الأكرم
اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | أحمد بن عبدالله بن أحمد الحزيمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة - الحكمة وتعليل أفعال الله |
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ رَبِّ العالَمينَ، الرحمنِ الرحيمِ، مالكِ يومِ الدِّينِ، لا عِزَّ إلَّا في طاعتِه، ولا سَعادةَ إلَّا في رِضاه، ولا نَعِيمَ إلَّا في ذِكرِه، الذي إذا أُطيعَ شَكرَ، وإذا عُصيَ تابَ وغَفرَ، والذي إذا دُعيَ أجابَ، وإذا استُعيذَ به أَعاذَ.
وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورَسولُه، صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعدُ: فإنَّه ما مِن وَصيَّةٍ أيُّها المؤمنونَ أبْلَغُ ولا مِن أَمْرٍ أَعظمُ مِن قولِ اللهِ- جَلَّ وعَلا - (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 1- 2].
يقولُ أَحدُ الشَّبابِ: كنتُ في مَرحلةِ المراهقةِ فصاحبتُ آنذاك صُحبةً سيِّئةً، ورُفقةً فاسدةً تَؤُزُّنِي على الحرامِ أَزًّا، فسافرتُ إلى الحَرَامِ، وفعلتُ كلَّ شيءٍ يُغضِبُ اللهَ -عَزَّ وجَلَّ-, عاقرتُ المحرَّماتِ، وعاشرتُ في الحرَامِ، وشَربتُ الحرَامَ.
يقولُ: وفي مَرةٍ مِن المرَّاتِ تعرَّفتُ على صديقةٍ عاهرةٍ، فعاشرتُها في الحرَامِ وبعدَ فترةٍ انقطعَتْ، اتَّصلْتُ عليها فلم تَرُد، بحثتُ عنها فلم أَجدْها، وبعدَ أيَّامٍ اتَّصلَتْ عليَّ أحدُ الجِهاتِ الأَمْنيَّةِ وأخبروني بأنْ أذهبَ إليهم، فلمَّا ذهبتُ إليهم سَألوني هل تعرفُ فلانةً وما عِلاقتُك بها؟ فقلتُ: نعم، أَعرفُها وعلاقتي بها سَطحيَّةٌ، ولم أُخبرْهم الحقيقةَ.
قالوا لي: هل عاشرتَها مِن قَبلُ؟ فقلتُ: لا، لمْ أُعاشِرْها، وكَذبتُ عليهم، ثُمَّ سألتُهم لِمَ تسألون؟ قالوا: لأنَّها مُتغيِّبةٌ، واكتشفنا أنَّها مُصابةٌ بمرضِ "الإيدز"، وأنَّها عَاشرتْ رجالاً ونَقلَتْ إليهم المرضَ، ونخشى أنْ تنقلَه إلى آخرين، فإذا عَلِمتَ عنها شيئًا أَبلِغْنا.
يقولُ الشَّابُّ: ما استطعتُ أنْ أنامَ تلكَ اللَّيلةَ، وكيفَ يرافقُني النُّومُ وأنَا أَكَادُ أُجَنُّ قهرًا، وظللتُ أيَّامًا مُتردِّدًا، هل أذهبُ للطَّبيب والفحوصات أمْ لا؟ وأخيرًا حملتُ نفسي وعَزمتُ فذهبتُ إلى الطَّبيبِ، وهناك أخبرتُهم أنِّي أريدُ أنْ أُجريَ تحليلَ "الإيدز"، فأخبروني أنَّ النَّتيجةَ تظهرُ بعد عشرةِ أيَّامٍ.
فقلتُ لهم: ألَا يُوجدُ سَبيلٌ أسرعُ مِن هذا؟
قالوا: لا؛ لأنَّنا نرسلُها إلى الخارجِ ثُمَّ تأتي، وبعدما تأتي نُخبرُك بالنَّتيجةِ.
يقول الشَّابُّ: وبعدَ مُرورِ سَبعةِ أيَّامٍ وقد أَقَضَّ عَليَّ الهَمُّ مَضْجَعي، والنَّومُ مِن كثرةِ الهمومِ اعتزَلَني، وإذْ بِقُوايَ قدْ كَلَّتْ، وكلُّ يومٍ يمرُّ كسَنَةٍ بعدَ هذا كلِّه لم أَشعُرْ إلَّا وأنَا أَتَّصلُ عليهم: معكم فُلانٌ الفُلانيُّ هل ظَهرتْ نتيجةُ التَّحليلِ؟ فقالوا: لا بَعدُ.
وهكذا اليومُ الثَّامنُ والتَّاسعُ أَتَّصلُ ويكونُ نَفْسُ الرَّدِّ كأنَّها رسالةٌ مُسجَّلةٌ، فلمَّا كان اليومُ العاشرُ اتَّصلتُ عليهم وسألتُهم هل ظهرتْ النَّتيجةُ؟ قالوا: نعم. قلتُ لهم: ما هي؟ قالوا: لا نستطيعُ أنْ نُخبرَكَ، تعالى واستلِمْها. قلتُ لهم: لا أستطيعُ أنْ أصبرَ، ولا تحملُني رِجلِي إليكم، وأتوسَّلُ إليهم، وأستَحلِفُهم باللهِ. قالوا: لا نستطيعُ، النَّتيجةُ عندَ الطَّبيبِ، وهو مَن سيخبرُك بها. يقولُ الشَّابُّ: فلَمْ أَدْرِ كيفَ أذهبُ إليهم؟ وكيفَ تحملُني رِجْلَاي.
يقولُ: ركِبتُ سيَّارتي وذهبتُ إليهم، ولا أدري كيفَ أَوصَلتْني السَّيارةُ، ثم صعدتُ السُّلَّم وأنا أذكر خطواتي إلى الآن، فكأنَّما أُحاوِلُ جَبلًا أَحملُه، فأخبرتُهم في الاستقبالِ أنِّي عندي مَوعدٌ، فأخبروني بأنْ أنتظرَ دَوري، فجلستُ في الانتظارِ وأنَا أنظرُ إلى النَّاسِ وأَتَصَفَّحُ قَسَمَاتِ وُجُوهِهم، فمِنهم مَنْ يحاورُ رَفيقَه، ومِنهم مَن يضحكُ، ومِنهم مَن يبتسمُ، على ما بهم من أمراضٍ، إلَّا أنَا أبكي بداخلي ويعتصرُني الألمُ، حتى جاءَ دَوري ودخلتُ إلى الطَّبيبِ ولا أدري كيفَ دخلتُ ولا كيفَ جلستُ! فقال ليَ الطَّبيبُ: أنت فُلانٌ.
قلتُ: نعم. وجَعلَ يُقلِّبُ الأوراقَ كأنَّه يُقلِّبُ مُهْجَةَ قَلْبي، وأَنَا أستغيثُ باللهِ أنْ يكتبَ لي عُمْرًا آخرَ، وبينَ أنَا على هذه الحالِ إذْ قالَ ليَ الطَّبيبُ: الحمدُ للهِ، النَّتيجةُ سَلبيَّةٌ، ليسَ فيكَ هذا المرضُ.
يقول الشَّابُّ: فسجدتُ للهِ شاكرًا عندَ الطَّبيبِ، ومِن بعدِها ما تَركتُ الصَّلاةَ في المساجدِ، ولا فعلتُ حرامًا، ولا مشيتُ إلى حرامٍ، وما فعلتُ فاحشةً قَطُّ، كأنَّ اللهَ أعطاني عُمرًا آخرَ.
عبادَ اللهِ: يَتهافَتُ الشَّبابُ في أيَّامِ الإجازاتِ على وَكالاتِ السَّفرِ لِيُسافروا إلى تلك البلدانِ التي تَعُجُّ بالمنكراتِ، وتَزخرُ بالفواحشِ، لا أقولُ الشَّبابَ فحَسْب بل وبعضُ كِبارِ السِّنِّ لمْ يسلموا مِن هذه الدَّرَكَاتِ الموبِقاتِ المُهلِكاتِ.
ذهبوا لتلك الأماكنِ لا للبحثِ عن الأجواءِ العَليلةِ أو المناظرِ الخَلَّابةِ، وإنما جعلوا ذلك مَطِيَّةً إلى التَّحرُّرِ مِن الواجباتِ, وارتكابِ المُحرَّماتِ, وتَعاطِ المُسْكِرَاتِ والمخَدِّرَاتِ، والوقوعِ في جرائمِ الفواحشِ ومزالقِ العِلاقاتِ المحرَّمةِ... إلى غيرِ ذلك مِن ثمراتِ السُّوءِ وفاكهةِ الشَّياطين.
فكَمْ تَحسَّرنا ونتحسَّرُ على هؤلاءِ الذين يُسافرونَ أَصِحَّاءَ نُشطاءَ، فيعودونَ عَبرَ بَوَّاباتِ الإيدزِ والمخدِّراتِ، بل قدْ يعودُ بعضُهم وقد انسلخَ مِن عقيدتِه ناقِمًا عليها، وتَمرَّدَ على دينِه وأهلِه.
تُفيدُ الإحصائيَّاتُ -أيُّها الإخوة- أنَّ عَددَ المصابينَ بمرضِ الإيدزِ في العالَمِ يزيدُ على خمسةٍ وثلاثينَ مليونَ شَخصٍ, ومِن المؤسفِ أنَّ الأعدادَ في ازدِيادٍ مستمرٍ على الرَّغمِ مِن تَحسُّنِ الخَدَماتِ الطِّبيَّةِ واكتشافِ العقاقيرِ والأدويَةِ, تعلمون لماذا- أيُّها الإخوة -؟
إنَّها عقوبةُ اللهِ- عَزَّ وجَلَّ -، وَصدقَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا". (أخرجَه ابنُ ماجه والحاكمُ، وصحَّحَه الألبانيُّ).
ففي هذه البلدانِ المُنْفَتِحةِ -عِبادَ اللهِ- يقعُ على دِينِ المَرءِ ما يقعُ مِن ضَعفِ واعْوِجَاجِ الدِّيانَةِ، وإلْفِ المنكراتِ، وانتكاسِ الفِطَرِ السَّليمةِ، بسببِ إدامةِ النَّظرِ إلى مظاهرِ التَّبرُّجِ والسُّفورِ، واحتضانِ بَلايا الخزي والفُجورِ، فيألفُها القلبُ، وتَنعَقِدُ عليها الجوارحُ، وتُصبِحُ أَمْرًا مُعتادًا لا تُنكرُه النُّفوسُ.
ولهذا أَفتَى أهلُ العِلمِ بعدمِ جوازِ السَّفرِ إلى بلادِ الكُفرِ إلَّا لِضرورةٍ، أو حاجةٍ مُلِحَّةٍ، شريطةَ أنْ يأمنَ على دينِه وعقيدتِه.
ومِن مَخاطرِ السَّفرِ إلى تلك البلدانِ: الخطرُ الأمْنيُّ؛ جرائمُ تُرتكبُ؟ وأموالٌ تُنتَهبُ؟ ونُفوسٌ تُقتلُ وتُختَطفُ؟.. حتى أصبحتِ الجريمةُ في أكثرِ البلدانِ جريمةً مُنَظَّمَةً، تقومُ بها عصاباتٌ مُدرَّبةٌ تستهدِفُ السَّائحينَ وتَبْتَزُّ أموالَهم .
ومِن المخاطرِ: الخطرُ الاقتصاديُّ؛ بالإسْرافِ والتَّبذيرِ، أو الإنفاقِ المُحرَّمِ ..، فقدْ ذَكرَتْ جَريدةُ الجزيرةِ أنَّ إنفاقَ السُّعوديينَ في السِّياحةِ الخارجيَّةِ لامسَ المئةَ مليارِ ريالٍ، وثَمَّةَ إحصاءاتٌ عالميَّةٌ تُفيدُ أنَّ السُّياحَ السُّعوديين هم الأكثرُ إنفاقًا على السِّياحةِ في العالَمِ، وذلك بحسبِ أرقامٍ حكوميَّةٍ، حيثُ يُنفقُ السَّائحُ السُّعوديُّ سِتَّةَ أضعافِ ما يُنفقُه السَّائحُ الغَربيُّ، كما ذكرتْ ذلك الجريدةُ نفسُها.
فَيَا مَن عَقدَ النيَّةَ على السَّفرِ للحرامِ أو على سَفرٍ يعلمُ أنَّه لن يَسلمَ فيه مِن الحرامِ, ها أنَا أَهمسُ في أُذُنِكَ بكلمةٍ يَظلُّ صَدَاها يَرِنُّ سِنينًا: اتَّقِ اللهَ حيثُما كنتَ، واخشَ اللهَ في أيِّ أرضٍ نزلْتَ، وتَذَكَّرْ أخي أنَّ هذه الأرضَ التي تمشي عليها، وتسافرُ إليها، ستتكلَّمُ يومَ القيامةِ، وتشهدُ لكَ أو عليكَ في المحكمةِ الإلهيةِ، قالَ اللهُ: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) [الزلزلة: 4]، وكذلك الجوارحُ تشهدُ قالَ اللهُ: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس: 65]، والملائكةُ يشهدون، وكفى باللهِ شهيدًا.
أَلمْ يَتفكَّرْ أولئكَ الذين يَسيرونَ معصوبةً عيونُ بَصيرتِهم، مُوَصَّدةً أبوابُ قلوبِهم، أَلمْ يَتفكَّروا أنَّ الزِّنا يُعتبرُ مِن أَكبرِ الكبائرِ وأقبحِها وأَعظمِ الذنوبِ وأفحشِها بعدَ الشِّركِ والقَتلِ، وهو رِجسٌ، وفاحشةٌ، ومَهْلَكَةٌ، وجريمةٌ مُوبِقَةٌ، تنفرُ منها الطبائعُ السَّليمةُ، وهو فَسادٌ لا تَقفُ جرائمُه عندَ حَدٍّ ولا تنتهي آثارُه ونتائجُه إلى غايةٍ، وهو ضَلالٌ في الدِّينِ وفسادٌ في الأخلاقِ، وانتهاكٌ للحُرُمَاتِ والأعراضِ، واستهتارٌ بالشَّرفِ والمُرُوءةِ.
إنَّ الشَّرائعَ السَّماويةَ كلَّها- يا عبادَ اللهِ- قدِ اجتمعتْ على تحريمِه، وإنزالِ العُقوبةِ بالزُّناةِ والزَّواني، ولم يُبَحِ الزِّنا في أيِّ شَريعةٍ لأيِّ رسولٍ مِن رُسُلِ اللهِ -تعالى-.
إنَّ ظهورَ الزِّنا -يا عبادَ اللهِ- مِن أَماراتِ خَرابِ العالَمِ، وفَسادِ نِظامِ الكَونِ، وقُرْبِ قيامِ السَّاعةِ، قال صلى الله عليه وسلم: "مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: أَنْ يَقِلَّ العِلْمُ، وَيَظْهَرَ الجَهْلُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، ..." (رواه البخاريُّ ومسلمٌ).
ومِن خطورةِ الزِّنا أنَّه سببٌ في رفعِ الإيمانِ عن الزَّاني والزَّانية حالَ زِناهما, فعندَ إقدامِ الزَّاني على الزِّنا وعندَ قيامِه به في هذه الحالةِ يرتفعُ الإيمانُ فوقَ رأسِه فهو بلا إيمانٍ، ففي هذه الحالةِ انتفى الإيمانُ مِن قلبِه وجوارحِه حتى يَترُكَ هذه المعصيةَ -عِياذًا باللهِ مِن ذلك -، فكيفَ إذا جاءَ مَلَكُ الموتِ لتنفيذِ أَمرِ اللهِ وقَبضِ الأرواحِ، والزُّناةُ والزَّواني في هذه الحالةِ التي تُغضِبُ جبَّارَ السَّمواتِ والأرضِ، كيفَ سيكونُ المصيرُ؟
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، ..." (مُتَّفقٌ عليه).
ورتَّبَ اللهُ على مُرتكِبِ الزِّنا حَدًّا صَارِمًا قاسيًا لا شفاعةَ فيه, فجعلَ المُحصَنَ المتزوِّجَ منهما عقوبتَه قِتلةً شَنيعةً، رَجمًا بالحجارةِ حتى يموتَ، حتى يجدَ الألمَ في جميعِ الجسدِ الذي تَلَذَّذَ بالحرامِ، فها هو يُجعلُ أمامَ النَّاسِ يَرجمونَه بالحجارةِ حتى يموتَ، فإن لم يكنْ مُتزوِّجًا فقد نجى مِن الرَّجمِ نَعَمْ، لكنَّ مصيرَه إلى الجَلْدِ والسَّجَنِ؛ لِيحصُلَ بذلك الارتداعُ والابتعادُ عن هذه الفاحشةِ القبيحةِ.
أمَّا عقوبتُه في البَرْزَخِ بعدَ الموتِ، وقبلَ أنْ يَقومَ النَّاسُ لِربِّ العالمين، فشيءٌ خطيرٌ تحارُ العقولُ أنْ تتخيَّلَه، إنَّه الحَرْقُ في التَّنُّورِ، ففي صحيحِ البخاريِّ قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي، فَأَخْرَجَانِي...، قَالاَ: انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ، أَعْلاَهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا، فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا، فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟..، قالا: .. هُمُ الزُّنَاةُ". فيا لله، ما أعظمَ عذابَهم وأشدَّ بؤسَهم!!
أمَّا في الآخرةِ، فالعذابُ أَشدُّ وأَنْكَى وأَعظمُ وأَخزَى, والعِقابُ أكثرُ ألمًا وإيْلَامًا، قالَ جلَّ وعلا: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) [الفرقان: 68، 69].
وقالَ الإمامُ أحمدُ بنُ حَنبلٍ -رحمه الله-: "ولا أعلمُ بعدَ قَتلِ النَّفْسِ ذَنبًا أعظمُ مِن الزِّنا".
وقالَ المُنْذِرِيُّ -رحمه الله-: "صَحَّ أنَّ مُدمِنَ الخمرِ إذا ماتَ لَقِيَ اللهَ كعابدِ وَثَنٍ، ولا شَكَّ أنَّ الزِّنا أشدُّ وأعظمُ مِن شُرْبِ الخمرِ".
نسألُ اللهَ -تعالى- أنْ يهديَ ضَالَّنَا، ويَردَّه إليه رَدًّا جميلًا، إنَّه على كلِّ شيءٍ قديرٌ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
الخطبةُ الثَّانيةُ:
الحمدُ للهِ فَاضَلَ بينَ الرَّغباتِ، وجَعَلَ هِمَّةَ الصَّالحينَ في الباقياتِ، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ يرفعُ مَن يشاءُ الدرجاتِ، ويُكَفِّرُ الخطيئاتِ .وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى الله عليهِ وعلى آلهِ وأصحابِه ذَوي الهِمَمِ العالياتِ .
أمَّا بعدُ: فاتَّقوا اللهَ أيُّها المؤمنونَ وقُوا أنفسَكم شَرَّ الزِّنى فإنَّه كانَ فاحشةً وساءَ سبيلًا، احفظوا أبصارَكم وجوارحَكم عمَّا يدعو إليه شياطينُ الإنسِ والجِنِّ ويُزَيِّنوه لكم، بادِروا إلى الزَّواجِ -إنِ استطعتُم- فإنَّه أَغَضُّ لِلبصرِ وأَحْصَنُ لِلفَرْجِ، تَفكَّروا في عواقبِه الوَخِيمَةِ في الدُّنيا والآخرةِ، اصبِروا وصابِروا وتَذَكَّروا ما أَعدَّه اللهُ لعبادِه المتَّقينِ مِن الجِنَانِ والنَّعيمِ والفَوزِ بِرضَا اللهِ الكريمِ، تَذَكَّروا عقوبةَ العاصينَ وما أعدَّه اللهُ لهم مِن العذابِ وبئسَ المصيرِ، ذَهَبتِ اللَّذاتُ وبَقيتِ الحسراتُ.
وهذا يقتضي البعدَ عن المواضعِ التي يُحتملُ فيها الوقوعُ في الزِّنا، وهي مواطنُ الفِتنَةِ والشَّهواتِ؛ كالبلادِ المُنْحَلَّةِ، وأماكنِ الاختلاطِ والتَّبرُّجِ والسُّفُورِ، والبعدَ عمَّا يُثيرُ الغَرائزَ والشَّهواتِ مِن أَغَانٍ مَاجِنَةٍ، وأفلامٍ عاهرةٍ، وصوَرٍ عاريةٍ، ومقاطعَ مُخِلَّةٍ ساقطةٍ، فإنَّ مَن أَتَى هذه المواطنَ فتحرَّكَتْ شهوتُه، أَزَّه الشَّيطانُ أَزًّا على اتباعِ هذه الخطوةِ خطوةً أُخرى حتى يقعَ في الزِّنا، وما كانَ يظنُّ لأوَّلِ وَهْلَةٍ أنْ يَصِلَ إلى ما وَصَلَ إليه، ولكِنَّها خطواتُ الشَّيطانِ التي حذَّرنا اللهُ - تعالى - منها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ) [النور: 21].
صلُّوا يا عبادَ اللهِ وسَلِّمُوا...