِ؛ مِن برِّ الوالدَين وطاعتِهما والإحسانِ إليهما، وصِلَة الرَّحِم، والإحسانِ إلى كل مُحتاجٍ، وبَذلِ المعروفِ في كل الوُجوهِ، وفي كل كبِدٍ رَطبةٍ أجرٌ، وحُسنُ التصرُّف والتدبِيرِ في المعاشِ شُكرٌ، ناهِيكُم بنِعمِ الله العظيمةِ في العافِيةِ في الأبدانِ، والأمنِ في الأوطانِ، ورغَدِ العيشِ، واجتِماعِ الكلِمة، وحِفظِ الدِّين والاستِقامةِ عليه، والانشِغالِ بالذِّكر.
«ومَن قال حين يُصبِحُ: اللهم مَا أصبَحَ بي مِن نعمةٍ أو بأحدٍ مِن خلقِك فمِنك وحدَك لا شريكَ لك، فلك الحمدُ والشُّكرُ؛ فقد أدَّى شُكرَ يومِه، ومَن قالَ ذلك حتى يُمسِي؛ فقد أدَّى شُكرَ ليلتِه».
وكلُّ خيرٍ تعملُه فهو شُكرٌ بالقولِ أو الفعلِ، في يدٍ مُحسِنة، وكفٍّ مُصافِحة، وبسمةٍ راضِية، ونظرةٍ حانِية، وهديَّةٍ ندِيَّة، وتعدادُ النِّعَم شُكرٌ، والتحدُّثُ بها شُكرٌ، ومَن أثنَى فقد شكَرَ، والقناعةُ شُكرٌ.
ومِن عظيمِ الشُّكر - عباد الله -: الرِّضا بنِعمةِ الله، وعدمُ استِقلالِها، أو احتِقارِها، أو التقليلِ مِن شُكرِها، والله يُحبُّ أن يرَى أثرَ نعمتِه على عبدِه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
معاشر المسلمين: الشُّكرُ قَيدٌ للنِّعَم الموجُودة، وصَيدٌ للنِّعَم المفقُودة، وهو اعتِرافٌ مِن العبدِ بمِنَّةِ الله عليه، وإقرارٌ بنِعمتِه عليه مِن خيرَي الدنيا والآخرة في النفسِ، والأهلِ، والمالِ، والأعمالِ، وفي شأنِ العبدِ كلِّه.
عباد الله: ومِن الشُّكرِ شُكرُ الناسِ؛ فمَن لا يشكُرُ الناسَ لا يشكُرُ الله. وجاء في بعضِ الرواياتِ: «أشكَرُ النَّاسِ لله أشكَرُهم للناسِ».
وذلك لأن الله بلُطفِه وكرَمِه جعلَ لنِعمِه وسائِطَ مِن الناسِ، وأوجَبَ شُكرَ مَن جعلَه سببًا فيها، ويأتِي في المُقدِّمة الوالِدان، وكلُّ مَن ظهرَ فضلُه وبانَ معروفُه، وزيادةُ العبد في شُكرهم شُكرٌ له - عزَّ شأنُه -، وفي الحديث: «مَن أتَى إليكم معروفًا فكافِؤُوه، فإن لم تجِدُوا فادعُوا له».
ومَن أُعطِيَ شيئًا فوجَدَ فليَجزِ به، ومَن لم يجِد فليُثنِ، مَن أثنَى فقد شكَر، ومَن كتَمَ فقد كفَرَ، ومَن صُنِع إليه معروفٌ فقال لفاعلِه: جزاك الله خيرًا؛ فقد أبلغَ في الثَّناء، ومَن قصُرَت يدَاهُ عن المُكافأة فليُطِل بالشُّكر لسانَه.
الله أكبر ما ارتفَعَت الأصواتُ بالدعوات، والحمدُ لله على ما أنعمَ به مِن الفضلِ والخيرات.
أيها المُسلمون: ومِن مزيدِ الشُّكر ألا تنتظِرَ لمعروفِك شُكرًا، قال تعالى مُثنِيًا على الأبرارِ مِن عباده: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)[الإنسان: 9].
فهذا غايةُ الشُّكر، حينما تُقدِّمُ الخيرَ والفضلَ شُكرًا لمولاكَ غيرَ مُنتظِرٍ شُكرَ الآخرين.
فقد قالت الحُكماء: "مَن انتظرَ بمعروفِه شُكرًا فقد استَدعَى عاجِلَ المُكافأة".
وبعدُ .. يا عبد الله! اشكُر لمَن أنعمَ عليك، وأنعِم على مَن شكَرَك؛ فإنه لا زوالَ للنِّعم إذا شُكِرِت، ولا عودةَ لها إذا نفَرَت.
الشُّكرُ زيادةٌ في النِّعَم، وأمانٌ مِن الغِيَر، إن رِضا الله في شُكرِه، (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر: 7]، وأمانٌ مِن عذابِه، (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) [النساء: 147].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [لقمان: 12].
نفعَني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهديِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفِروه؛ إنه هو الغفورُ الرحيم.
الله أكبر كبيرًا، والحمدُ لله كثيرًا، وسبحان الله بُكرةً وأصيلاً، وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على سيِّدنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابِه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله جعلَ لنا في الإسلام عيدًا، والله أكبر وهَبَنا فيه فضلًا مَزِيدًا، والحمدُ لله وهو بحالِ عبدِه أعلَمُ وأخبَرُ، والله أكبر وهو أحقُّ أن يُشكَر، أحمدُه وله الحمدُ في الآصال والبكَر.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مُؤمِنًا به وبملائكتِه وكُتبِه ورُسُلِه وبالقَدَر، وأشهدُ أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه صاحِبُ المجدِ الأطهَر، والوجهِ الأنوَر، والجَبين الأزهَر، الشافِعُ المُشفَّعُ في المحشَر، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه ما هلَّلَ مُهلِّلٌ وكبَّر.
الله أكبر، ولله الحمد. عيدُكم مُبارَك.
أما بعد .. أيها الإخوة في الله: ومما يُعينُ على أداء الشُّكر: الالتِجاءُ إلى الله بالدُّعاء والإلحاحُ فيه، كما في وصيَّةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لمُعاذٍ - رضي الله عنه -، فقد قال له: «واللهِ يا مُعاذ إنِّي أُحبُّك، فلا تَنسَ أن تقول في دُبُر كل صلاةٍ: اللهم أعِنِّي على ذِكرِك وشُكرِك وحُسنِ عبادتِك».
ومما يُعينُ كذلك: استِحضارُ كما قُدرة الله، وغِناه المُطلَق، وكمال رحمتِه ولُطفِه وحِلمِه، قال - عزَّ شأنُه -: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).
ومما يُعينُ كذلك: التفكيرُ الدائِمُ في كثرةِ نعمِ الله، وإن العبدَ لا يُحصِيها في الدِّين، وفي البدَن، وفي المالِ، وفي الوطَن، وفي الأهلِ، وفي الولايةِ، وفي شأنِ الإنسانِ كلِّه منذ نشأتِه إلى مماتِه وما بعد مماتِه، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [النحل: 18].
وكذلك أيضًا: التفكيرُ في عِظَم المسؤوليَّة والوقوفِ بين يدَي الله، حينما يُسألُ عن شُكر النِّعَم، (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر: 8].
ثم النَّظرُ فيمَن فضَّلَك الله عليه مِن طبقَات الناسِ، وأحوالِهم، وهيئاتِهم، وظروفِهم.
ومع هذا كلِّه - يا عبدَ الله - لا تظنُّ أن شُكرَك لربِّك هو مِن بابِ النِّعمة ومُكافأتِها، فهذا غير مُمكِن؛ فنِعمُ الله لا يُمكن مُكافأتُها أو مُقابلتُها.
وقد رُوِي أن داود - عليه السلام - قال: «يا ربِّ! كيف أشكُرُك؟ وشُكرِي لك نِعمةٌ مِنكَ علَيَّ، فقال الله تعالى: الآن شكَرتَني يا داود»؛ أي: حين اعترَفتَ بالتقصيرِ مِن أداء شُكرِ النِّعمة.
ويقولُ طَلقُ بن حبيبٍ - رحمه الله -: "إن حُقوقَ الله أعظَمُ مِن أن يقومَ بها العبادُ، ونِعمُ الله أكثرُ مِن أن يُحصِيها المِداد، ولكن أصبِحُوا تائِبِين، وأمسُوا تائِبِين، واغدُوا شاكِرِين، ورُوحُوا شاكِرِين".
الله أكبر ما أُقِيمَت شعائِرُ الدِّين، والحمدُ لله ما رفرَفَت بالنَّصر أعلامُ المُجاهِدِين.
معاشر الأحِبَّة: ومما يُذكَرُ ويُشكَرُ ما أنعمَ الله علينا هنا في بلاد الحرمَين الشريفَين المملكة العربية السعودية من النِّعَم العظيمة، والآلاء الجَسِيمة الظاهرة والباطِنة، ساقَ الله إليها ما تشتَهِي الأنفُس، وتلَذُّ الأعيُن، يُجبَى إليه ثمَراتُ كلِّ شيءٍ مِن أطايِبِ الطعام، وجميلِ اللِّباسِ، ووثِيرِ المراكِب، وخَير المساكِن، لطَّفَ حرَّها في جِبالِها ورِمالِها، ورطَّبَ جفافَها في سُهُولِها ووِهادِها، وأغدَقَ عليها مِن الخيراتِ والنِّعَم في أمنٍ وأمانٍ، واجتِماع كلِمة، ولُزومِ طاعة، والتِفافٍ حول القِيادة.
دولةٌ عميقةٌ سِياستُها ثابِتة، ورُؤيتُها ثاقِبة، مِحورُها تلاحُمان: تلاحُمُ البيتِ الحاكِمِ، وتلاحُمُ الشعبِ مع قِيادته، مع الحِكمة والاتِّزان اللذان يسُودان هذه العائِلةَ المُبارَكة.
كِيانٌ عظيمٌ في رُسُوخِه الدينيِّ، ومُكتسَباتِه السياسيَّة والتنمويَّة، وحُضورِه الإقليميِّ والدوليِّ. كِيانٌ يُدهِشُ العالَمَ - ولله الحمد - في تماسُكِه ووحدتِه واستِمرار مسيرتِه في طريقِ البناءِ والتنمِية، مع الحِفاظ على الثوابتِ الشرعيَّة، يعيشُ الأملَ المقرُونَ بالعمل، ويُفكِّرُ بعَزم، ويعملُ بحَزم؛ ترسِيخًا للمهابة السعوديَّة في حُكمِها وعلاقاتِها. وحدةٌ وتوحيدٌ في الداخِلِ، وعَونٌ وتعاوُنٌ في الخارِج.
معاشِر الإخوة: والشُّكرُ لله على بيعَة الصَّفا في ليلةِ الصَّفا، إن البيعةَ التي يقومُ عليها الحُكمُ في هذه البلاد هي النَّهجُ الشرعيُّ الذي يقطعُ على المُشكِّكين تشكِيكَهم وارتِيابَهم في الولاء واللُّحمة، ويُجلِّي معنى السمعِ والطاعةِ، وسلاسَةِ الانتِقال في سُرعةٍ وثِقةٍ وهدوءٍ وصوابٍ وتشاوُرٍ وتداوُلٍ واحتِرامٍ وتقديرٍ، ثم اتخاذ القرار.
البَيعةُ تجسِيدُ التأييد لقرارات القِيادة، والثِّقة والاحتِرام للصَّلابة السياسية، والتقدير العائلي والرُّؤية المُشتركَة، والبَيعةُ هي الصُّورةُ التي تُبرِزُ مصلحةَ الوطَن وسلامتَه وأمنَه ومُستقبلَه - بإذن الله وتوفيقِه -.
والبيتُ السعوديُّ - ولله الحمد - بارِعٌ في وضعِ النِّقاط على الحروفِ، واستِيعابِ وِجهاتِ النَّظَر، واتخاذ القرار المُناسِب.
الله أكبر ما تكرَّرَت الأعياد، والحمدُ لله ما توالَت النِّعمُ على العِباد.
معاشر المُسلمين: والشُّكرُ أجزَلُه، والثَّناءُ أكمَلُه للرجلِ الذي سوف يذكُرُه التاريخُ في سيرتِه ومسيرتِه، صاحِبِ السمُوِّ الملَكِيِّ الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز ذِي الإنجازات الباهِرة، والإخلاص والأمانة. خدَمَ بلادَه ودينَه وملِكَه؛ فقد كان حارِسًا أمينًا شُجاعًا، كان سدًّا وصدًّا منيعًا، مرفوعَ الهامَة، ذا صَلابةٍ، لا يَلِينُ أمام الإرهاب والإرهابيين والمُتربِّصين، ومَن يُريد بهذه البلاد سُوءًا.
فهو داحِرُ الإرهاب، ومُستصلِحُ الشباب، الناصِحُ لهم وحاضِنُهم، وهو حافِظُ الحُدود، وحارِسُ الثُّغور - حفِظَه الله ورعاه، وجزاه أحسنَ الجزء وأوفاه -.
ورِجالُ أمنِنا وقواتِنا جنودٌ صنادِيد، وأبطالٌ بواسِل، يعلَمُون مقامَهم، وشرَفَ مكانِهم، وصلاحَ عملِهم؛ فهم على الحقِّ والهُدى - بإذن الله - بشجاعتِهم وكفاءَتهم بعد عَون الله تعالى. تبقَى هذه البلادُ عزيزةً محفُوظةً شامِخةً، حامِيةً للمُقدَّسات، حافِظةً للحُرُمات، فحفِظَهم الله، وحفِظَ بهم، وشكَرَ مساعِيَهم.
والله أكبر مُعيدُ الجُمع والأعياد، والحمدُ لله جامِعُ الناسِ ليومٍ لا ريبَ فيه إنه لا يُخلِفُ المِيعاد.
معاشِر المُسلمين: ابتَهِجُوا بعيدِكم؛ فأنتُم بإذن الله في أمنٍ وأمانٍ واطمِئنانٍ، عيدُكم مُبارَك، وتقبَّل الله طاعتَكم.
ابتَسِمُوا وابتَهِجُوا، وانشُروا السُّرورَ والبهجةَ في أنفسِكم وأهلِيكم وإخوانِكم. العيدُ والتهنِئةُ لمَن يزرَعُ البسمةَ على شِفاه المُحتاجِين، ويُدخِلُ السُّرورَ على المرضَى.
أيها المُسلمون: العيدُ مُناسبةٌ كريمةٌ لتصافِي القلوب، ومُصالحَة النفوس. مناسبةٌ لغَسلِ أدران الحقد والحسَد، وإزالةِ كوامِنِ العداوة والبغضاء.
وإن في مواقِع التواصُل الاجتماعيِّ، والمجموعات التي يُنشئُها الأقاربُ والأصدقاءُ وذوو الاهتمام والمُتابعات إن في هذه المواقِع طرائِقَ حسنة، وأبوابًا مُتَّسِعة للكلام الطيبِ، وإدخالِ السُّرور، وحُسن الحديث، ولطيفِ المُتابَعة، ورقيقِ السؤال، وتبادُل عبارات المرَح المُباح.
العيدُ عيدُ فرحٍ وسُرورٍ لمَن طابَت سريرتُه، وخلُصَت نيَّتُه، وحسُنَ للناسِ خُلُقه، ولانَ في الخطابِ كلامُه. العيدُ لمَن اتَّقضى مظالِمَ العباد، وخافَ يوم التَّناد، العيدُ لمَن لم يحسُد الناسَ على ما آتاهم الله مِن فضلِه.
فافرَحوا واشكُرُوا وأدخِلوا الفرَحَ على كلِّ مَن حَولَكم؛ فالفرحُ أعلَى أنواع نعيمِ القلبِ ولذَّته وبهجَته، السُّرورُ والفرحُ لذَّةٌ لنَيلِ المُشتهَى.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ومن مظاهر الإحسان - عباد الله - بعد رمضان: استِدامةُ العبد على نَهج الطاعة والاستِقامة، وإتباعِ الحسنة الحسنة، وقد ندَبَكم نبيُّكم محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - لأن تُتبِعُوا رمضان بستٍّ من شوال، فمَن فعَلَ فكأنما صامَ الدهرَ كلَّه.
تقبَّل الله منا ومنكم الصيامَ والقيامَ، وسائر الطاعات والأعمال الصالحات.
الله أكبر ما أنعمَ ربُّنا من الفضلِ والخيرات، والله أكبر ما أفاضَ من الآلاء والبركات.
هذا صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال - عزَّ قائلاً عليمًا -: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك نبيِّنا محمد، وعلى آله وأزواجه وذُرِّيَّته، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حَوزةَ الدين، وانصر عبادَك المؤمنين، اللهم واخذُل الطغاةَ والملاحِدةَ وسائرَ أعداء الدين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيِّك وعبادك الصالحين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافَك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم أيِّد بالحق والتوفيق والتسديد إمامَنا ووليَّ أمرنا، ووفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيته للبرِّ والتقوى، وارزقه البطانةَ الصالحةَ، وأعِزَّ به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحقِّ والهُدى، اللهم ووفِّقه وولِيَّ عهدِه وإخوانَه وأعوانَه للحق والهدى، وكل ما فيه صلاحُ العباد والبلاد.
اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنَّة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعَلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمَع كلِمَتهم على الهُدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصِية، ويُمَرُ فيه بالمعروفِ، ويُنهَى فيه عن المُنكَر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم انصر المُجاهِدين الذين يُجاهِدُون لإعزازِ دينِك، وإعلاء كلِمَتِك، اللهم انصُرهم في فلسطين وفي كل مكانٍ يا رب العالمين.
اللهم عليك بالصَّهايِنة المُحتلِّين؛ فإنهم لا يُعجِزونَك، اللهم وأنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرِمين، اللهم إنا ندرَأُ بك في نُحورِهم، ونعوذُ بك مِن شُرورِهم.
اللهم مَن أرادَنا وأرادَ دينَنا ودِيارَنا وأمَّتَنا وأمنَنا بسُوءٍ اللهم فأشغِله بنفسِه، واجعَل كيدَه في نحرِه، واجعَل تدبيرَه تدميرَه يا رب العالمين.
اللهم احفَظنا مِن شرِّ الأشرار، وكيدِ الفُجَّار، وشرِّ طوارِقِ الليلِ والنهار.
اللهم يا ذا الجُود والمَنِّ احفَظ علينا هذا الأمنَ، وسدِّد قِيادتَه، وقوِّ رِجالَهم، وخُذ بأيدِيهم، وشُدَّ مِن أزرِهم، وقوِّ عزائِمَهم، وزِدهم إحسانًا وتوفيقًا وتأييدًا وتسديدًا، اللهم اشفِ مرضاهم، وارحَم شُهداءَهم، واحفَظ أُسَرَهم وذريَّاتهم يا رب العالمين.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، واجمَع على الحقِّ والهُدى كلِمتَهم، وولِّ عليهم خِيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرَّخاءَ في دِيارِهم، وأعِذهم مِن الشُّرور والفتَن ما ظهرَ منها وما بطَن.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
فاذكُرُوا الله يذكُركم، واشكُرُوه على نِعمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلَمُ ما تصنَعُون.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الله أكبر كبيرًا، والحمدُ لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا، وصلَّى الله وسلَّم على سيِّدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.