الخلاق
كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...
العربية
المؤلف | يحيى جبران جباري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - التاريخ وتقويم البلدان |
من حجر والده وكنفه أُخرج، وهو لا يزال في حاجة لأب يهتم به ويرعاه، وأُلقي في جُبّ وحيدًا بسبب كُرْه وبُغْض من إخوته، بدون ما ذنب أتاه، ويا لألم القلب عندما يُبغِض الأخ أخاه، بيع بثمن بخس رغم أنه نبي ابن نبي ابن نبي ابن خليل الله.. فُتِنَ في نفسه، فدعته من هو في بيتها لفعل الفحش فترفع عنه وأباه، ألقي في السجن مظلومًا دونما جرم جناه، لبث في السجن مدة ترهق المجرم، فكيف بمن هو محسن تقي نقي من أنبياء الله.. كل هذا وهو صابر محتسب واثق في فرج الله، وقد آتاه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله أنزل في القرآن عجبًا؛ أحمده سبحانه وأشكره ما تحدث مخلوق وكتب، وأستعينه وأستهديه وأستغفره، هو المعين على دفع النصب، والهادي لمن شاء ورغب، والغافر لمن للخطايا اكتسب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أرجو بها النجاة يوم الكُرَب، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله؛ اجتباه ربه للرسالة والشفاعة له وهب، صل اللهم وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم تتطاير فيه الصحف والكتب.
ثم أما بعد: فأوصيكم -أيها المسلمون- ونفسي المقصرة بتقوى الله -عز وجل- وخشيته والعمل رجاء رحمته والخوف من شديد عقابه وغضبه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 1- 2].
أمة خير الأنام: مهما تعددت الأساليب والألفاظ وأنواع الكلام فليس أصدق ولا أفصح ولا أوضح ولا أوجز من كلام ربكم العلام وما قاله من وحي ربه -عليه الصلاة والسلام- (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) [النجم: 3- 5]، وعن القرآن (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9].
وقد جاء في هذا القرآن العظيم أحكام وأخبار عن الأمم السابقة، وتفصيل باهتمام وجاء فيه قصص وعبر لأولي الألباب والأفهام (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 11].
وقد بيَّن سبحانه لنبيه وأمة نبيه بأن في بيان هذه القصص تصبيرًا وتسلية وعونًا وهداية لإكمال المهمة وليتم الله عليهم المنة؛ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) [يوسف: 2].
ومن ضمن ما جاء من قصص القرآن الكريم (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) [يوسف: 3]، أخبر الفتى أباه بما جاءه في نومه ورآه، ورؤيا الأنبياء وحي، علم الأب أن هناك ابتلاء ينتظر هذا الغلام؛ لأن الله اجتباه كما اجتبى أبويه من قبل إبراهيم وإسحاق، ولا مناص من الابتلاء لمن اختاره الله ليكون من الأنبياء، العلم عند الله بما سيكتبه عليه ويشاء.
تحركت الغيرة في قلوب الإخوة على أخيهم؛ الحبيب لأبيهم، ومن هو من نظره قريب، فأثار الشيطان في أنفسهم الرغبة في التخلص منه ليظفروا بقلب أبيهم مهما كانت الأساليب، سواء بالقتل أو غيره.
وإن هاج في النفس الحسد أصبح العقل غريبًا، طرحوا فكرة القتل فأبى أحدهم وأعطاهم فكرة إلقائه في البئر؛ لأن الله لم يشأ له القتل ولم يرده.
ما هي الفكرة ليخرجوا هذا الغلام من تحت نظر أبيه، وتطبيق ما قيضته لهم النفس الأمارة وما تمليه، طلبوا من والدهم أن يسمح له بالذهاب معهم ليرتع ويلعب، أرسل الفكرة والدهم وهو لا يشعر، ولكن الله إن شاء أمرًا فسيحصل؛ (قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) [يوسف: 13]، فقالوا باستحالة حصول ذلك وهم عصبة.
ذهبوا به فنزل على يوسف الوحي بما يريدون وبالنجاة مما سيفعلون، وأنه سيخبرهم بذلك وهم لا يشعرون، ألقوه في الجب (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ)، وقد ذبحوا شاة ولطخوا بدمها قميص الغلام المسكين مدعين بأن الذئب أكله، والله يعلم أنهم لكاذبون.
وقع الخبر كالصاعقة على الأب، فكيف يفقد يوسف الذي له شأن عظيم في قلبه المكلوم، فقال بثبات النبي والعبد التقي (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)، وطلب من الله العون.
بينما الغلام في غياهب الجب إذ بالليل يرخي ستائر الظلام و لا عجب؛ وصوت الضفادع في البئر تنق؛ فبدأ يسبِّح ربه تسبيحَ العبد الواثق، وفي الصباح مرت قافلة تريد الشرب أنزلوا الدلو فإذا بالغلام معلق، أخذوه ولحكمة شاءها الله بثمن زهيد باعوه.
من اشتراه أوصى أهل بيته بأن يحافظوا عليه ويراعوه، فلا غلام له وقد أتى الله بخير غلام عنده، كبر الغلام واستوى في النضج، وأما الجمال فلا كلام؛ يقول -عليه الصلاة والسلام-: "رأيت أخي يوسف وقد أُوتي شطر الجمال"، يعني نصفه.
تحركت شهوة النساء في المرأة التي تراه أمامها صباح مساء، فبدأت تراوده عن نفسه ليقع في الفحشاء، فتمنَّع خوفًا من الله، فهرب يريد الابتعاد عن الاختلاء، فأمسكت قميصه من الخلف فقُطِعَ، وكان هذا أعظم الأسباب لتبرئته بعد أن حضر صاحب الدار والتقيا بالباب، فتقدمت هي بالشكوى ما جزاء من أراد بأهلك سوءًا، فدافع عن نفسه، فحكم أحد قرابتها بما شاء الله من فوق السماء.
بدأ الحديث بما حصل من جانب النساء، فاستدعتهن ليرين ما دعاها لما فعلته ويذهب الغشاء، أعطت كل واحدة منهن سكينًا وأمرته بالدخول عليهن رأين مالم يرينه من قبل من جمال وكمال فقطعن أيديهن، (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)؛ وقلن بصوت واحد بلا استحياء: (حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ) [يوسف: 30- 31].
استمرت المحاولات لإيقاعه في الإثم، وهُدِّد إن لم يفعل ذلك بدخول السجن، فاختار السجن فدخله ولبث فيه بضع سنين، دخل معه السجن فتيان وهما السبب في خروجه بمشيئة المنان، نام صاحبي السجن فرأى الأول في المنام، أنه يعصر خمرًا ورأى الآخر أنه يحمل فوق رأسه خبزًا تأكل الطير منه.
ولما رأياه من هذا الشاب من إخلاص لربه وإيمان، طلبا منه أن يفسِّر لهما الرؤيتان، وقد آتاه الله تفسير الأحلام، فسَّر لهما الرؤى، فكان ما شاء الله منها فصلب أحدهما وأكلت الطير من رأسه، والآخر خرج من السجن ليسقي من يملكه خمرًا، وليكون همزة الوصل بين يوسف وبين الملك الذي رأى في المنام سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات عجز المتنبئون عن التعبير، وقالوا: (أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) [يوسف: 44]، وما هي إلا مشيئة رب العالمين، ليخرج هذا النبي من وراء قضبان لبث خلفها مظلومًا سنين.
قلت ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمات والمسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله جعل الأنبياء أشد الخلق ابتلاء أحمده سبحانه وأشكره بلا انتهاء، وأشهد أن لا إله إلا الله؛ فاطر الأرض والسماء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بيَّن له ربه أخبار الأمم السابقة والأنباء؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ما لهجت الألسن بالدعاء..
وبعد أمة خير الأنبياء: اتقوا الله –تعالى-؛ فمن اتقاه تزود بخير زاد ينفعه يوم اللقاء (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197].
عباد الله: قد سمعتم ما سردناه وقصصناه من خبر نبي الله يوسف -عليه السلام-، وبما عرض له في بداية حياته، وما وجده من بلايا ولاقاه.. فمن حجر والده وكنفه أخرج، وهو لا يزال في حاجة لأب يهتم به ويرعاه، وأُلقي في جُبّ وحيدًا بسبب كُرْه وبُغْض من إخوته، بدون ما ذنب أتاه، ويا لألم القلب عندما يُبغِض الأخ أخاه، بيع بثمن بخس رغم أنه نبي ابن نبي ابن نبي ابن خليل الله.
تربى في بيت لا يعرف فيه أحد، ولا يخرج منه أنانية ممن هو عندهم أن ينظر إليه غيرهم أو يراه، فُتِنَ في نفسه، فدعته من هو في بيتها لفعل الفحش فترفع عنه وأباه، ألقي في السجن مظلومًا دونما جرم جناه، لبث في السجن مدة ترهق المجرم، فكيف بمن هو محسن تقي نقي من أنبياء الله.. كل هذا وهو صابر محتسب واثق في فرج الله، وقد آتاه.
ولعلنا في موعظة تأتي إن لم يحل من حائل، نسرد ما منَّ الله به على نبيه يوسف -عليه السلام-، جزاء صبره على ما لاقاه.. ثم كثيرًا من سلام وصلاة على النبي المصطفى خير الدعاة.. ما قرَّ مخلوق بفعل أو نفاه؛ اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد....