العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصلاة |
وبعد كل هذه النصوص والآثار في العناية بصلاة الفجر وشهودها مع الجماعة نسمع في زمننا هذا من يرفع عقيرته، ويسود صحيفته، يدعو الناس إلى الزهد في حضور الجماعة، ويهون من أمر الصلاة في قلوبهم، ويصدقه ويتبعه من كان له هوى في ذلك، وإلا فكثرة النصوص المشددة في الجماعة تغني عن الاستماع إلى الأفاكين، وما فعلهم هذا إلا من برودة الدين في قلوبهم، وقلة الفقه في أمورهم، والفتنة بالدنيا وزينتها، نعوذ بالله تعالى من الخذلان
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم؛ يتقرب إلى عباده أكثر من تقرب العباد إليه "إذا تَقَرَّبَ عَبْدِي مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ منه ذِرَاعًا، وإذا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ منه بَاعًا، وإذا أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً" نحمده على فضله وإحسانه، ونشكره على جزيل عطائه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ فتح لعباده أبواب الخيرات، ونوع لهم الطاعات؛ ليكفروا السيئات، ويتزودوا من الحسنات، ويرتقوا في الدرجات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ لا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه، تركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وقدموا في يومكم ما تجدونه في غدكم، واعملوا في دنياكم ما يكون ذخرا لكم في أخراكم، ونافسوا أهل الخير في الخير، وإياكم والانغماس في الدنيا وزينتها (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِالله وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ) [الحديد:21].
أيها الناس: أمر الصلاة عند الله تعالى عظيم، وشأنها في شريعته كبير، وهي أول ما يحاسب عليه العبد من حقوق الله تعالى، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع، ولا حظ له في الإسلام.
جعلها الله تعالى لعباده زاداً يتكرر معهم في اليوم والليلة خمس مرات، وهذه العناية الربانية بها تدل على عظيم أثرها على العباد، في صلاح قلوبهم، واستقامة أحوالهم (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ) [العنكبوت:45]
وأعظم الصلوات الخمس وأفضلها صلاتي العصر ثم الفجر وجاء في الفجر من الفضل ما لم يأت في غيرها، وكرر التأكيد عليها، وجعلت فرقاناً بين أهل الإيمان وأهل النفاق.
وفي أول الإسلام شرع صلاتان صلاة أول النهار وصلاة آخره، مما يدل على أن المسلمين كانوا يصلون صلاة الفجر قبل فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء والمعراج.
ثم أكد الأمر بها في القرآن بعد حادثة المعراج (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) [هود:114] (فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [الرُّوم:17] (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب:42] (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الفتح:9] (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الإنسان:25]
وصلاة الفجر تدخل في كل هذه الآيات، بل جاء في القرآن أنها سبب لذهاب الهموم والغموم، وتقوية العزم والصبر؛ ولذا أمر الله تعالى بالتسبيح الذي تدخل فيه صلاة الفجر، مع الأمر بالصبر في مواجهة أذى المؤذين (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ) [ق:39] وتكرر الأمر به في سور طه.
ووقت صلاة الفجر يسمى غدواً، وقد أثنى الله تعالى على من ارتادوا المساجد فيه (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ * رِجَالٌ) [النور:36-37]
وصلاة الفجر وما فيها من أقوال، وما بعدها من أذكار هي من التسبيح المأمور به في وقت الغدو، بل إن الله تعالى أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يعتني بأهل هذه الصلاة العظيمة (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام:52]
وصلاتهم الفجر هي من دعائهم بالغدو، وفي آية أخرى أمره -عز وجل- أن يصابر معهم (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) [الكهف:28]
فما أعظم مكانة رواد المساجد في الفجر، يسبحون الله تعالى ويدعونه والناس نيام، فيأمر الله تعالى بصبر النفس معهم ولو كانوا فقراء ضعفاء، وعدم الالتفات إلى من ضيعوا صلاة الفجر وما في وقتها من تسبيح ودعاء ولو كانوا ذوي جاه وقوة ومال.
ويتوج فضل صلاة الفجر في الكتاب العزيز بالإخبار أنها القرآن المشهود (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء:78]
فسميت قرآنا لمشروعية إطالة القرآن فيها أطول من غيرها؛ ولفضل القراءة فيها؛ لأن ملائكة الليل والنهار تشهدها في مساجد تعج بالقرآن في وقتها، كما في حديث أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الْمَلَائِكَةُ يَتَعَاقَبُونَ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ في صَلَاةِ الْفَجْرِ والعصر ثُمَّ يَعْرُجُ إليه الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وهو أَعْلَمُ فيقول: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ يُصَلُّونَ" رواه الشيخان.
فما أعظم مشهد المصلين وهم متراصون في صلاة الفجر، والملائكة يحفون بهم في مساجدهم!!
والمحافظة على صلاة الفجر سبب لحفظ العبد في الدنيا والآخرة؛ لما روى مسلم عن جُنْدَبِ بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى الصُّبْحَ فَهُوَ في ذِمَّةِ الله فلا يَطْلُبَنَّكُمْ الله من ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ فَيُدْرِكَهُ فَيَكُبَّهُ في نَارِ جَهَنَّمَ".
قال العلماء: "أي: في عهده وأمانه في الدنيا والآخرة". والمحافظ على صلاة الفجر،كأنه يقوم الليل؛ لما في حديث عثمان -رضي الله عنه- قال: سمعت رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من صلى الْعِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قام نِصْفَ اللَّيْلِ وَمَنْ صلى الصُّبْحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صلى اللَّيْلَ كُلَّهُ" رواه مسلم. ولأجل هذا الفضل العظيم كان عمر -رضي الله عنه- يقول: "لأن أشهد الفجر والعشاء فِي جماعة أحب إلي من أن أحيي مَا بَيْنَهُمَا".
والمشي إلى المساجد لأداء صلاة الفجر سبب للنور يوم القيامة؛ كما في حديث بُرَيْدَةَ -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بَشِّرْ الْمَشَّائِينَ في الظُّلَمِ إلى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يوم الْقِيَامَةِ" رواه أبو داود، وفي حديث آخر: "من مَشَى في ظُلْمَةِ لَيْلٍ إلى صَلَاةٍ آتَاهُ الله نُورًا يوم الْقِيَامَةِ" رواه الدارمي.
والمحافظة على الفجر سبب للنجاة من عذاب النار؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صلى قبل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، يَعْنِي: الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ" رواه مسلم.
وهي سبب لدخول الجنة كما في حديث أبي مُوسَى -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صلى الْبَرْدَيْنِ دخل الْجَنَّةَ" رواه الشيخان.
وهي كذلك سبب لنيل أعلى المقامات برؤية الله تبارك وتعالى؛ لما روى جَرِيرُ بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "كنا عِنْدَ النبي -صلى الله عليه وسلم- إِذْ نَظَرَ إلى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فقال: أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كما تَرَوْنَ هذا لَا تُضَامُّونَ أو لَا تُضَاهُونَ في رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا على صَلَاةٍ قبل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ثُمَّ قال: وسبح بِحَمْدِ رَبِّكَ قبل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا" رواه الشيخان.
فذكره -صلى الله عليه وسلم- لرؤية الله تعالى ثم أمره إياهم بصلاتي الفجر والعصر يدل على أن المحافظة عليهما سبب لحصول الرؤية.
قال الخطابي -رحمه الله تعالى-: "هذا يدل على أن الرؤية قد يرجى نيلها بالمحافظة على هاتين الصلاتين".
ومن حافظ على الفجر والعشاء باعد عن النفاق؛ لأن الصلاة ثقيلة على المنافقين (وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى) [التوبة:54] وأثقلها عليهم الفجر والعشاء، والفجر أثقل الصلاتين للاستغراق في النوم، فلا يفزع لها من نومه إلا من قوي إيمانه فقهر نفسه على أدائها مع المصلين في المساجد، روى أبو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس صَلَاةٌ أَثْقَلَ على الْمُنَافِقِينَ من الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ ما فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا" رواه الشيخان.
ولذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- يعلمون بعض المنافقين بتخلفهم عن الجماعة في العشاء والفجر؛ حتى جاء في مراسيل سعيد بن المسيب -رحمه الله تعالى-: "بيننا وبين المنافقين شهود العشاء والصبح لا يستطيعونهما" رواه مالك.
وجاء عَنِ ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما- قال: "كنا إذا فَقَدْنَا الرَّجُلَ في الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ أَسَأْنَا بِهِ الظَّنَّ" رواه الطبراني.
فليحذر كل مؤمن أن ينظم في سلك المنافقين وهو لا يشعر؛ وذلك بتضييعه صلاة الفجر مع الجماعة، وكل واحد أدرى بنفسه، ولن يحمل عمله غيره (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدَّثر:38]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء:142]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الْخُطْبَةُ الْثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لله حَمْدَاً طَيِّبَاً كَثِيْرَاً مُبَارَكَاً فِيْه كَمَا يُحِبُ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَه، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوُلُهُ، صَلَّى الله وَسَلَّمَ وْبَارَكَ عَلَيْه وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْدِّيِن.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا الله تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ، وَعَظِّمُوا حرماته، وأدوا فرائضه؛ فإن بين أيديكم موتاً وقبراً وحساباً وجزاء، فأعدوا لذلك عدته (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ) [آل عمران:30].
أيها المسلمون: كانت عناية النبي -صلى الله عليه وسلم- بصلاة الفجر شديدة جداً، ومما يدل على ذلك أنهم كانوا في سفر فقال -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه -رضي الله عنهم-: "من يَكْلَؤُنَا اللَّيْلَةَ لَا نَرْقُدَ عن صَلَاةِ الصُّبْحِ" رواه النسائي.
وكان من حرصه -صلى الله عليه وسلم- على صلاة الفجر أنه يتفقد أصحابه فيها؛ كما في حديث أُبَيِّ بن كَعْبٍ -رضي الله عنه- قال: "صلى بِنَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا الصُّبْحَ فقال: أَشَاهِدٌ فُلَانٌ؟ قالوا: لَا، قال: أَشَاهِدٌ فُلَانٌ؟ قالوا: لَا، قال: إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ على الْمُنَافِقِينَ وَلَوْ تَعْلَمُونَ ما فِيهِمَا لَأَتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا على الرُّكَبِ" رواه أبو داود.
وأخذ الصحابة -رضي الله عنهم- هذا الحرص الشديد على صلاة الفجر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فأبو الدرداء -رضي الله عنه- أبى في مرض موته إلا أن يحمل لحضور الجماعة مع شدة ما يجد فقال -رضي الله عنه-: "ألا احْمِلُونِي، فَحَمَلُوهُ فَأَخْرَجُوهُ فقال: اسْمَعُوا وَبَلِّغُوا من خَلْفَكُمْ، حَافِظُوا على هَاتَيْنِ الصَّلاَتَيْنِ الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ وَلَوْ تَعْلَمُونَ ما فِيهِمَا لأتيتموهما وَلَوْ حَبْوًا على مَرَافِقِكُمْ وَرُكَبِكُمْ" رواه ابن أبي شيبة. وقال أَبو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: "لَوْ يعلم القاعدون مَا للمشائين إلى هاتين الصلاتين: صلاة العشاء والفجر لأتوهما ولو حبواً".
وجاء عن عمر -رضي الله عنه- أنه كان يوقظ الناس لصلاة الفجر، وينادي: "الصلاة الصلاة".
وعلي -رضي الله عنه- حين قتله الخوارج كان يدور على الناس يوقظهم فيقول: "أيها الناس، الصلاة الصلاة"، قال الراوي: "كذلك كان يصنع في كل يوم يخرج ومعه درته يوقظ الناس".
وخلفهم التابعون على ذلك فبالغوا في المحافظة على صلاة الفجر وتعظيمها حتى أن سعيد بن المسيب -رحمه الله تعالى- اشتكى عينه فقالوا له: "لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة لوجدت لذلك خفة، قال: فكيف أصنع بشهود العتمة والصبح؟!".
وبعد كل هذه النصوص والآثار في العناية بصلاة الفجر وشهودها مع الجماعة نسمع في زمننا هذا من يرفع عقيرته، ويسود صحيفته، يدعو الناس إلى الزهد في حضور الجماعة، ويهون من أمر الصلاة في قلوبهم، ويصدقه ويتبعه من كان له هوى في ذلك، وإلا فكثرة النصوص المشددة في الجماعة تغني عن الاستماع إلى الأفاكين، وما فعلهم هذا إلا من برودة الدين في قلوبهم، وقلة الفقه في أمورهم، والفتنة بالدنيا وزينتها، نعوذ بالله تعالى من الخذلان.
تأملوا -يا عباد الله- قول الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: "وَلَوْ تَعْلَمُونَ ما فِيهِمَا لَأَتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا على الرُّكَبِ"، فإنه يدل على أن ما في الفجر والعشاء من الأجر والمنفعة عظيم جداً لا يمكن عده، فأبهمه النبي -صلى الله عليه وسلم- لكثرته وعظمته.
ولو طلب من الناس أن يَحْبُوْا على مرافقهم وركبهم مسافة طويلة مقابل منصب دنيوي، أو مبلغ من المال مجز، أو أراض في موقع مميز لرأينا الناس يحبون لنيل ذلك، وربنا جل جلاله ما أمرنا أن نحبوا للمساجد لنيل الأجر، ومتعنا بأقدام تحملنا إليها، وأنعم علينا بصحة تبلغنا إياها، وأمن طريقنا إليها، وأخبرنا على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن أجرها يستحق لو عجزنا عن المشي أن نحبوا لأدائها مع المسلمين؛ فما بال كثير من الناس يحرمون هذا الخير العظيم، ويفرطون في هذا الأجر الكبير، وهم يسعون جادين في عرض من الدنيا قليل؟! إن هذا لهو الخسران المبين.
ألا فاتقوا الله ربكم، واعمروا بالصلاة مساجدكم، وألزموا بشهود الجماعة من تحت أيديكم من ولد وخدم؛ فإنهم من رعيتكم التي تسألون عنها يوم القيامة، وكلكم راع ومسئول عن رعيته، (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:132].
وصلوا وسلموا على نبيكم.