الرقيب
كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | يحيى بن موسى الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - المنجيات |
الكسوف والخسوف لتخويف العباد، وليس أموراً فلكية عادية طبيعية فحسب كما يصورها أعداء الملة والدين، ليبعدوا المسلمين عن دينهم، لتقسوا قلوبهم، ولا يعد لديهم أي اهتمام بهذه الآية العظيمة، حتى أن البعض منهم يفرح ويستبشر بوجود هاتين الآيتين، ومنهم من يذهب إلى قمم الجبال، وأعالي التلال، ليشاهدوا ذلك الحدث العظيم بالمناظير والتلسكوبات، ويغمرهم الفرح والسرور، وغفلوا بل عميت عقولهم عن السبب الحقيقي لذلك، فرحماك ربنا رحماك.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر، وأشهد أن لا إله إلا الله المنجِّي من عذاب النار وعذاب القبر، والصلاة والسلام على نبينا محمد ما أشرقت شمس وأنار بدر.
أما بعد: فقد خلق الله الليل والنهار والشمس والقمر لحكمة بالغة وغاية سامية، فهم يسبحون الله تعالى لقوله -تعالى-: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس: 40]، فالليل سكن وراحة واطمئنان والقمر نوره، أما النهار فمعاش وكد وتعب ونصب والشمس ضياؤه، ولهذا قال الله -تعالى-: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا) [الفرقان: 47]، والله -تعالى- حكيم عليم لا يخلق شيئاً عبثاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما خلق كل شيء لحكمة.
ومما خلق الله -تعالى- الشمس والقمر، وهما آيتان من آيات الله -تعالى- خُلقا من أجل مصلحة عامة أو خاصة، وكل ذلك بتقدير الله -عز وجل-، فقال -جل من قائل سبحانه-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس: 5]، وقال -تعالى-: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام: 96].
يقول بن كثير في تفسير هذه الآية: "والشمس والقمر حسباناً أي يجريان بحساب مقنن مقدَّر، لا يتغير ولا يضطرب، بل لكل منهما منازل يسلكها في الصيف والشتاء، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولاً وقصراً" انتهى.
وقال ابن سعدي في تفسير هذه الآية: "والشمس والقمر حسباناً، بهما تعرف الأزمنة والأوقات فتنضبط بذلك أوقات العبادات، وآجال المعاملات، ويعرف بها مدة ما مضى من الأوقات" انتهى.
عباد الله: من حكمة الله -تعالى- أن جعل في تلك الآيتين العظيمتين -الشمس والقمر- جعل فيهما تخويفاً لعباده إذا طغوا وبغوا، أن يراجعوا دينهم قبل أن يحل بهم عذاب ربهم، ولهذا كان الكسوف والخسوف ظاهرتين غريبتين يخوف الله بهما عباده، قال -تعالى-: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) [الإسراء: 59].
لذلك كان الدافع للكسوف والخسوف هو تخويف العباد، وليس أموراً فلكية عادية طبيعية فحسب كما يصورها أعداء الملة والدين، ليبعدوا المسلمين عن دينهم، لتقسوا قلوبهم، ولا يعد لديهم أي اهتمام بهذه الآية العظيمة، حتى أن البعض منهم يفرح ويستبشر بوجود هاتين الآيتين، ومنهم من يذهب إلى قمم الجبال، وأعالي التلال، ليشاهدوا ذلك الحدث العظيم بالمناظير والتلسكوبات، ويغمرهم الفرح والسرور، وغفلوا بل عميت عقولهم عن السبب الحقيقي لذلك، فرحماك ربنا رحماك.
أيها المسلمون: معلوم أن الكسوف والخسوف لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فالأمر أكبر من ذلك وأخطر، فهي آيات من آيات الله -تعالى- الدالة على عظمته وجبروته وقوته، ليخوف بها عباده حتى يتوبوا إلى بارئهم، ويعودوا إلى دينهم، فالواجب إذا رأى الناس ذلك أن يفزعوا خائفين وَجِلين، مبتهلين باكين، ويتضرعوا إلى الله بالدعاء والتوبة والإنابة، وأن يكثروا من الاستغفار، ويظهروا الافتقار للواحد القهار، ويكثروا من الصدقة وأعمال البر والخير، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، ومساعدة اليتامى والأرامل، وأن يهرعوا إلى الصلاة، وهي صلاة غير مألوفة، لم يألفها الناس ولم يعتادوها.
أيها الإخوة في الله: كسفت الشمس في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففزع وفزع معه المسلمون فزعاً شديداً، وخرج -عليه الصلاة والسلام- مسرعاً إلى المصلى، حتى إن رداءه سقط على الأرض ولم يشعر به من شدة فزعه وخوفه، وهول تلك الآية العظيمة.
وعندما وصل المصلى نادى مناد بالناس "الصلاة جامعة"؛ فاجتمع الناس رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، فصلى بهم صلاة غريبة لغرابة واقعتها، والناس يصرخون ويبكون خوفاً من الله تعالى، ولقد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلك الصلاة، رأى الجنة والنار، ورأى أموراً جساماً، فرأى النار، فقال: "ما رأيت منظراً أفظع منها"، اللهم أجرنا من النار، ثم بعد الصلاة خطب الناس خطبة بليغة وعظهم وذكرهم بربهم -سبحانه-، وخوفهم من عقوبته وسطوته.
معاشر المسلمين: حالنا اليوم مع الكسوف والخسوف حال غريبة قد لا تَمُتّ للإسلام بصلة والعياذ بالله، فكم وقع الكسوف والخسوف، وكم صلينا تلك الصلاة، ومع ذلك فالناس بل أكثرهم ما بين لهو ولعب، ومشاهدة للحرام عبر القنوات والشاشات والمجلات، وجلوس على الشوارع والأرصفة لسماع دندنة خبيثة محرمة، وآخرون نائمون لاهون غافلون، وكثيرون غارقون في بحر الذنوب والمعاصي.
فإذا رأوا تلك الآيات لم يحرِّك ذلك فيهم ساكناً، فهل بعد هذه الغفلة من غفلة، فهم سكارى وما هم بسكارى، ألهتهم المغريات والملهيات، فلا إله إلا الله، وسبب ذلك ما أوقعه أعداء الدين في قلوب المسلمين، من تهوين وتسهيل لأمر الكسوف والخسوف، وأن ذلك أمر طبيعي يحدث كل عام، وأن سببه ظاهرة طبيعية لا خوف ولا قلق منها البتة، حتى قست قلوب كثير من المسلمين فهي كالحجارة أو أشد قسوة.
والصحيح أن الكسوف والخسوف آيتان من آيات الله -تعالى- يظهرهما لحكمة بالغة، ليراجع الناس دينهم ويصحوا من غفلتهم، لكن وللأسف قد تم للأعداء ما أرادوا، فتساهل الناس بأمر الكسوف والخسوف، حتى لم يقبل على المساجد إلا كبار السن ومن كتب الله لهم الهداية والتوفيق، أما الآخرون فهم غارقون في سباتهم وغفلتهم ولهوهم ولعبهم، لا خوف ولا حياء من الله تعالى، نسأل الله أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً.
عباد الله: هناك سببان للكسوف والخسوف، سبب حسي، وآخر شرعي، فالسبب الحسي لكسوف الشمس، أن القمر يقع بينها وبين الأرض فيحجب ضوءها عن الأرض، أما سبب خسوف القمر، فهو وقوع الأرض بين الشمس والقمر، فتحول الأرض بينهما، ومعلوم أن القمر جرم معتم يستمد نوره من الشمس، فإذا حالت الأرض بينهما وقع الخسوف.
أما السبب الشرعي وهو المهم، فيتضح جلياً في الحديث الذي رواه المغيرة بن شعبة قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم مات إبراهيم فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته؛ فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا الله"، وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد، ولكن الله -تعالى- يخوف بها عباده" (رواه البخاري).
إذاً السبب الشرعي في حدوث الكسوف والخسوف هو تخويف الله للعباد، ليتركوا ما وقعوا فيه من الذنوب والمعاصي والآثام الجسام، وتوالى حدوث تلك الآيات في هذا الوقت بالذات لكثرة المغريات الحياتية، والانفتاحية والإباحية التي تعيشها معظم المجتمعات، فانجرف الناس في تيار الحضارة الزائفة، فضلوا أنفسهم وأضلوا غيرهم، فأرسل الله -تبارك وتعالى- تلك الآيات تخويفاً وإنذاراً لعباده؛ كيلا يحل بهم ما بحل بمن سبقهم من الأمم الغابرة.
فعليهم أن يرجعوا إلى ربهم ويعودوا إلى دينهم حتى لا يقع بهم سخط الله وغضبه، قال -تعالى-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41]، فالواجب على المسلم إذا رأى تلك الآيات العظام والعلامات الجسام أن يبادل إلى طاعة ربه ومولاه، وأن يفزع إلى الصلاة خوفاً من ربه سبحانه، ويترك ما سوى ذلك من ملاهٍ وملاعب ومغريات.
عباد الله: بالنسبة لكسوف الشمس لا يمكن أن يحدث إلا في أواخر ليلة الثامن والعشرين، أو التاسع والعشرين، أو الثلاثين، لأنه في تلك الأيام يكون القمر قريباً من الشمس فيحجب بعض ضوئها عن الأرض فيحدث الكسوف، أما خسوف القمر فلا يحدث إلا في أيام إبدار القمر، أي في الأيام التي يكون فيها القمر بدراً، ويكون ذلك في ليلة الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر. (انظر فتاوى بن تيمية 12/370).
أيها المسلمون: أما كيفية صلاة الكسوف فهي كما صليناها، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: خسفت الشمس في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالناس، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام، وهو دون الأول، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول، ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى، ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا، وصلوا، وتصدقوا، ثم قال: يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً " (رواه البخاري).
ولنا مع هذا الحديث وقفات:
1- أن الكسوف والخسوف آية من آيات الله -تعالى- يخوف الله بها عباده.
2- الكسوف يرتبط بالشمس، بينما الخسوف يكون مرتبطاً بالقمر، وذلك إذا اجتمعا، فيقال: كسوف الشمس، وخسوف القمر، أما إذا انفردا فيطلق على كل منهما كسوف وخسوف، فيقال: كسوف الشمس وخسوف الشمس، وكسوف القمر وخسوف القمر.
3- إذا حصل الكسوف والخسوف، فعلى الناس أن يفزعوا إلى الصلاة والدعاء والصدقة والتكبير والتهليل وذكر الله -تعالى- على كل حال، والإقلاع عن المعاصي والذنوب، والتوبة إلى الله علام الغيوب.
4- اختلف العلماء في حكم صلاة الكسوف والخسوف، فمنهم من قال: أنها سنة، ومنهم من قال: أنها واجبة، وهو اختيار العلامة بن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى-، والصحيح أنه سنة مؤكدة، وهو قول جماهير العلماء.
5- يسن لصلاة الكسوف خطبة واحدة، وهو قول الشافعي وإسحاق وكثير من أهل الحديث، بينما ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنه ليس لها خطبة، والصحيح في ذلك أنه يسن لها خطبة، وهو اختيار الشيخ محمد بن صالح العثيمين.
6- تعجيل التوبة والإنابة إلى الله –تعالى-، قبل أن يحل الموت، هادم اللذات، ومفرِّق الجماعات، فحينئذ لا ينفع الندم، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.
7- أن يكون ابتداء وقت الصلاة من حين بداية الكسوف، ونهايتها إلى أن ينجلي.
8- التحذير من الذنوب والمعاصي، وأنها سبب هلاك الأمم والأفراد.
9- أن الكسوف والخسوف لا يكون لموت زعيم ولا لحياته، ولا لموت عالم ولا لموت رفيع ولا وضيع، ولو كان ذلك حاصلاً، لحصل لموت أشرف البشر وأفضل من وطئت قدماه هذه الأرض نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه وجه أمته إلى أن الكسوف والخسوف آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما يخوف الله بها عباده، فخرج بذلك من يقول أن الشمس أو القمر انكسفت لموت فلان من الناس، فلا ينكسفان لموت عالم ولا حاكم ولا قريب ولا بعيد.
10- إطلاع الله -عز وجل- نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- على بعض أمور الغيب التي لا يستطيعها أحد من الناس.
11- يجوز أداؤها في أوقات النهي، فتؤدى بعد صلاة العصر، وبعد صلاة الفجر، لأنها من ذوات الأسباب التي إذا وقع سببها أوديت.
12- يجوز أداؤها ركعتين في كل ركعة ركوعان أو ثلاث أو أربع أو خمس؛ لأن ذلك ثابت عن الصحابة -رضوان الله عليهم-، ولكن الأفضل الاقتصار على الذي جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
13- الاعتبار فيها بالركوع الأول دون الثاني؛ لأن الأول هو الركن، فمن فاته الركوع الأول من الركعة الأولى أو الثانية فعليه الإتيان بتلك الركعة كاملة بعد سلام الإمام.
14- من المعلوم أن الركوع فيها طويل جداً، فماذا يقول المصلي في هذا الركوع؟ لقد وجَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك بقوله: "فأما الركوع فعظموا فيه الرب"، فيقال: سبحان ربي العظيم، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
أما السجود فيكثر فيه من الدعاء، لأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، فيكثر من الدعاء لأنه حري بالإجابة في هذا الموضع الذي يخضع فيه العبد لربه سبحانه وتعالى، فيرغم أنفه وجبهته لخالقه سبحانه.
وصلوا وسلموا...