الشافي
كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الرحمن الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
أهل الإيمان يحافظون على أعمالهم وطاعتهم، ويحذرون من ردها وذهابها، فيبتعدون عن كل ما يحبط العمل ويفسده من رياء وعُجب وذنب جاءت الأدلة بأنه يفسد العمل ويحبطه؛ وبهذا يحافظون على رأس المال، وكنز الخير الذي أودعوه في هذا الموسم..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أنعم علينا بمواسم البر والإحسان، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره وهو التواب الكريم المنان.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مَنّ على عباده بدين الإسلام، وجعل من أركانه الصيام؛ ليفوز الموفقون بتكفير الذنوب والآثام.
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله سيد الأنام، أفضل من صلى وصام، وأتقى من تهجّد وقام، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى من تبعهم بإحسان.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله -تعالى- حق التقوى، فهذه مواسم التقوى. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
قبل أيام رحل منكم موسم عظيم، وشهر كريم، عمرت فيها الأوقات بأنواع الطاعات، مِن ذكر وتلاوة وصلوات، وأدعية وصيام وصدقات، تقبل الله من المسلمين أعمالهم.
وقد ختم على هذه الأعمال، وتنوعت أحوال الناس فيه، فمنهم شقي وسعيد، وسوف يتبين أصحاب الربح من أصحاب الخسران (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران:30].
فيا لله! كم من فائز فيه بالعتق من النار! وكم من شقي مثقل بالذنوب والأوزار! فهنيئا لمن صام الشهر، وأدرك ليلة القدر، وفاز بعظيم الثواب والأجر، أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وسأل ربه القبول ودوام الطاعة، واستقام على الطريق الحق، ولازم الأعمال الصالحة، وحافظ على الجمعة والجماعات، فهذا يا بشارته بثواب المستقيمين! (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأحقاف:13-14].
ويا خسارة من فرط فيه، وتعدى حدود الله في أيامه ولياليه، واستمر على القبائح والذنوب، وأهمل الفرائض، وفعل الفواحش، ولم يتب ولم يرجع، جاءته مواسم الغفران فأعرض، ودعي إلى الخير فصدّ، فنزل به الموت وهو على تفريطه وعصيانه، وظلمه وفجوره، فندم ولات ساعة مندم! وطلب الرجوع وهيهات أن يجاب! فورد القيامة مفلسا. نعوذ بالله من ذلك!.
أيها المسلمون: احذروا العجب بالعمل، فمن يدري: هل قُبل؟ قال مسروق: "كفى بالمرء علما أن يخشى الله -تعالى-، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعمله".
إن الذي وفقك للعمل الصالح في رمضان، ويسر لك الصيام والقيام، وأعانك عليه، هو ربك -جل جلاله-؛ فاشكره على ذلك، واسأله قبول العمل، والعفو عن التقصير والزلل.
أيها المسلمون: الصالحون من عباد الله يحاسبون أنفسهم على تقصيرهم في عمل الطاعات، ويكثرون من الاستغفار بعد قيامهم بالفرائض من صيام وصلاة ونسك وغيرها.
عباد الله: أهل الإيمان يحافظون على أعمالهم وطاعتهم، ويحذرون من ردها وذهابها، فيبتعدون عن كل ما يحبط العمل ويفسده من رياء وعُجب وذنب جاءت الأدلة بأنه يفسد العمل ويحبطه؛ وبهذا يحافظون على رأس المال، وكنز الخير الذي أودعوه في هذا الموسم.
أيها المسلمون: من أفطر أياما من شهر رمضان لعذر كسفر أو مرض فليبادر بصيام تلك الأيام قبل النسيان أو هجوم الموت أو نزول المرض أو غير ذلك من الشواغل والعوارض، فهذا أسرع في إبراء الذمة، فإذا انتهى مَن عليه القضاء فليحرص إن شاء أن يتقرب إلى ربه بصيام ستة أيام من شهر شوال، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من صام رمضان، ثم أتبعه بست من شوال، كان كصيام الدهر" رواه مسلم. ولا يلزم في صيام أيام القضاء ولا في الست من شوال التتابع في الصيام، لكنه أنشط للصائم.
أيها المسلمون: لئن انتهى شهر رمضان فإن عمل المؤمن لا ينتهي إلا بالموت، قال الله -جل ذكره-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99].
فلئن انقضت صلاة التراويح فإن صلاة الليل والوتر مشروعة طول العام، وفي السنن الرواتب وصلاة الضحى خير عظيم، ولئن انقضت أيام رمضان وقد عُمرت بالصيام وتلاوة القرآن فإن الصيام مشروع طول العام إلا ما جاء النص باستثنائه.
فليحرص المسلم أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، قال سفيان: "عليك بالصوم؛ فإنه يسد عنك باب الفجور، ويفتح لك باب العبادة". وأعظم من هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قيل له: أخبرني بعمل يدخلني الجنة، قال: "عليك بالصوم؛ فإنه لا عدل له".
أيها المسلمون: لعل من الدروس التي استفدناها من شهر رمضان أن العمل الصالح يسير على من يسره الله عليه، فها أنتم قد يسر الله عليكم صيام الشهر وقيام ما تيسر منه ولم تشعروا بتعب ولا سهر ولا جوع ولا ظمأ؛ وما ذاك إلا فضل من الله -عز وجل- وإعانة، ودليل على أن من أراد مواصلة القيام طول العام والاستمرار على صيام الأيام الفاضلة فإنه -بإذن الله- موفق ومُعان على هذا الخير، وأن النفس البشرية تحتاج إلى عزم وتصميم وقوة، ومن ثم تنقاد إلى الخير وعمل البر ونوافل الطاعات، فضلا عما يجب عليها من فرائض العبادات.
ومن أدواء النفس الكسل عن فعل الخير، وقد تعوذ النبي -صلى الله عليه وسلم- منه فكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل"، وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها"، وفي مسند الإمام أحمد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: فقدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مضجعه فلمسته بيدي وهو ساجد يقول: "رب أعط نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها".
ألا فجاهدوا أنفسكم على فعل الخير، واستقيموا على البر، وأبشروا! فالأعمال بخواتيمها، ومن أعز نفسه أذل دينه، ومن أذل نفسه للخير أعز دينه.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يبعث كل عبد على ما مات عليه". اللهم أعنا على كل خير، اللهم اختم لنا بالحسنى.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعمروا زمانكم بطاعة مولاكم.
أيها المسلمون: من عود نفسه على قراءة ورد يومي من القرآن في رمضان فهو قادر على أن يحافظ على بعض ورده بعد رمضان، ولا يهجر القرآن بالكلية إلى أن يأتي رمضان القابل, من حافظ على ورد يومي من القرآن نال خيرا عظيما، قيل لنافع: ما كان عمر يصنع في منزله؟ قال: "الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما"، وقيل لأخت الإمام مالك -رحمها الله تعالى-: "ما كان شغل مالك في بيته؟، قالت: "المصحف والتلاوة".
وكان وكيع -رحمه الله- لا ينام حتى يقرأ جزأه من كل ليلة ثلث القرآن، ثم يقوم في آخر الليل فيقرأ المفصل، ثم يجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر.
ومن عود نفسه على ذكر الله -تعالى- في رمضان وحافظ على الأذكار المشروعة فإنه يستطيع الاستمرار على ذلك بعد رمضان، وذكر الله -تعالى- فيه لذة القلوب، وقوة النفوس والأجساد على الطاعات الأخرى، قال مالك بن دينار: "ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله -عز وجل-"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟". قال ابن القيم: "حضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله -تعالى- إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إلي فقال: "هذه غدوتي، وإن لم أتغد الغداء سقطت قوتي".
ومن حافظ على صلاة التراويح والقيام في رمضان يستطيع أن يحافظ على قدرٍ من صلاة الليل في أوله أو آخره، حسب ما يتيسر له، ولا يقطع ذلك بالكلية، ويحافظ على الوتر فلا يتركه أبداً.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم فيطيل القيام حتى تتفطر قدماه الشريفتان، وقال نافع: كان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا فاتته صلاة في جماعة صلى إلى الصلاة الأخرى، فإذا فاتته العصر يسبح إلى المغرب، ولقد فاتته صلاة العشاء الآخرة في جماعة فصلى حتى طلع الفجر. وقال ابن وهب "رأيت الثوري في المسجد الحرام بعد المغرب، صلى ثم سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتى نودي لصلاة العشاء".
إن من روّض نفسه على الطاعة ارتاضت عليها، ومن ركن إلى الكسل صارت الفرائض ثقيلة عليه، وإن من الناس من لهم قوة عجيبة في الدنيا جمعا وتحصيلا وإدارة، فكذلك أعمال الآخرة إذا روضت النفوس عليها اعتادتها.
قيل لعامر بن عبد الله: كيف صبرك على سهر الليل وظمأ الهواجر؟ فقال: "هل هو إلا أني صرفت طعام النهار إلى الليل، ونوم الليل إلى النهار! وليس في ذلك خطير أمر!"، وكان إذا جاء الليل قال: "أذهب حر النار النوم"، فما ينام حتى يصبح.
وجماع ذلك كله محبة الله -عز وجل-، ورجاء رحمته، والخوف من عذابه، فمن أحب الله أحب ما يحبه الله -تعالى- من أنواع العبادات، ومن رجا رحمة ربه اجتهد فيما يوصله إليها، ومن خاف عذاب الله وغضبه اجتنب أسبابه من إضاعة الفرائض وإتيان المعاصي، وكلما قوي إيمان العبد بالله والدار الآخرة قويت نفسه على العبادة وضعفت عن فعل المعاصي، ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون.
اللهم اهدنا الصراط المستقيم، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا ذا الجلال والإكرام.