الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | عبد الله الواكد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
إنَّ البدعَ بريدُ الكفرِ، وهي زيادةُ دينٍ لم يشرعْهُ اللهُ ولا رسولُه، والبدعةُ شرٌّ من المعصيةِ الكبيرةِ، والشيطانُ يفرحُ بها أكثرَ مما يفرحُ بالمعاصي الكبيرةِ؛ لأنَّ العاصي يفعلُ المعصيةَ وهو يعلمُ أنها معصيةً فيتوبُ منها، والمبتدعُ يفعلُ البدعةَ يعتقدُها ديناً يتقربُ بهِ إلى اللهِ، فلا يتوبُ منها. والبدعُ تقضي على السُننِ، وتكرِّهُ إلى...
الخطبة الأولى:
أما بعدُ:
أيها المسلمون: فالبدعةُ لغةً مأخوذةٌ منَ البَدْعِ، وهو الاختراعُ على غيرِ مثالٍ سابقٍ، قال تعالى: (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ) [الأحقاف: 9].
والابتداعُ يأتي على قسمينِ:
أحدُهُما: ابتداعٌ في العاداتِ كابتداعِ المخترعاتِ الحديثةِ، وهذا مباحٌ؛ لأنَّ الأصلَ في العاداتِ الإباحةَ.
وأما القسمُ الثاني فهو: الابتداعُ في الدينِ، وهذا محرمٌ؛ لأنَّ الأصلَ في الدينِ التوقيفُ، قال عليهِ الصلاةُ والسلامُ: "منْ عملَ عملاً ليسَ عليهِ أمرُنا فهوَ رد".
والبدعةُ في الدِّينِ نوعانِ: بدعةٌ قوليةٌ اعتقاديةٌ، كمقالاتِ الجهميةِ والمعتزلةِ والرافضةِ، وسائرِ الفِرَقِ الضالةِ، واعتقاداتِهم.
والنوعُ الثاني: بدعةٌ عمليةٌ في العباداتِ، كالتعبُّدِ للهِ بعبادةٍ لمْ يشرعْها.
والبدعةُ العمليةُ أربعةُ أقسامٍ:
أولُها: ما يكونُ في أصلِ العبادةِ، بأنْ يُحدَثَ عبادةً ليسَ لها أصلٌ في الشرعِ، كأنْ يُحدثَ صلاةً غيرَ مشروعةٍ، أو صياماً غيرَ مشروعٍ أصلاً، أو أعياداً غيرَ مشروعةٍ كأعيادِ الموالدِ، وغيرِها.
والقسمُ الثاني: ما يكونُ منَ الزيادةِ في العبادةِ المشروعةِ، كما لو زادَ ركعةً خامسةً في صلاةِ الظهرِ أو العصرِ مثلاً.
والقسمُ الثالثُ: ما يكونُ في صفةِ أداءِ العبادةِ المشروعةِ، بأنْ يؤدِّيها على صفةٍ غيرِ مشروعةٍ، وذلكَ كأداءِ الأذكارِ المشروعةِ بأصواتٍ جماعيةٍ مُطربةٍ، وكالتشديدِ على النفسِ في العباداتِ إلى حَدٍّ يُخرجُ عنْ سنةِ الرسولِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-.
والقسمُ الرابعُ: ما يكونُ بتخصيصِ وقتٍ للعبادةِ المشروعةِ لمْ يخصِّصْهُ الشرعُ، كتخصيصِ يومِ النصفِ من شعبانَ وليلتِهِ بصيامٍ وقيامٍ؛ فإنَّ أصلَ الصيامِ والقيامِ مشروعٌ، ولكنْ تخصيصُهُ بوقتٍ من الأوقاتِ يحتاجُ إلى دليلٍ.
أيها المسلمونَ: وكلُّ بدعةٍ في الدينِ فهيَ محرمةٌ وضلالةٌ؛ لقولِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: "فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعةٍ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٍ".
وفي روايةٍ: "مَنْ أحدثَ في أمرِنا هذا ما ليسَ منهُ فهو ردٌّ".
ومعنى ذلكَ: أنَّ البدعَ في العباداتِ والاعتقاداتِ محرمةٌ، ولكنَّ التحريمَ يتفاوتُ بحسبِ نوعيةِ البدعةِ، فمنها ما هو كفرٌ صراحٌ، كالطوافِ بالقبورِ تقرباً إلى أصحابها، وتقديمِ الذبائحِ والنذورِ لها، ودعاءِ أصحابها، والاستغاثةِ بهم، وكأقوالِ غلاةِ الجهميةِ والمعتزلةِ، ومنها ما هو من وسائلِ الشركِ، كالبناءِ على القبورِ والصلاةِ والدعاءِ عندَها، ومنها ما هو فسقٌ اعتقاديٌّ كبدعةِ الخوارجِ والقدريةِ والمرجئةِ في أقوالِهم واعتقاداتهم المخالفةِ للأدلةِ الشرعيةِ، ومنها ما هو معصيةٌ، كبدعةِ التبتُّلِ والإشقاقِ على النفسِ.
وأمَّا مَنْ قسَّمَ البدعةَ إلى بدعةٍ حسنةٍ وبدعةٍ سيئةٍ فهو مخطئٌ ومخالفٌ لقولِه صلى اللهُ عليه وسلمَ: "كلُّ بدعةٍ ضلالةٌ".
وأماَّ قولُ عمرَ -رضي اللهُ عنه- في صلاةِ التراويحِ: "نَعِمت البدعةُ" فإنما يريدُ البدعةَ اللغويةَ لا الشرعيةَ؛ لأنَّ النبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قد صلى التراويحَ بأصحابِهِ ليال، وتخلَّفَ عنهم في الأخيرِ خشيةَ أن تُفرضَ عليهم، فما كانَ له أصلٌ في الشرعِ يُرجعُ إليهِ، فإنه إذا قيلَ إنه بدعةٌ، فهو بدعةٌ لُغةً لا شرعاً؛ لأنَّ البدعةَ شرعاً ما ليسَ لهُ أصلٌ في الشرع.
أيها المؤمنون: وتختلفُ البلدانُ الإسلاميةُ في ظُهورِ البدعِ فيها، قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: "فإن الأمصارَ الكبارَ التي سكَنها أصحابُ رسولِ اللِه -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، وخرجَ منها العلمُ والإيمانُ خمسةٌ: الحَرَمَانِ، والعِرَاقَانِ، والشامُ، منها خرجَ القرآنُ والحديثُ، والفقهُ والعبادةُ، وما يتبعُ ذلكَ من أمورِ الإسلامِ، وخرجَ من هذهِ الأمصارِ أيضاً بِدعٌ أصوليةٌ، فالكوفةُ خرجَ منها التشيُّعُ والإرجاءُ، وانتشرَ بعدَ ذلكَ في غيرِها، والبصرةُ خرجَ منها القدرُ والاعتزالُ والنسُكُ الفاسدُ، وانتشرَ بعدَ ذلكَ في غيرِها، والشامُ كانَ بها النصبُ والقدرُ، وأما التجهُّمُ فإنما ظهرَ في ناحيةِ خُراسانَ، وهو شرُّ البدعِ.
وكانَ ظهورُ البدعِ بحسبِ البعدِ عنَ الدارِ النبويةِ، فلما حدثت الفرقةُ بعد مقتلِ عثمانَ ظهرت بدعةُ الحَرُورية.
وأما المدينةُ النبويةُ فكانت سليمةً من ظهورِ هذهِ البدعِ، فالعصورُ الثلاثةُ المفضلةُ لم يكنْ في المدينةِ النبويةِ بدعةٌ ظاهرةٌ ألبتة، ولا خرجَ منها بدعةٌ في أصولِ الدينِ ألبتة، كما خرجَ من سائرِ الأمصار.
عبادَ الله: ومما لا شكَ فيه أن الاعتصامَ بالكتابِ والسنةِ فيه منجاةٌ من الوقوعِ في البدعِ، فمنْ أعرضَ عن الكتابِ والسنةِ تنازعتْهُ الطرقُ المضللةُ، والبدعُ المحدثةُ.
وأما الأسبابُ التي أدَّتْ إلى ظهورِ البدعِ، فتتلخصُ في الجهلِ بأحكامِ الدينِ، واتباعِ الهوى، والتعصبِ للآراءِ والأشخاصِ، والتشبهِ بالكفارِ وتقليدِهم.
وما زالَ أهلُ السنةِ والجماعةِ يردونَ على المبتدعةِ، وينكرونَ عليهم بِدَعَهم، ويمنعونهم من مزاولتِها، فعن أمِّ الدرداءَ قالت: "دخلَ عليَّ أبو الدرداءَ مُغضَباً، فقلتُ لهُ: ما لكَ؟ فقالَ: واللهِ ما أعرفُ فيهم شيئاً من أمرِ محمدٍ إلا أنهم يصلونَ جميعاً".
وعن عُمر بنِ يحيىَ قال: "سمعتُ أبي يُحدثُ عن أبيهِ قال: كنا نجلسُ على بابِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ قبلَ صلاةِ الغداةِ، فإذا خرجَ مشينا معهُ إلى المسجدِ، فجاءَنا أبو موسى الأشعريُّ، فقال: أخَرَجَ عليكم أبو عبد الرحمنِ بعدُ؟ قلنا: لا، فجلسَ معنا حتى خرجَ، فلما خرجَ قمنا إليهِ جميعاً، فقال: يا أبا عبدِ الرحمنِ، إني رأيتُ في المسجدِ آنفاً أمراً أنكرتُهُ، ولم أرَ -والحمدُ للهِ- إلا خيراً، قال: وما هو؟ قال: إنْ عشتَ فستراهُ، قال: رأيتُ في المسجدِ قوماً حِلقاً جلوساً ينتظرونَ الصلاةَ، في كلِّ حلقةٍ رجلٌ، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، فيقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: ثم مضى ومضينا معهُ؛ حتى أتى حلقةً من تلكَ الحلقِ، فوقفَ عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعونَ؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصىً نعدُّ به التكبيرَ والتهليلَ والتسبيحَ والتحميدَ، قالَ: فعدوا سيئاتِكم، فأنا ضامنٌ أن لا يضيعَ من حسناتكِم شيءٌ، ويْحُكُم يا أمةَ محمدٍ، ما أسرعَ هلكتُكُم، هؤلاءِ أصحابُهُ متوافرونَ، وهذه ثيابُه لم تَبلُ، وآنيتُه لم تُكسرْ، والذي نفسي بيدِه: إنكم لعلى ملةٍ هي أهدى من ملةِ محمدٍ، أو مفتتحو بابَ ضلالةٍ، قالوا: والله يا أبا عبدِ الرحمنِ ما أردنا إلا الخيرَ، قال: وكم مريدٍ للخيرِ لن يصيبَه! إنَّ رسولَ اللهِ حدثنا أن قوماً يقرؤون القرآنَ لا يجاوزُ تراقيهم، وايمَ اللهِ لا أدري لعلَّ أكثرَهُم منكم، ثم تولَّى عنهم، فقال عمرو بن سلمةَ: رأينا عامةَ أولئك يُطاعنوننا يومَ النهروانِ مع الخوارجِ".
ومن البدعِ المعاصرةِ: الاحتفالُ بالمولدِ النبويِّ، والتبركُ بالأماكنِ والآثارِ والأمواتِ، ونحوِ ذلكَ، ومنها ما يُفعلُ في شهرِ رجبَ من العباداتِ الخاصةِ به، كالتطوعِ بالصلاةِ والصيامِ، والعمرةِ فيهِ خاصةً، فإنه لا ميزةَ له على غيرهِ من الشهورِ، لا في الصيامِ ولا في الصلاةِ، ولا غيرِ ذلكَ.
ومن ذلكَ أيضا: تخصيصُ ليلةِ النصفِ من شعبانَ بقيامٍ، ويومِ النصفِ من شعبانَ بصيامٍ فإنه لم يثبتْ عن النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- في ذلكَ شيءٌ خاصٌ.
ومنْ ذلكَ: البناءُ على القبورِ، واتخاذُها مساجدَ، وزيارﺗُها لأجلِ التبرُّكِ بها، وزيارةُ النساءِ لهاَ، والتوسُّلُ بالموتى، وغيرُ ذلكَ منَ الأغراضِ الشركيةِ.
نسألُ اللهَ أنْ يحميَنَا وإياكُم من شرورِ هذه البدعِ، وأن يثبتَنَا على نهجِ القرآنِ وهديِ السنةِ.
باركَ اللهُ لي ولكُم بالقرآنِ العظيمِ...
الخطبة الثانية:
أيها المسلمونَ: وختاماً نقولُ: إنَّ البدعَ بريدُ الكفرِ، وهي زيادةُ دينٍ لم يشرعْهُ اللهُ ولا رسولُه، والبدعةُ شرٌّ من المعصيةِ الكبيرةِ، والشيطانُ يفرحُ بها أكثرَ مما يفرحُ بالمعاصي الكبيرةِ؛ لأنَّ العاصي يفعلُ المعصيةَ وهو يعلمُ أنها معصيةً فيتوبُ منها، والمبتدعُ يفعلُ البدعةَ يعتقدُها ديناً يتقربُ بهِ إلى اللهِ، فلا يتوبُ منها.
والبدعُ تقضي على السُننِ، وتكرِّهُ إلى أصحاﺑِها فعلَ السننِ وأهلِ السنةِ، والبدعةُ تباعدُ عن اللهِ، وتوجِبُ غضبَهُ وعقابَهُ، وتُسببُ زيغَ القلوبِ وفسادَها.
ثمَّ إنهُ يجبُ أنْ نعلمَ أنَّ دولَ الكفرِ والبدعةِ والضلالِ تشجِّعُ المبتدعةَ على نشرِ بدعتِهم، وتساعدُهُم على ذلكَ بشتى الطرقِ؛ لأنَّ في ذلكَ القضاءُ على الإسلامِ، وتشويهٌ لصورتِهِ.
نسألُ اللهَ أنْ ينصرَ دينَه، ويُعلي كلمتَه، ويخذلَ أعداءَه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.