الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزكاة |
أوجبَ الله في الأموال على اختلافِ أنواعها أن تُخْرَجَ زكَاتُها منها، ففي النقود زكاةٌ، وفي عُروضِ التجارة -وهي السلع المُعَدَّة للبيع للاتجار بثمنِها- زكاةٌ، وفي بهيمةِ الأنعام -وهي الإِبلُ والبقرُ والغنمُ- زكاةٌ، وفي الخارجِ من الأرض من الحبوب والثمار زكاةٌ وأحكامُ ذلك مفصلة في كتب الفقه. وغرضُنا الآن بيانُ زكاةِ الخارج من الأرض من حبوبٍ وثمار؛ لأنَّ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ربِّ العالمين، حثَّ على طلبِ الرزق والإِنفاق في سبيل الله، وأشهَدُ أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له ولا نعبدُ إلاَّ إياه، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله ومصطفاه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَنْ والاه، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعدُ:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واطلُبوا الرزقَ من حِلِّه، وأنفقوه في وجوههِ التي شَرَعَ الله الإِنفاق فيها.
فقد جاءَتْ نصوصٌ كثيرةٌ في الكتابِ والسنة في الحثِّ على طَلَبِ الرزق، والإِنفاق في وجوهِ الخير.
وقد ذَمِّ الله الذين يجمعون المال، ولا يُنفقون في سبيلِ الله، قال تعالى في وصفِ النار: (كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى * إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [المعارج:15-25].
وقد نَهَى الله عن المكاسبِ المحرَّمة، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [النساء:29].
أي: لا يأكُلْ بعضُكم مال بعض من غيرِ الوجه الذي أباحَه الله.
والأكلُ بالباطل أنواعٌ كثيرة كالربا، والقمار، والغِشِّ، والحِيَلِ الباطلة، والخصومات الفاجرة، والسرقة، والنهب، والاغتصاب، وبيع الأشياء المحرمة كالمسكرات والمخدرات والدخان، وآلاتِ اللهو، والصُّور، وغير ذلك مما حرَّمه الله؛ لأنّ الله إذا حرَّمَ شيئاً حرَّمَ ثمنه.
ولمَّا سُئِلَ النبيُّ -صلى الله علبه وسلم-: أيُّ الكسبِ أطيبُ؟ قال: "عَمَلُ الرجلِ بيده، وكلُّ بيعٍ مبرور"[رواه أحمد والبزار، وصحَّحه الحاكم].
والبيعُ المبرور، هو: الخالصُ من الغِشِّ والحيل والكذب، والأيمان الفاجرة.
ومن أنواعِ الكسب الطيبِ: الزراعةُ، وغرسُ الأشجار التي يُنْتَفَعُ بثمرِها؛ لِما في الزراعة وغرسِ الأشجار من عَمَلِ اليد، والتوكُّلِ على الله، والنفعِ العام للخَلْقِ.
عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله علبه وسلم-: "ما من مسلم يغرِسُ غَرْساً إلا كان ما أُكِلَ منه له صدقةٌ، وما سُرِقَ منه له صدقةٌ ولا يرزؤُهُ أحدٌ إلا كانَ له صدقة إلى يوم القيامة".
وفي رواية: "فلا يغرِسُ المسلمُ غرساً، فيأكُلَ منه إنسانٌ ولا دابةٌ ولا طيرٌ، إلا كانَ له صدقةً إلى يوم القيامة".
وفي رواية: "لا يغرِسُ مسلمٌ غرساً ولا يزرعُ زرعاً فيأكُل منه إنسانٌ ولا دابة ولا شيءٌ إلا كان له صدقة"[رواه مسلم].
وعن أنس -رضي الله عنه- قال رسولُ الله -صلى الله علبه وسلم-: "سبعٌ يجري للعبد أجرُهُنَّ وهو في قبره بعدَ موته" وذَكَرَ منهُنَّ "مَنْ غَرَسَ نخلاً".
وعن جابر -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا معشرَ الأنصارِ" قالوا: لبَّيْكَ يا رسولَ الله، قالَ: "كنتم في الجاهليةِ إِذْ لا تعبدون الله، تحملون الكَلَّ وتفعلون في أموالكم المعروفَ، وتفعلون إلى ابنِ السبيل حتى إذا مَنَّ الله عليكم بالإِسلام وبنبيِّه إذا أنتم تُحصنون أموالكَم، فيما يأكُلُ ابنُ آدم أجرٌ، وفيما يأكُلُ السبعُ والطيرُ أجرٌ" قال: فرَجَعَ القومُ، فما منهم أحدٌ إلا هَدَمَ من حديقتهِ ثلاثين باباً"[رواه الحاكم، وقال: "صحيح الإِسناد"].
وفي هذه الأحاديث: فضلُ الزراعة، وغَرْسِ الأشجار التي يَنتفع منها الخلقُ، ولا سيَّما النخيل، وأنَّ ما أُكِلَ منها بعلمِ صاحبها أو بغيرِ علمهِ فله أجرُه، وأنَّ الأجرَ يستمر ببقاءِ الأشجار التي يُؤكَلُ منها بعد موته.
وقد شرع الله الإِنفاقَ من الأموالِ التي يَحصُلُ عليها الإِنسانُ.
وهذا الإِنفاقُ منه ما هو واجبٌ كالزكاةِ التي هي ركنٌ من أركان الإِسلام، وقرينهُ الصلاة في كتاب الله -عَزَّ وجل-، والتي قاتَلَ الصحابة منْ منعها.
ومن الإِنفاقِ ما هو مستحَبُّ كسائرِ الصدقات.
والإِنفاق في سبيل الله واجباً أو مستحبّاً يُشْرَعُ في جميعِ الأموال.
فقد أوجبَ الله في الأموال على اختلافِ أنواعها أن تُخْرَجَ زكَاتُها منها، ففي النقود زكاةٌ، وفي عُروضِ التجارة -وهي السلع المُعَدَّة للبيع للاتجار بثمنِها- زكاةٌ، وفي بهيمةِ الأنعام -وهي الإِبلُ والبقرُ والغنمُ- زكاةٌ، وفي الخارجِ من الأرض من الحبوب والثمار زكاةٌ وأحكامُ ذلك مفصلة في كتب الفقه.
وغرضُنا الآن بيانُ زكاةِ الخارج من الأرض من حبوبٍ وثمار؛ لأنَّ الزراعة قد تطوَّرت في هذا الزمان، وسَهُلَتْ تكاليفُها، قالَ الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:267-268].
يأمُرُ الله -سبحانه- عبادَهُ المؤمنين أن يُنفقوا من جيِّدِ ما كَسَبُوه من التجاراتِ من النقود، وعُروض التجارة، المعدَّة للبيع والشراء، وما اقتنوه للدَّرِّ والنَّسْلِ من بهيمةِ الأنعام، وما أخرج لهم من الأرض من الحبوبِ، كالبُرِّ والشَّعيرِ، وأصناف الحبوبِ، ومن الثمار، كالتمر والعنب، وهذا يشمَلُ الصدقاتِ الواجبةَ كالزكاةِ، والصدقاتِ المستحَبَّة كأنواعِ التطوُّعات، وينهى سبحانه عن إخراجِ، والخَبيث وهو الرديءُ الذي لو دَفَعَهَ إليهم مَنْ لهم حقٌّ عليه لم يقبَلُوه منه إلاَّ على كُرْهٍ، فكيفَ ترضَوْنَ لله ما لا تضرَوْنَه لأنفُسكِم؟
فالواجبُ إخراجُ زكاةِ الشيء منه؛ الجيدُ من الجيد، والرديءُ من الرديء، والمتوسط من المتوسط.
ومَنْ أخرجَ الرديء عَن الجيِّدِ، لم يُجزئه عن الواجب، ولا يحصُلُ له ثواب.
ثم بيَّنَ سبحانه: أنه غنيٌّ عن المخلوقين وعن صدقاتِهم، وإنما أمرَهم بها وحثَّهم عليها لنفعِهم هم ونفعِ إخوانهم المحتاجين، ثم بَيَّنَ سبحانه أنَّهم بينَ داعيَيْن: داعي الرحمن الذي يدعوهم إلى الإِنفاق، ويعدُهم الخيرَ والفضلَ والثواب، وداعي الشيطان الذي يدعوهم إلى البُخلِ، ويُخوِّفُهم من الفقر.
وقال تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92].
فالذي يُنفق مما يَكْرَهُ لا ينالُ البرِّ، فالواجبُ أن يُجيبوا داعيَ الرحمن، ويرفُضوا ويحذَرُوا داعيَ الشيطان.
وقد بَيَّن سبحانه في آية أخرى وقتَ وجوب إخراج زكاة الحبوب والثمار، فقال تعالى: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) [الأنعام:141].
أي: أخرجوا زكاةَ الزرع يوم حصاده، ومثله الثمار، فإنها تخرج زكاتها يوم جذاذها؛ لأنَّها الوقتُ الذي تتمُّ به النعمة على المزارعين، وأصحاب النخيل، بالتمكُّنِ من الحصول على ثمارِهم وحبوبهم، وهو الوقت الذي تتشوَّفُ فيه نفوسُ الفقراء إلى الصدقات والمواساة.
ففي هذه الآية دليلٌ على وجوب الزكاة في الحبوب والثمار، وأنَّهُ لا حولَ لهما، بل حولُهما وقتُ الحصول عليهما بالحصاد للزروع، والجذاذ للنخيل، وأنَّه لو أصاب الثمار والحبوب آفةٌ، فتلفت قبلَ الحَصادِ والجذاذ من غيرِ تفريطٍ من صاحبها، فلا زكاةَ فيها.
وقد بيَّنت سنةُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- المقدارَ الواجبَ إخراجهُ في زكاة الحبوب والثمار، وأنَّه العُشْرُ فيما سُقِيَ بلا مؤونة، ونصفُ العشر فيما سُقِيَ بمؤونة.
فعن جابرٍ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فيما سَقَتِ الأنهارُ والغيمُ العشورُ، وفيما سُقِيَ بالسانيةِ نصفُ العشور"[رواه أحمدُ، ومسلم، والنسائي، وأبو داود].
وقال: الأنهارُ: العيون.
وعن ابن عمر: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فيما سَقَتِ السماءُ والعيون، أو كان عثريّاً العشرُ، وفيما سُقِيَ بالنَّضْحِ نصفُ العشر".
فالحديثان يدُلاَّن على أنَّ ما يُسقى بلا نفقةٍ، كالذي يشربُ من السيولِ، أو من الأنهار أو العيون، ففيه العُشْرُ، وأنَّ ما يُسقى بنفقةٍ كالذي يُسقى بالسواني، أو المكائن الرافعة، ففيه نصفُ العشر.
عبادَ الله: جاءَ الوعيد الشديد في حق مانعي الزكاة، قال الله -تعالى-: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [آل عمران:180].
وقال رسولُ الله -صلى الله علبه وسلم-: "يا معشرَ المهاجرين، خصالٌ خمس إن ابتُليتم بِهنَّ ونزَلْنَ بكم –أعوذُ بالله أن تدركوهُنَّ-: لم تظهَرِ الفاحشةُ في قوم قط حتى يُعلنوا بها إلاَّ فشا فيهم الأوجاعُ التي تَكُنْ في أسلافِهم، ولم يُنقصوا المكيالَ والميزان إلا أُخِذُوا بالسنين وشدةِ المؤونةِ وجَوْرِ السلطان، ولم يَمْنَعُوا زكاةَ أموالهم إلا مُنعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمْطَروا، ولا نَقَصُوا عهدَ الله وعهدَ رسوله إلا سُلِّطَ عليهم عدوٌّ من غيرهم، فيأخذُ بعض ما في أَيديهم. وما لم تحكُمْ أئمتُهم بكتابِ الله إلاَّ جُعل بأسُهم بينَهم"[رواه البيهقي].
وعن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله علبه وسلم-: "وما تَلَفَ مالٌ في بَرٍّ ولا بحر إلاَّ بحبسِ الزكاة"[رواه الطبراني].
فدل الحديثانِ على أنَّ منع الزكاة يُسبِّبُ احتباسَ الأمطار التي فيها حياةُ الناس، وحياة البهائم والأشجار، ويُسببُ تلفَ الأموال التي لم تُزَكَّ.
وأنتم ترون ما يَحِلُّ بالناسِ من تأخُّرِ نزول الأمطار، وما يُصيبُ الزروعَ والثمار من الآفاتِ التي تُتلفُها، أو تُنقِصُ محاصيلها، وذلك بسبب منعِ الزكاة، قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) [الواقعة:63-67].
يُذَكِّرُ سبحانه عبادَه فيما يُلقونه من البذر في الأرض: هل هُم الذين أخرجوه نباتاً من الأرض، ثم نمَّوه حتى تكامَلَ، وأخرجوا سنبلَه، وصار حبًّا حصيداً، وثمراً نضيجاً، أم إنَّ الله سبحانه هو الذي فَعَلَ ذلك كله، ولم تفعلوا أنتم إلا حرثَ الأرض ووَضْعَ البذرِ فيها؟
ثم مَنِ الذي يدفَعُ عن هذا الزرع الآفاتِ التي هو معرَّضٌ لها من البرد والجزاد والأمراض، أتقدرونَ على دَفْعِ ذلك عنه لولا دفعُ الله عنه حتى يحينَ حصادُه، ولو شاء الله لَسَلَّطَ عليه ما يُتلفُه ويجعلُه محطَّماً أو ناقصاً، لا حبَّ فيه، ولا تقدرون على دفعِ ذلك عنه، وإنَّما تتلاومون وتتساءَلُون عن السبب الذي قضى عليه، وتتحسَّرون على مصيبتكم وهلاكِ زروعكم مع ما بَذَلْتُم فيها من الأتعاب والنفقاتِ، وتُقِرُّون بالعجز؟
فاشكروا الله الذي زرعَه لكم، وحماه من الآفات، وتصدَّقُوا على ذوي الحاجات، وأدُّوا ما فيه من حقِّ الزكاة.
أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيم: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [البقرة:271].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، يمُنُّ على عبادِه بالأرزاق، ويأمُرُهم أن يُنفقوا ممَّا أعطاهُم ليجدوه يومَ التلاقِ.
وأشهَدُ أنْ لا إله إلاَّ الله الملكُ الخلاق، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسوله، وأفضلُ خلقه على الإِطلاق، بعثَه ليُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاق، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه البَرَرة السَبّاق، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ:
أيها الناس: اتَّقُوا الله -تعالى-، واسمَعُوا ما جاء في المتصدقين من زروعِهم وأشجارِهم من الوعد بالخير والبركة، وما جاء في الذين لا يتصدَّقُون منها من الوعيد.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله علبه وسلم-: "بينَما رجل يمشي في فلاة من الأرض، فسَمِعَ صوتاً في سحابة: اسقِ حديقةَ فلان.
فتنحَّى ذلك السحابُ، فأفرغ ماءَه في حرَّةٍ، فإذا شَرْجَةٌ من تلك الشِّراجِ قد استوعبت ذلك الماءَ كلَّه، فتتبَّعَ الماءَ، فإذا رجلٌ قائم في حديقته يُحَوِّلُ الماءَ بمسحاتِه، فقالَ له: يا عبدَ الله، ما اسمُك؟ قال: فلان، للاسمِ الذي سَمِعَ من السحاب، فقال: يا عبدَ الله لم تسألُني عن اسمي؟ فقال: إني سمعتُ صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسقِ حديقةَ فلان –لاسمِك- فما تصنَعُ فيها.
فقال: :أَمَّا إذ قلتَ هذا، فإنِّي أنظرُ إلى ما يخرجُ منها فأتصدَّقُ بثُلُثِه، وآكلُ أنا وعيالي ثُلُثَاً، وأردُّ فيها ثلثه"[رواه مسلم].
وذكَر الحافظُ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) [القلم:17-20] الآيات.
إنه كان رجلٌ له حديقة يسير فيها بسيرةٍ حسنة، فكان ما يستغِلُّ منها يرد فيها ما تحتاجُ إليه، ويدَّخِرُ لعياله قوتَ سنتِهم، ويتصدَّقُ بالفاضِل، فلَمَّا ماتَ وورثه بنوه، قالوا: لقد كان أبونا أحمقَ إذ كان يصرِفُ من هذه شيئاً للفقراء، ولو أنا منعناهُم لتوفَّرِ ذلك علينا، فلما عَزَمُوا على ذلك عُوقبوا بنقيضِ قصدِهم، فأذهبَ الله ما بأيديهم بالكلية رأسَ المال والربحَ والصدقةَ، فلم يبقَ لهم شيءٌ، وكانوا قد عزموا على صرام البستانِ أولَ الصباح قبلَ انتباه الناس، وحضورِ المساكين، فأحرَقَه الله بالليل، عقوبةً لهم على نيتهم السيئة، فلما أصبَحُوا جاؤوا لتنفيذِ ما عَزَمُوا عليه، فوجدوها سوداءَ محترقة، فظنوا أَنَّها غيرُها.
فلما تحُقَّقُوا أنَّها هي أدركوا أنَّ الله عاقبَهم، وحَرَمَهم إيَّاها، فأخذوا بالتأسُّفِ والتلاوم.
وهذه عبرةٌ لكلِّ مَنْ مَنَعَ حقَّ الله في مالِهِ أن يعاقبه الله بإتلافه كلِّه، حتى يُصْبحَ فقيراً مفلساً.
فاتقوا الله -عباد الله-، واشكروا نعمةَ الله بأداء حقِّها، وتمسَّكُوا بكتاب ربِّكم، وسنةِ نبيكم.
فإنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هَدْيُ محمد -صلى الله عليه وسلم-... إلخ.